بسم الله الرحمن الرحيم
هنيئاً لتلك النفوس التي أحيت النهار بالصيام والليل بالقيام
لقد أفرغ ما في نفسه من طاقة، وبذل ما في وسعه من جهد، حاول مراراً وتكراراً أن يتغلب على هواه.. وجد لذلك مشقة كبيرة، لكنه نجح بحمد الله.. قابلته في طريقه عقبات، ونازعته فيه شهوات، وطاردته شكوك وشبهات، فاستعاذ منها بمولاه.. جاهد نفسه بالنهار فصام، وجاهدها بالليل فقام، وألجمها بلجام تقوى الله.. وظل سائراً في طريقه إلى منتهاه، حتى جاء يوم الجائزة بالفرحة وأتاه... وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: \"للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه\" (رواه مسلم).
ولم لا يفرح وقد منّ الله عليه بالهداية وبلغه رمضان، وأعانه على الصيام فأكمل عدته، وأتم الله عليه نعمته فمنحه الرحمة، وتفضل عليه بالمغفرة، ووعده بالعتق من النار؟! لم لا يفرح الصائم وقد أكرمه الله بأن حباه لساناً ناطقاً يلهج بذكره، وأمره بالتكبير شكراً وحمداً على هداه: ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون (البقرة: 185).
وهو مع ذلك الفرح يتقلب بين الخوف والرجاء.. خائف وجل قد وقف بباب مولاه طالباً منه القرب والقبول، والعفو والصفح عن أي تقصير، راجياً إياه أن يمنّ عليه بالعود الحميد لشهر الصيام، أعواماً عديدة ينهل فيها من بحر عطاياه، ويسكن قلبه بتقواه. روي عن علي - رضي الله عنه - أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: \"يا ليت شعري! من هذا المقبول فنهنيه؟ ومن هذا المحروم فنعزيه؟ \".
طويت صحائف الأعمال:
نعم أيها الصائم.. فلقد انقضت الأيام المباركات ببركتها، وطويت صحائف الأعمال على ما سطّر فيها، ووجب علينا الآن أن نختم عليها بخاتم الاستغفار، فهي أيام مضت وانقضت بانقضاء رمضان، ولن يعود يوم منها إلينا إلى يوم الدين، كما تنبئنا الأيام: يا بن آدم! أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنم مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
فهنيئاً لكل من صام وقام واتقى الله.. هنيئاً لكل من كانت التقوى رأس ماله، والأعمال الصالحة بضاعته، ورحمة الله ومغفرته ربح تجارته.. وهنيئاً لتلك النفوس المؤمنة التي اجتمعت في النهار على الصيام، وتراصّت بالليل كالبنيان المرصوص للقيام، وحققت أخوّتها بهذا الاجتماع فتحابّت في الله وتداعت من أجله.
لقد كان رمضان فرصة طيبة للعمل، وموسماً مناسباً للزرع، وأرضاً صالحة لكل بذر من بذور الخير والطاعة، وما أعظم الجائزة يوم الحصاد لمن دخل في السباق وجدّ واجتهد واستزاد.. ففرح بفطره كما فرح بصيامه، وفرح يوم لقاء ربه حين يوفى أجره ويرى ثواب عمله.
وتلك هي الجائزة التي لا يدركها إلا من صام رمضان، فهل نحن ممن يستحق الجائزة؟.. ليقف كل منا مع نفسه وقفة محاسبة وصدق وصراحة.. فإن وجد خيراً فليحمد الله - تعالى -، وإن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه، وليستغفر الله ويتدارك ما فاتº فلا يزال ينعم بنعمة الحياة.
ولا يظن ظانّ أن رمضان هو آخر المحطات، فربما كان أولها ومنه انطلق الكثير منا فكان نقطة الانطلاق بالنسبة لهم، قد وقفوا في محطته وتزودوا بالوقود اللازم لحياة قلوبهم، وعزموا على إصلاحها طيلة العام حتى لا تتوقف عن العطاء أو تموت، كما قال - تعالى -: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى (البقرة: 197)، وكما في الحديث القدسي: \"يا بن آدم! من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات، ومن خاف النار كف عن الشر، ومن نهى نفسه عن الشهوات نال الدرجات العلى.
يوم الجائزة:
ويأتي يوم الجائزة في الدنيا، متمثلة في يوم العيد \"عيد الفطر المبارك\" فنتزين فيه بالجديد كما تزينت نفوسنا وقلوبنا بلباس التقوى فأطاعت وصامت، فما على الله هانت، إذ منحها بجوده وكرمه هذا العيد. فيا من جدتم في رمضان فجاد الله عليكم بالخير الوفير.. يا من لبستم حلة الإيمان فلبستم للعيد الجديد.. يا من رضيتم بالله رباً فأرضاكم بالإسلام ديناً.. يا من صفت نفوسهم وشفت بالصيام فبعدت في عيدها عن اللهو الحرام، هنيئاً لكم جميعاً في يوم العيد.. يوم الجائزة.
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الله - سبحانه وتعالى - يقول لملائكته في هذا اليوم: \"ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ فيقولون: إلهنا وسيدنا.. جزاؤه أن يوفى أجره، فيقول - سبحانه -: أشهدكم أني قد جعلت ثوابهم لصيامهم وقيامهم رضائي ومغفرتي\".. ثم يقول - سبحانه - وقد نظر إلى جميع المصلين للعيد نظرة رحمة وحنان: \"سلوني يا عبادي.. فوعزتي.. لا تسألوني اليوم في جمعكم هذا لآخرتكم إلا أعطيتكم، ولا لدنياكم إلا نظرت لكم.. قد أرضيتموني فرضيت عنكم.. انصرفوا مغفوراً لكم\" (أخرجه البيهقي وابن حبان).
ألا فلتتصافح القلوب في العيد قبل أن تتصافح الأيدي، ولندخل الفرحة على قلوب أولادنا وأهلينا.. نصل أرحامنا ونحسن إلى المساكين والأرامل والأيتام، ولنروح عن نفوسنا ببعض اللهو الحلالº فإن في ديننا فسحة، وفرحنا في العيد عبادة، إلا أنه لا ينبغي أن يلهينا عن طاعة في وقتها، أو تأخير واجب، أو تسويف خير، فما هذا بحال من أثمر صومه في رمضان، وما هذا بشكر نعمة العيد.
وقد مرّ أحد الصالحين بقوم يلهون ويلغون يوم العيد فقال لهم: إن كنتم أحسنتم في رمضان فليس هذا شكر الإحسان، وإن كنتم أسأتم فما هكذا يفعل من أساء مع الرحمن.
ولنتذكر كل من أتى عليه هذا العيد من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وندعو لكل مستضعف محروم من إظهار تلك الفرحة في ظل أي ظروف تمنعه من الفرح في يوم العيد، ومن استطاع أن يدخل عليهم الفرحة فليفعل وأجره على الله، فديننا دين المحبة والرحمة والأخوة.
ماذا بعد رمضان؟
لا ينبغي أن تنقطع أعمال العباد التي كانوا يتقربون بها إلى الله في رمضان، من ذكر وصيام وتلاوة للقرآن وقيام، وحسن خلق وإتقان للعمل وصلة للأرحام، وغير ذلك من سائر الأعمال المقربة إلى الله - تعالى -، لأن عمل المؤمن لا ينقضي حتى يأتيه أجله.
قال الحسن: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، ثم قرأ: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين 99 (الحجر).
ومن ذاق حلاوة الطاعات ووجد لذة القرب، فلن يتحمل المعاصي أو الهجر، بل يتبع حسناته بأخوات لها وشبيهات، فما أحسن الحسنة حين تتبعها الحسنة، وما أقبح السيئات حين تأتي بعد الحسنات. لذا فاطلب من الله الثبات والاستمرار، واحذر أن تكون من عُبّاد رمضان! واغتنم مواسم الخير واعمل فيها قبل أن تعمل فيك السنون والأيام، ولا تنتظر أن تعمل حتى يأتي عليك شهر رمضان، فبئس القوم الذين لا يعرفون الله - تعالى - إلا في رمضان.
فابدأ من الآن وأتبع صيام رمضان بست من شوال.. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر\" (رواه مسلم).
ولنتذكر دائماً أن رمضان كان فرصة لنيل الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وليس انتهاء رمضان نهاية لعمل الصالحات، وإنما هو كالوقود الذي لا غنى عنه لتقوية أنفسنا وحملها على الطاعة والانقياد لله - تعالى - في سائر أوقات العام، وبذلك نعيش رمضان وإن لم نكن فيه!
إذا ما المرء صام عن الخطايا
فكل شهوره شهر الصيام
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد