بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، يتوفى الأنفس حين موتها، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بقدرته يتعاقب الجديدان، وتتكرر المواسم، وتطوى الأيام والليالي، وتفنى أمم وشعوب، وتنشأ أمم وشعوب أخرى، وما يعقل ذلك إلا العالمون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أزكى البشرية وأبرها وأسبقها إلى الخيرات، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعلى الآل والأصحاب الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين فشهر الصيام موسم للبر والتقوى، قال - تعالى - {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [هود: 114].
إخوة الإيمان: حل الضيف الكريم المنتظر، ومتع الله من شاء من عباده حتى بلغ شهر الصيام، وطويت صحائف أقوام، فغيبتهم اللحود، واخترمتهم المنايا قبل حلول هذا الشهر الكريم، ولن تزال المنايا تخترم النفوس، وقد قضى الله على أقوام استكمال هذا الشهر وقضى على آخرين بالموت قبل بلوغ الشهر أجله، ولكل أجل كتاب، ومن أدركه هذا العام وإذا كانت تلك جزء من أقدار الله وتدبيره في العبيد فالمغبون حقا من يدخل عليه الشهر ويخرج ولم يستفد شيئا، ألا وكلنا ذاك المخطئ الذي يرجو مغفرة ربه وتكفير سيئاته، ورمضان فرصة لتكفير السيئات، ويجد المرء فيه من العون مالا يجده في الأشهر الأخرى، ففرص الطاعة تتوفر، وأبواب الجنة تفتح، ودواعي الشر تضيق، وأبواب النار تغلق، به تنشرح صدور المؤمنين، وبه تصفد مردة الشياطين، فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره من الشهور، وهذه وتلك تعين المرء على تكفير سيئاته وتدفعه إلى عمل الصالحات التي بها يكفر الله السيئات، قال - تعالى -: {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود: 144] ومحروم من أدركه رمضان فلم يغفر له، فأي خسارة أعظم من أن يدخل المرء فيمن عناهم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بحديثه على منبره في مساءلة بينه وبين جبريل - عليه السلام -، وقد جاء فيها: \"من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين\".
وإذا كان الله يدعو عباده إلى التوبة النصوح الصادقة في كل زمان، ويقول - جل ذكره -: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا} ويقول - تعالى -: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}. فإن التوبة في رمضان أحرى وأولى، فهو شهر تسكب فيه العبرات، وتقال فيه
العثرات، ويحصل به العتق من النار، ومن منا لا يتلبس بخطأ هو أدرى به من غيره، ومن منا لا يصر على معصيته كبرت أو صغرت..أو ليس حريا بنا في رمضان أن نتخفف من الأوزار، ونقلع عن المعاصي والموبقات فيستشعر لذة رمضان ونحس بأثره في نفوسنا وسلوكياتنا، ولا يكن رمضان وغيره سواء.
إن رمضان فرصة لمحاسبة النفس، وينبغي أن يكون رمضان مذكرا لنا بما اقترفنا طيلة العام فما وجدنا من خير حمدنا الله وازددنا، وما وجدنا عملنا فيه من سوء تبنا إلى الله واستغفرنا وتصدقنا، وأكثرنا من عمل الصالحات حتى تعفوا على السيئات، ووعدنا أنفسنا ألا تتكرر أخطاؤنا، وألا نرخي العنان لشهواتنا، فإذا حافظنا على ذلك وحافظنا قبله على الصلوات الخمس، والجمعة والجماعة، كنا ممن فقه قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - \"الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر \"([1]).
ومن دواعي التوبة في رمضان الصبر، فالصوم كما جاء في الحديث \"نصف الصبر\" ([2])
والصوم يربي النفس على الصبر وتحمل المشاق، وإذا كان الصائم يصبر نفسه عن ما أحل الله له من الطعام والشراب والمنكح، فلا شك أن صبره عن ما حرم الله عليه من باب أولى. وهكذا يخرج المسلم من شهر الصيام وقد تدرب على الصبر، وانتهى في حسبانه أي شيء كان يظنه مستحيلا، أو ليس المدمن على التدخين مثلا كان لا يطيق الصبر عنه بضع سويعات فإذا به في شهر الصيام يصبر عنه الساعات الطوال.. أو ليس في ذلك فرصة للإقلاع منه والخلاص من أسره بدءا من شهر الصيام.. وهكذا فكل من فتن بشيء محرم وصبر نفسه عنه في شهر الصيام فجدير به أن يقلع عنه ويتوب إلى مولاه، وهذا من المستفيدين حقا من حكم الصيام ومثله يفقه حقيقة التقوى في الصيام، كما قال - تعالى -{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.
وينبغي أن يترفع الإنسان المكرم بصبره عن صبر البهائم التي تأكل حين تجد المرعى، وتصوم إجبارا حين يعز المرعى، فما بالله حاجة أن يدع الإنسان طعامه وشرابه دون جدوى، لكنه السر العظيم يراد للإنسان أن يدركه فيشكر ربه على أن هيئ له ما يأكل منه ويشرب، وقد حرم منه آخرون، ويتوب إلى بارئه ويستغفره ويعبده حق عبادته.
وفي شهر الصيام دعوة للصائم لا ترد، كما قال - عليه الصلاة والسلام -: \" ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم\"([3]).
وليحرص المسلم على الدعاء عند الإفطار، فللصائم عند فطره دعوة لا ترد، كما صح بذلك الحديث ([4]).
كما يحرص على الاستغفار بالأسحار قال - تعالى -: {والمستغفرين بالأسحار}ولا يخص أن حضور القلب والإلحاح في الدعاء والبدء بحمد الله والثناء عليه، والختم بالصلاة والسلام على نبيه - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك من آداب الدعاء.. وهل غاب عن ذهنك أيها المقصر أن الله - تعالى -يغفر الذنوب جميعا مع التوبة وصدق التوجه، وأن لله - تعالى -نفحات في رمضان حري بك أن تستفيد منها، فقد روى الإمام أحمد - رحمه الله - في مسنده بسند صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"إن لله عتقاء في كل يوم وليلة، لكل عبد منهم دعوة مستجابة\".
وفي الحديث الآخر عن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"لله عند كل فطر عتقاء\"
فتذكر ذلك جيدا يا أخا الإسلام وادع الله بالتوبة النصوح، واسأله من خيري الدنيا والآخرة، وأرجه أن تكون من عتقائه من النار. وإنه لفرق بين من يتصور هذه المعاني وهو عند لحظات الإفطار، وبين من هو غافل شارد، لا يقطع حديثه المعتاد إلا سماع الأذان، وربما كان الكلام في محرم، فكانت الخسارة أعظم، فاستفيدوا من الصيام يا معاشر الصوام، وانتبهوا للحظات قبول الدعاء فهي حرية بالاهتمام.
إخوة الإيمان.. وثمة أمر يدعو إلى التوبة في كل حال، وهو في رمضان أحرى وأولى، ألا وهو كثرة الذكر وكثرة الصدقة، فكثرة الذكر تشرح الصدور تطمئن بها القلوب، وتصبح النفوس متهيأة للتوبة {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} والذكر طارد للشيطان جالب لملائكة الرحمن، هذا فضلا عما في الذكر من تكفير الخطايا والذنوب وقد صح في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - \"من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر\"([5])
أما الصدقة فهي برهان على الرغبة في الخير، ولاسيما صدقة السر، التي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأنها \"صدقة السر تطفئ غضب الرب\" ([6]). والصدقة- بشكل عام- تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.. كما ثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ([7]).
وإذا كانت الصدقة – الأخرى - مستحبة في كل زمان، فلها في شهر الصيام مزية على سائر العام، وقد كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، وقال الإمام الشافعي - رحمه الله - ((أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم ([8]).
وهكذا يكون الذكر وتكون الصدقة من أسباب التوبة وتكفير السيئات، ولا تبقي الخطيئة في حس المسلم عقدة تقعد به عن المغفرة كحال أصحاب العقائد الفاسدة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربو بيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله الأطهار وارض اللهم عن الصحابة الأخيار، وعن التابعين بإحسان ما تجدد الليل والنهار وتلاحقت المواسم والأعوام.
أيها الصائمون فمن دواعي التوبة في شهر رمضان كثرة تلاوة القرآن، من أسباب التوبة في رمضان لاشك أن تلاوة القرآن مستحبة في كل زمان، ولاشك أن للقرآن أثره على قارئه في كل حال، كيف لا وهو الكتاب العظيم المعجز الذي حكى الله أثره على صم الجبال لو أنزل عليها {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} وتبقى القلوب التي لا تلين أو تتأثر بالقرآن {كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منهما لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما هبط من خشية الله وما الله بغافل تعملون}[البقرة: 74].
وللقرآن في رمضان مزية خاصة، ففيه أنزل، وبه كان جبريل - عليه السلام - يلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ([9]) وبه تزدان المساجد في رمضان تلاوة وصلاة، وخشوعا، وبه يتهيء لكثير من الناس القراءة أكثر من غيره، وإن كان حريا بالمسلم أن يداوم على قراءة القرآن في رمضان أو غير رمضان، لكن فضل الزمان يدعو إلى كثرة التلاوة والتدبر للقرآن، وفي رمضان يجتمع الصيام مع تلاوة القرآن فيكون أسمى للروح وأخف للجوارح لعدم امتلاء البطن في الطعام.
وقارئ القرآن بتدبر وتمعن لابد أن ينتهي إلى التوبة، ولابد أن يعود إلى ربه ويستغفره من ذنوبه لعدة دواع منها: أنه يقرأ ما أعده الله للمتقين من النعيم والحبور الدائم مما تطرب له النفوس وتتعلق به القلوب، ويزداد شوقه إذا قرأ أن في ذلك النعيم مالا يستوعبه الخيال أو تحيط به العيون والأسماع {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم لن قرة أعن جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17].
ولا يكاد ينتهي من الأنس والشوق حتى تمر به المشاهد المغيبة للكافرين والفجار مما لا تطيق بعض النفوس سماع وعده ووعيده فضلا على أن تصبر على شدة العذاب أو تطيق أن تكون من أهل النار والعياذ بالله وبين هذه المشاهد وتلك تأتي الدعوة الإلهية للتوبة فضلا من الله وإحسانا وإلا فربك الغني القهار، وجهنم لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، وحين يقال لها: هل امتلأت؟ تجيب: \"من مزيد؟..
وقارىء القرآن يستشعر التوبة لأنه يقرأ أخبار وقصص التائبين وفي مقدمتهم
آدم - عليه السلام -، فلم تقعد به الخطيئة عن التوبة والإستغفار، ولم يتجبر أو يتكبر كحال إبليس الذي كان مصيره إلى النار وبئس القرار، ويستشعر من هذا أن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، فيتأمل في نفسه ويعقد العزم على التوبة، ويكون هذا الشهر بداية عتقه من النار، ويكون القرآن دليله إلى النجاة، وقاربه إلى بر الأمان.
بل إن قارئ القرآن يجول بطرفه ويسرح بفكره في أحوال الأمم الغابرة بين الطاعة والعصيان، وبين الرجوع إلى الله والجبروت والطغيان.. ويهديه القرآن إلى نهاية هؤلاء وأولئك، ويبصره كيف كانت العاقبة ولمن كانت النهاية في كل حال، فيدعوه ذلك إلى أن يكون من حزب الله المفلحين، وينأى بنفسه أن يكون ممن أخذهم الله بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون.
إخوة لإيمان: وقارئ القرآن لا يخدعه عن التوبة طول الأمل أو نضرة الشباب، أو توفر النعم فيسوف في التوبة حتى تقترب النهاية وتكون المفاجأة {وليست التوبة للذين يعملون ا السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء: 18].
ويهدي القرآن أصحابه كيف يتوبون وكيف يستغفرون {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} [آل عمران: 135-136].
أيها المسلمون توبوا إلى ربكم واستغفروه، واستفيدوا من تلاوة القرآن وشهر الصيام، ولا تتعاظموا على الله ذنبا، فقد أذن لأهل الكفر بالمغفرة إن هم تابوا وانتهوا {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38].
ودعا أهل التثليث وقتلة الأنبياء- عليهم السلام - إلى التوبة فقال {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم}[المائدة: 74].
وفي الحديث جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله
أحدنا يذنب، قال \"يكتب عليه \"، قال: ثم يستغفر منه، قال: \"يغفر له وتاب عليه قال: فيعود فيذنب، قال: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب قال: يغفر له ويتاب عليه، ولا يمل الله حتى تملوا\" ([10]).
وقيل للحسن - يرحمه الله -: ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه، ثم
يعود ثم يستغفر ثم يعود فقال: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذا فلا تملوا من الاستغفار ([11]).
ومع التوبة والاستغفار تجنبوا الموبقات، وأكثروا من الطاعات، عسى ربكم أن يرحمكم ويغفر لكم- إن في ذلك لذكرى لمن عقل شهر الصيام، وأدرك ما فيه والقرآن من أسرار ودعوة إلى الخير والإيمان، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.
----------------------------------------
(1) رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه وفي إسناده موسى بن عبيدة، متفق على ضعفه، رمضان مدرسة الأجيال، ناصر العمر ص30
(1) رواه الترمذي وابن ماجه وهو حديث حسن، عبدالله الفوزان، أحاديث الصيام ص97
(1) المرجع السابق ص97.
(1) رواه أحمد وصحح إسناده المنذري والألباني، الصيام ص89
(1) الأذكار للنووي ص12، 13
(2) صحيح الجامع 3/240
(3) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، الفوزان ص68
(1) معرفة السنن والآثار للبيهقي عن أحاديث الصيام للفوزان ص69
(1) متفق عليه، البخاري 1/30، مسلم 2308.
(1) أخرجه الحاكم، توجيهات وذكرى 2/ 249
(1) السابق 1/ 250.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد