من أحكام الحرمة بالرضاع : زوجية المرضعة وأثرها على الحرمة بالرضاع


بسم الله الرحمن الرحيم 

 هل يشترط الفقهاء ضرورة أن يكون لبن الرضاع ناجماً عن وطء الزوجية وعن حمل وولادة أم لا؟ يدعونا هذا إلى الحديث عن بعض أحوال المرضعة التي سبق لها الزواج كالمطلقة والأيم، أو من هي في زوجية قائمة، لكنها صارت آيسة أو عجوزاً أو من الأصل عاقراً لم تنجب وبالرغم من ذلك ثار لها لبن فأرضعت به صغيراً، فهل ينشر هذا الرضاع الحرمة؟ وماذا لو كان لبن الرضاع ناجماً عن حمل وولادة بسبب الزنى أو من زوجة لاعنها زوجها فهل ينشر الحرمة أيضاً؟، وما أثر كل ذلك على الرجل المرتبط بالمرأة؟

 

من المعلوم: اتفاق الفقهاء على أن اللبن الذي يثوب لدى الزوجة بسبب حملها وولادتها ثم ترضع به صغيراً أنه ينشر الحرمة بينها وبينه وبين زوجها وبينه فيصير أباه من الرضاع، وأقاربهما أقاربه بالدرجة نفسها، وهذه هي الصورة الطبيعية التي تكون عليها المرضعة وإن كانت أغلب المذاهب الفقهية لم تنص صراحة على اشتراط كون المرضعة قد ثاب لها اللبن بسبب حمل وولادة في زوجية قائمة بدليل أن هذه المذاهب قد تحدثت في شروط كثيرة لصلاحية المرضعة للرضاع ونشر الحرمة بينها وبين الرضيع، فقالوا على سبيل المثال: ينبغي أن تكون في سن الحيض(1)، أو كونها تتحمل الوطء أو وطئت مثيلاتها دون نص مباشر، لضرورة أن تكون في زوجية، أو حملت وولدت فأتاها لبن الرضاع صحيحاً فهذا هو الوضع الطبيعي الذي يلحقه التطور بجسد المرأة ويحرك أجهزتها، لكن ليس هذا بأمر لازم فقد تضطرب هذه الحركة فيأتي المرأة اللبن في صدرها دون حمل أو قبل الولادة·

روى سحنون سؤال الإمام مالك الذي وجهه إليه أرأيت لو أن امرأة تزوجها رجل فحملت منه فأرضعت وهي حامل صبياً أيكون اللبن للفحل قال نعم (2)، وقد يكون ذلك قبل الحمل، وقبل الولادة فقد جاء في المدونة سئل الإمام مالك أرأيت الرجل يتزوج المرأة فترضع صبياً قبل أن تحمل ودرت له فأرضعته ولم تلد قط وهي تحت زوج أيكون اللبن للزوج أم لا؟، ومعنى ذلك أن المرأة قد ثاب لبنها قبل أن تحمل وقبل الولادة وكانت إجابة سحنون أنه للفحل(3) وقد يحدث العكس بالرغم من حملها ووضعها فيجف ضرعها لوليدها بإرادة الله فتضطر لتقديمه لمرضعة أخرى لتتم رضاعه·

 

صحيح إن الزوجية والمعاشرة لهما دور كبير في تهيئة المرأة في نزول اللبن منها، كما ورد عن الإمام مالك في مدونته أن الوطء يدر اللبن ويكون منه استنزاله، إلا أن ذلك على سبيل الغالب كما ذكرنا، لأن لبن الزوجية يكون مستمراً وكافياً للرضاع خلال الحولين بسبب الوطء والحمل والولادة، لكن هذا لا يمنع طروء الأحوال الأخرى من نزول لبن المرأة بصورة أقل في الكمية والزمن وهي في غير زوجية أو في زوجية، ولكنها لا تحمل ولا تلد·

 

وإذا كان الوضع الغالب للمرأة المرضعة أن تكون في زوجية وعقب حمل وولادة ليكون لبن الرضاع موفوراً لديها، وكافياً للاستمرار خلال حولي الرضاع، وهذا هو الطبيعي والمألوف، فليس معنى ذلك أنها في غير هذه الحالة لا يثور لها لبن، وقد تعددت نصوص الفقهاء في ضرب أمثلة على ذلك بينوا فيها أن المرأة قد ترضع وهي في غير حمل أو في فترة الحمل وقبل الولادة، صحيح أن ذلك يكون بكمية أقل وفي زمن محدود، ويرتبط ذلك برأي أهل الخبرة من الأطباء تفصيلاً(4)، فتلحق هذه الحالة بالحالة الغالبة في حكمها في نشرها للحرمة بالرضاع طالما توافرت باقي شروط الرضاع الأخرى·

 

وعلى الجانب الآخر فقد اشترط الإمام أحمد للتحريم بالرضاع ضرورة أن يكون لبن المرضعة قد ثاب للمرأة عن حمل لأن ذلك هو السبب الرئيس في تهيؤ المرأة للرضاع(5)، ومن هنا فإنه ينبغي لنا أن نتعرض لبعض الحالات التي يثور فيها لبن رضاع للمرأة وهي في حالات مختلفة بالنسبة للزوجية من عدمها، فقد تكون ثيباً سبق لها الزواج سواء أولدت أم لا، وقد تكون آيسة أي بلغت سن اليأس من الحيض وهي مع زوجها وسبق لها الحمل والولادة، وقد تكون مع زوجها ولكنها عاقر لم ترزق بالولد، كما قد تكون عجوزاً لا يتصور ولادتها سواء أكانت مع زوجها أم لم تتزوج وتلحق بالبكر الصغيرة، ويضم إلى هؤلاء الأرملة التي مات عنها زوجها وسبق لها الحمل والولادة منه، فكل هؤلاء لو ثار لهن لبن فأرضعن به صغيراً، فهل ينشر لبنهن الحرمة بينهن وبين الرضيع؟ وما حكم الزوج من هذه الحرمة رغم أنه لم يسبب اللبن بالحمل والولادة؟ هذا ما سنفصل رأي الفقهاء فيه في سلسلة التطبيقات التالية في العدد المقبل إن شاء الله·

 

الهوامش

1 ـ جاء في حاشية الشرقاوي ج2 ص 340، كونها أي المرضعة آدمية بلغت سن الحيض·

2 ـ جاء في المدونة الكبرى للإمام مالك ج2 ص289·

3 ـ المدونة الكبرى ج2 ص 290·

4 ـ راجع ص 53 وما بعدها·

5 ـ الشرح الكبير لابن قدامة ج9 ص 196·

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply