علامة الموت بين الفقهاء والأطباء وحكم رفع أجهزة الإنعاش عن الميت دماغياً


 

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا المبحث يتضمن ثلاثة مسائل:

المسألة الأولى: علامة الوفاة عند الفقهاء في السابق.

المسألة الثانية: علامة الوفاة عند الأطباء في الوقت الحاضر.

المسألة الثالثة: حكم رفع أجهزة الإنعاش عن الميت دماغيا.

وهناك ارتباط بين المسألة الثانية والمسألة الثالثة لكن لا تلازم بينهما كما سيأتي إن شاء الله، فلكل واحد منهما حكم مستقل.

 

المسألة الأولى: علامة الموت عند الفقهاء.

أولا: حقيقة الموت في الأدلة الشرعية وعند الفقهاء.

الموت يطلق ويراد به الوفاة والمنية والمنون والأجل والسام وانقطاع الوتين، فوردت له تسميات عديدة.

وحقيقة الموت في الأدلة الشرعية وعند الفقهاءº (مفارقة الروح للبدن).

 

والروح قال الله - عز وجل - في شأنها: ((وَيَسأَلُونَكَ عَنِ الرٌّوحِ قُلِ الرٌّوحُ مِن أَمرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن العِلمِ إِلاَّ قَلِيلاً)) (الإسراء: 85).

فذهب بعض المفسرين: إلى أنه يتوقف في أمر الروح ولا بتكلم في شأنهاº لأن الله - عز وجل - قال: ((قُلِ الرٌّوحُ مِن أَمرِ رَبِّي)).

وذهب كثير من المفسرين والعلماء: إلى الكلام عن حقيقة الروح وأنها: جسم لطيف نوراني يشتبك بالبدن كاشتباك الماء بالعود الأخضر ويتخلل البدن كتخلل الماء للتراب والطين.

وقد دلت الأدلة الشرعية كما سلف أن الموت هو مفارقة الروح للبدن كما في قوله - تعالى -: ((فَنَفَخنَا فِيهَا مِن رٌّوحِنَا)) (الأنبياء: 91).

وقوله: ((فَنَفَخنَا فِيهِ مِن رٌّوحِنَا)) (التحريم: 12).

فالحياة حصلت بنفخ الروح فدل ذلك على أن الموت يحصل بمفارقة الروح للبدن.

وأما من السنة فحديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - المشهور الذي أخرجه أحمد في المسند وقد جمعه الدارقطني في كتاب مستقل. وابن القيم في كتابه الروح بسط القول على هذا الحديث سندا ومتنا، وفيه: ((أنهم خرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه الصحابة حول القبر حتى يُلحَد ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن قبض روح المؤمن فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها ملك الموت)).

فدل هذا على أن الروح جسم لأنه لا يقبض إلا الجسم وكذلك أيضا قوله: (تخرج تسيل) كل هذا يدل على أن الموت في الأدلة الشرعية وعند الفقهاء المراد به: مفارقة الروح للبدن، وكلمات الفقهاء تتوارد على ذلك فإنك إذا رجعت إلى كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة - رحمهم الله - تجد أنهم يعرفون الموت بأنه مفارقة الروح للبدن.

 

ثانيا: علامة الموت عند الفقهاء.

الفقهاء - رحمهم الله - بعد أن يقرروا حقيقة الموت يذكرون علامات الموت أي العلامات التي تدل على أن الروح قد فارق البدن، وهذه العلامات تواردت كلمات العلماء عليها ويذكرونها في كتاب الجنائز وهذه العلامات ليست قطعية لكنها من قبيل الأمور الظاهرة التي يستدلون بها على مفارقة الروح للبدن وتتلخص في تسع علامات وهي:

* توقف النفس.

* استرخاء القدمين بعد انتصابهما، وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن طبيبا كان واقفا عند بابه فمر عليه بجنازة يحملونها إلى المقبرة فسأل عن شأنها، فقيل له: إنهم يحملونها إلى المقبرة، فقال: إن هذا الشخص لم يمت، واستدل هذا الطبيب على ذلك بأن قدميه لا تزالان منتصبتين، فأرجع هذا الميت وفك من أكفانه فأفاق بإذن الله - عز وجل -.

* انفصال الكفين عن الذراعين، فإنها الآن متمسكة بالذراع لكن إذا مات الميت انفصل كفه عن ذراعه فينفصل زنده.

* ميل الأنف واعوجاجه.

* امتداد جلدة الوجه.

* انخساف صدغاه إلى الداخل.

* تقلص خصيتيه إلى الأعلى مع تدلي الجلدة.

* برودة البدن.

* إحداد البصر وهذا دل عليه حديث أم سلمة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الروح إذا قبض تبعه البصر)).

وفي حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصرº فإن البصر تتبع الروح وقولوا خيراº فإنه يؤمن على ما يقول أهل الميت)).

 

المسألة الثانية: علامة الموت عند الأطباء في الوقت الحاضر.

علامة الموت عند الأطباء في الوقت الحاضر هي «موت الدماغ»- كما سيأتي إن شاء الله بيان ذلك-

 

وأول من نبه على هذا مجموعة من الأطباء الفرنسيين عام 1959م حيث تكلموا عن موت الدماغ وأنه علامة من علامات الموت فيما أسمي بمرحلة ما بعد الإغماء، ثم بعد ذلك في جامعة هارفارد في أمريكا عام 1967م تكلموا في هذه المسألة ثم بعد ذلك في بريطانيا اجتمعت لجنة مكونة من الكليات الملكية ووضعت ضوابط لما يسمى بموت الدماغ.

 

أولاً: الأجزاء الرئيسية للدماغ وكيفية حدوث موت الدماغ.

يتكون الدماغ من ثلاثة أجزاء رئيسية:

1- المخ.

2- المخيخ.

3- جذع المخ.

وكل واحد من هذه الأجزاء له وظائف رئيسية إذا عرفناها استطعنا أن نعرف أي هذه الأجزاء الذي إذا مات يكون علامة على موت البدن كما هو عند الأطباء.

فالجزء الأول المخ: ووظيفته تتعلق بالتفكير والذاكرة والإحساس.

 

والجزء الثاني المخيخ: ووظيفته تتعلق بتوازن الجسم.

والجزء الثالث جذع المخ: وهو أهم هذه الأجزاء ووظائفه وظائف أساسية فوظائفه تتعلق بالتنفس والتحكم في القلب ونبضاته والتحكم بالدورة الدموية... إلخ.

 

فعند أكثر الأطباء يحصل الموت إذا أصيب جذع المخ فهذه علامة من علامات الموت عند الأطباء، وبعض الأطباء يخالف في ذلك.

فالمخ إذا أصيب لا يعني هذا حصول الموت لأن وظيفة المخ تتعلق بالذاكرة والإحساس والتفكير فيفوت عليه التفكير والإحساس وتفوت عليه الذاكرة فيحي كما يسميها الأطباء حياة جسدية نباتية، يتغذى ويتنفس وقلبه ينبض، ويمكث على هذه الحال سنوات، وقد وجد من المرضى من مكث عشر سنوات لأن جذع المخ الذي يتحكم في التنفس ونبضات القلب والدورة الدموية لا يزال حيا، لكنه فقد وعيه الكامل.

وكذلك المخيخ لو مات فإنه يفقد توازن الجسم ولا أثر له في موت الإنسان، فالأطباء يقولون: إذا مات المخ أو المخيخ أمكن للإنسان أن يحيى حياة غير عادية يعني حياة نباتية جسدية فيفقد وعيه الكامل لكنه لا يزال يتنفس وقلبه ينبض ويتغذى.

والغالب أن موت جذع المخ هو الذي موته يكون علامة على الوفاة عند الأطباء، والغالب أن موته أو إصابته تكون بسبب الحوادثº حوادث السيارات أو القطارات أو الطائرات وما يحصل فيها من الارتطامات والاصطدام الذي يحصل في هذا الجزء من الدماغ.

وكذلك من أسباب موت جذع المخº النزيف الداخلي.

 

ثانياً: علامات موت جذع المخ.

ولما كان إصابة جذع المخ عند أكثر الأطباء دليلا على موت الإنسان فإن الأطباء يذكرون لموت جذع المخ علامات منها:

* الإغماء الكامل.

* عدم الحركة.

* عدم التنفس وانقطاعه ولهذا يحتاج إلى أجهزة الإنعاش وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله-.

* عدم وجود أي انفعالات انعكاسية، كظهور آثار الحزن أو السرور.

* وهي من أهمها مع عدم التنفس عدم وجود نشاط كهربائي في رسم المخ بطريقة معروفة عند الأطباء، فالأطباء يرسمون المخ فقد يوجد عند هذا المصاب شيء من الرسم الكهربائي، قد يكون قويا وقد يكون ضعيفا وقد لا يوجد فإذا لم يوجد أي نشاط كهربائي عند رسم المخ بآلاتهم المعروفة فهذا مما يستدلون به على أن جذع المخ قد مات.

هذا بالنسبة لكلام الأطباء لكن يبقى كلام علماء الشريعة الفقهاء في الوقت الحاضر.

 

ثالثا: الحكم الشرعي للموت الدماغي وهل يعد موتا أم لا؟

كانت العلامات في السابق على نحو ما ذكرنا لكن لما ظهرت هذه العلامة وهي موت جذع المخ اختلف فيها الفقهاء، هل هي دليل على موت الإنسان أو أنه حتى الآن لم يمت؟ على قولين:

 

القول الأول: وقال به بعض الفقهاء والباحثين في الوقت الحاضر، قالوا: إنه إذا أثبت الأطباء أن جذع المخ قد مات بالعلامات التي سبق أن أشرنا إليها فإنه يحكم على هذا الشخص بأنه قد مات.

واستدلوا على ذلك فقالوا: إن الروح هي التي تسيطر على البدن عن طريق الدماغ فإذا مات أهم جزء في الدماغ وهو جذع المخ فقدت سيطرتها على البدن فتخرج منه ويقبضها ملك الموت.

 

القول الثاني: وهو قول أكثر الفقهاء المعاصرين والباحثين ومنهم فضيلة الشيخ بكر أبو زيد والشيخ عبد الله البسام - رحمه الله -، وكذلك أيضا فتوى وزارة الأوقاف الكويتية، قالوا: إن موت جذع المخ لا يعني الموت، فلا نحكم بأن هذا الشخص قد مات الآن ويترتب عليه أحكام الموت المعروفة من التوارث والإحداد وانتقال الملكية وبطلان الوكالة وما يتعلق بالوصايا... إلخ.

واستدلوا على ذلك بأدلة، منها: قاعدة: اليقين لا يزول بالشك، واليقين أن هذا الإنسان حي وموته مشكوك فيه، فقد وجدت وقائع يقرر فيها موت الدماغ ثم بعد ذلك تستمر الحياة.

ومنها: قالوا: إن الشرع يتطلع لإحياء النفوس وإنقاذها وأن أحكامه لا تبنى على الشك وخصوصا ما يتعلق بالأنفس.

ومنها: قالوا: إن من أصول الشريعة المحافظة على المصالح الضرورية التي اتفقت الشرائع على المحافظة عليها، ومن ذلك حفظ النفس.

ومنها: قالوا: إن تعطل الإحساس أو توقف النفس ونحو ذلك لا يدل على فقد الحياة.

 

الترجيح:

هذا القول الثاني هو الصواب فلا نحكم بموته.

لكن بقينا في المسألة الثالثة وهي رفع أجهزة الإنعاش عن هذا الشخص الذي مات جذع المخ عنده، فقد أصبح جثة هامدة ووضعت عليه أجهزة الإنعاش وقول أكثر الفقهاء أنه لا يحكم بموته، فهل يجوز رفع هذه الأجهزة عنه أو نقول يجب بقاء هذه الأجهزة عليه؟

 

المسألة الثالثة: حكم رفع أجهزة الإنعاش عن الميت دماغيا.

سبق أن ذكرنا أن من علامات إصابة جذع المخ توقف النفس وتوقف ضربات القلب أو حدوث ضعف فيها والإغماء الكامل وعدم الحركة وعدم وجود أي انفعالات انعكاسية وعدم وجود أي نشاط كهربائي في رسم المخ كما هو معروف عند الأطباء، فإذا حدثت هذه الأعراض فإن المصاب يُدخَل إلى ما يسمى بحجرة الإنعاش وتوضع عليه أجهزة الإنعاش.

فإذا أصيب الإنسان بصفة عامة وتوقف نفسه أو توقفت دقات قلبه بسبب إصابة في الدماغ أو اختناق أو غرق أو مواد سامة أو جلطة في القلب فإنه يدخل في غرفة الإنعاشº لإنعاش ما توقف من نفسه ودقات قلبه.

فهل يجوز رفع أجهزة الإنعاش عن هذا المريض إذا تحققنا موت جذع المخ عنده؟

أولا: ما هي آلات الإنعاش عند الأطباء؟

 

آلات الإنعاش عند الأطباء كالتالي:

* المنفسة: وهي عبارة عن جهاز يقوم بعمل الجهاز التنفسي بتحريك القفص الصدري فيحدث للمريض ما يسمى بالشهيق والزفير.

* مانع الذبذبات: وهو جهاز من أجهزة إنعاش القلب يقوم بإعطاء القلب صدمات كهربائية لإعادة ما ضعف من دقات القلب أو ما انقطع منها.

* جهاز منظم ضربات القلب: وهو من أجهزة إنعاش القلب يحتاج إليه حيثما تكون ضربات القلب بطيئة بحيث لا يصل الدم إلى الدماغ بكمية كافية، أو أن الدم بسبب بطئ ضربات القلب ينقطع عن الدماغ لمدة دقيقة أو ثوان.

* مجموعة العقاقير والأدوية: معروفة عند الأطباء.

ثانياً: ما حكم رفع أجهزة الإنعاش عن الميت دماغيا؟

إذا كان المريض عليه هذه الأجهزة وتوفرت علامات موت جذع المخ عنده فهل يجوز رفع هذه الأجهزة عنهº فإن تنفسه أصبح آليا وأصبحت نبضات القلب صناعية وليست حقيقة؟

 

اختلف الفقهاء في الوقت الحاضر في هذه المسألة على قولين:

القول الأول:

عدم الجواز، وهو اختيار الشيخ عبد العزيز ابن باز - رحمه الله تعالى -، فإنه لا يرى رفع الأجهزة عن هذا الشخص الذي ذكر الأطباء أن جذع المخ قد مات عنده.

ويستدل لهذا القول بما تقدم أن ذكرنا من الأدلة الدالة على حفظ النفس وأن الشريعة جاءت بحفظ الضروريات الخمس كما في قول الله - عز وجل -: ((ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)) (النساء: 29).

وقوله - سبحانه -: ((ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)) (الأنعام: 151).

 

القول الثاني:

جواز رفع هذه الأجهزة عن هذا الشخص الذي أصبح الآن يتنفس تنفسا آليا صناعياً لا حقيقة لتنفسه فأصبح كالجثة التي ينفخ فيها هذا الهواء.

وهذا هو قول أكثر الفقهاء المعاصرين.

واستدلوا على ذلك بأدلة منها: أن بقاء هذه الأجهزة على مثل هذا المريض لا حاجة إليه، لأن هذه الأجهزة أصبحت هي التي تعمل بالبدن.

وأيضاً: قالوا: هذه الآلات تطيل عليه ما يؤلمه من حالة النزع والاحتضار.

وأيضاً: قالوا: هذه الأجهزة تسبب زيادة تألم أقاربه وذويه، فتجدهم يتألمون لحاله ويحزنون لما صار إليه.

وأيضاً: قالوا: هذه الأجهزة وهذه الغرفة المجهزة وراءها تكاليف باهضة ولا طائل تحتها فتجد أنها تكون لأناس محدودين، فلو أنه أُتي بشخص آخر تُستنقذ حياته بحيث يكون وجوده في هذا المكان فيه فائدة. بخلاف هذا الشخص الذي مهما طال به الزمن فإنه لا فائدة من بقاء هذه الأجهزة عليه.

 

الترجيح:

هذا القول الثاني هو الأقرب لكن يشترط لذلك أن يقرر من يوثق بقوله أن حالة هذا المريض ميؤوس منها بسبب موت ما يسمى بجذع المخ فإن كان الطبيب شاكا في حاله أو حاله غير ميؤوس منها فإنه لا يجوز رفع الأجهزة عنه.

 

تنبيه:

في بلاد الخارج تجد أنهم يحكمون على هذا الشخص الذي مات جذع المخ عنده بأنه قد ماتº لأن هذا هو كلام الأطباء وهو علامة عند أكثر الأطباء على أنه مات فيحكمون بأنه مات ثم بعد ذلك يقومون بالسطو عليه، فيؤخذ قلبه وكبده وكليتيه...إلخ، ومثل هذا لا يجوز في الشريعة لأننا ذكرنا أن الصواب أن موت جذع المخ ليس موتا، وعليه لا يجوز التعرض له ما دامت أجهزة الإنعاش عليه حتى ولو كان جذع مخه ميتا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply