بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً..
إخوة الإسلام: ولا زالت سحائب الخير تُضللنا في رمضان، ومن ذا الذي ينكرُ ما لشهرِ رمضان من فضائل ومزايا حَريةٌ بالوقفةِ والبيان.
وفي المقابل ألا يوجدُ في حياتنا تناقضاتٌ ربما تظهر أكثر في رمضان، وهذه كذلك حريةٌ بالوقفة والبيان.
أيها المسلمون: نسائمُ رمضان أكثرُ من أن تُحصى في القديم والحديث، وعلى الفرد والمجتمع والأمة، ولكن دعونا نخاطبُ أنفسنا، ونتلمسُ شيئاً من نسمات رمضان وفضائله في واقعنا، أليست الفرحة والبشرى عمَّت الصغير والكبير، والذكر والأنثى بحلولِ شهر رمضان؟ وتلك علامة خيرٍ,، والله يقول: ((قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ)) (يونس: 58).
أليس سوقُ المراقبة لله يروج ويشتدٌّ في رمضان، والصائمُ يمتنع عما أحل الله له، ولا رقيب عليه في ذلك إلا الله، والصائمون يضربون في ذلك أروع الأمثلة حتى عاد ذلك ديدناً للصغير والكبير، والمسافر والمقيم، والصحيح والسقيم، إلا من عُذر بالإفطار فتلك رخصةٌ من رخُص الله ((وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ,)) (الحج: 78).
إن مساجدنا تُعمر بالمصلين أكثر في رمضان، وقد يعود فيها شاردٌ إلى ربه، وقد يألف المسجد على الدوام من كان هاجراً له في بعض الزمان.
وإن بيوتنا أضحت موئلاً للملائكةِ لكثرة ما يُتلى فيها من القرآن، أو زيادة النوافل في رمضان، ولربما بات البعضُ منها موئلاً للشياطين حيناً من الدهر لكثرة الصور، أو لتعالي أصوات الغِناء، أو لقلة الذكر وكثرة الغفلة فيها.
أيها الصائمون: ألستم تجدون في أنفسكم لذَّة الصيام وإن مُنعتم الشهوات؟ إنها المجاهدة على الطاعة ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا)) (العنكبوت: من الآية69).
أولستم تخافون الله وتطيعونه حين تتقربون إليه بالصيام؟ فأبشروا بالعوض والله يقول: ((وَلِمَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)) (الرحمن: 46)، ويقول: ((وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى)) (النازعـات: 40-41).
العمرة في رمضان تعدل حجة، والريان بابٌ خاص بالصائمين في الجنة.
أولستم تفرحون عند الإفطار في الدنيا؟ فلَفرحتكم حين تلقون ربَّكم في الآخرة أشدٌّ وأبقى ((لِلصَّائِمِ فَرحَتَانِ: فَرحَةٌ حِينَ يُفطِرُ، وَفَرحَةٌ حِينَ يَلقَى رَبَّهُ)).
يا معاشر المسلمين: كيف يجهل أحدٌ منكم نسماتِ رمضان وخيرية شهر رمضان؟ والدعواتُ تنطلقُ من أفواه الصائمين وقلوبهم فتعتلجُ في السماء، فتردٌّ قضاءً، أو تحققُ مطلباً، أو تكفٌّ سوءاً، أو تصلحُ فاسداً، أو تنصرُ مظلوماً، أو تشفي مريضاً، أو تغني فقيراً، أو تفكٌّ أسيراً، أو تنكأ عدُوَّاً.
إن للصائم دعوةً لا ترد لاسيما عند فطره، وللمسلم دعوةٌ لا ترد لاسيما في الهزيع الأخير من الليل، وبين الأذان والإقامة، وفي حال السجود، وآخر ساعةٍ, من الجمعة... إلى غير ذلك من مواطن إجابة الدعاء، فألحوا على الله بالدعاء، واستجيبوا لأمره، وآمنوا به، فتلك بوابةُ الدعاء، وعلامة الرشد ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَستَجِيبُوا لِي وَليُؤمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ))(البقرة: 186).
قال المفسرون: فليستجيبوا لي إذا دعوتُهم للإيمان والطاعة، كما أني أُجيبهُم إذا دعوني لحوائجهم (تفسير النسفي 1/95).
وأمرٌ آخرُ لابد من التَّفَطٌّنِ له حين الدعاء ألا وهو: إن إجابة الدعاء وعدُ صِدقٍ, من الله لا خُلف فيه، لكن إجابةَ الدعوة تُخالفُ قضاءَ الحاجة، فإجابةُ الدعوة أن يقول العبدُ: يا ربِّ، فيقول الله: لبيك عبدي، وهذا أمرٌ موعود موجودٌ لكل مؤمن، وقضاءُ الحاجة إعطاءُ المراد، وهذا قد يكون ناجزاً، وقد يكون بعد مدةٍ,، وقد يكون في الآخرة، وقد تكون الخيرةُ له في غيره (تفسير النسفي 1/95).
أيها الصائمون: وهل يجهل أحدٌ أثر الصيام في وحدة الأمة وتآلفها وانقيادها، أجل إنهم جميعاً يلزمون حين طلوع الفجر ثم يُتمّون صومهم إلى الليل، يستوي في ذلك الكبير والصغير، والغني والفقير، والأميرُ والمأمور، والذكرُ والأنثى، والعربي والأعجمي.
وكم تتجلى هذه الوحدة في تجمعات المسلمين الكبرى كالحرمين الشريفين والمسلمون من مختلف البلاد والأعراق واللغات والألوان يجلسُ بعضهم إلى بعض، وكلٌّهم ممسكٌ عن الطعام والشراب، حتى إذا ارتفعُ صوتُ المؤذن مُشعراً بحلول الليل أفطر الصائمون، إنها لونٌ من ألوان وحدة الأمةِ وترابطها، يُذكرنا بها شهر رمضان، وتتجدد مع كل سحور وإفطارٍ, في رمضان، ويُدعى لها المسلمون على الدوام.
أيها المسلمون: ولئن نسينا فما نَسي الفقراءُ والمحتاجون والأراملُ والأيامى واليتامى والمنكوبون والمشردون وأصحابُ الحوائج الأخرى، ما نسي هؤلاء وأولئك أعطياتنا في رمضان، نعم إن أيدي الإحسان تمتدُ أكثر في رمضان والصدقاتُ والزكواتُ يروج سوقها أكثر في رمضان، كم ينتظر الفضل من محروم - في شهر رمضان - وكم تُسدد من ديون تثقل الكواهل وتجلب الهمَّ والغمَّ في شهر الصيام، كم تُكفكفُ من دموعٍ, في شهر الإحسان، وكم يشعر بالأمان إخوانٌ لنا عاشوا فترةً من النسيان والحرمان، حتى إذا حلَّ شهرُ الصيام ذكرناهم فأعطيناهم وآويناهم فابتهجوا وتقشعت عنهم سحبُ الكآبة، ولسان حالهم يقول:
وعسى أن يكون في شهر رمضـان فرصةٌ للذكرى والوصال على الدوام حتى تتغير الحال وتقضى الحوائج ويُنتصر للمظلوم ويُردٌّ الصائل، وينكفيء الغشوم.
إخوة الإيمان: ولا تكادُ تُخطئ العين أثر الصيام في تهذيب النفوسِ على البر، وفطامها عن رديُ القول وسماعِ الزور، أوَليس الصائم الموفق يجاهدُ نفسه على حسن التعامل مع الآخرين حتى وإن سابَّهُ أحدٌ وقاتله ردَّ عليه: ((إِنِّي امرؤ صَائِمٌ)).
هل رأيتم صائماً - يحترم صومه- يسمعُ أو ينظر للحرام، إن سوق الغناءِ والخنا، والكذب والغشّ والخداع ونحوها من منكرات الأقوال والأعمال، يضعف في رمضان، أوليس تلك نسمةً عظمى من نسمات رمضان؟ حتى وإن تخلف نفرُ عن ركب الإيمان، بل إن الصائم يُعطي نفسه حظهّا من البر والإحسان والذكر والدعاء وتلاوة القرآن، والمكث في المساجد، وهذه وتلك حَريةٌ بأن تكون ديدناً للمسلم في شوال وشعبان وسائر الشهور والأيام.
إنها فضائل ومزايا لابد أن نتبينها ونستزيد منها، ونشكر الله عليها، ولابد أن نربي أنفسنا ونجاهدها على الصبر والمداومة عليها فتلك قيمة الصيام، وتلك مدرسة رمضان ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ)) (البقرة: 183).
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون: ومع ما في الصوم من تهذيب، وما لرمضان من مزايا إلا أنه يُوجِدُ فينا معاشر المسلمين خللٌ، ولدينا تناقضاتٌ، ما أحرانا أن نتنبه لها وأن نستفيد من مدرسة الصوم.
أليس فينا من يجادل ويخاصمُ - حتى في رمضان - وهو جدلٌ لا لجلب مصلحة ولا لدرء مفسدة؟ لكنه لدد وخصومة وإظهارٌ للقوة، والتشفي من الآخرين، أفلا نربي أنفسنا على ترك الخصومة والجدل في شهر يُقال لنا فيه: ((وإذا كَانَ صَومُ أَحدكم فَلاَ يَرفُث وَلاَ يَجهَل)) (متفق عليه).
وفي رواية: ((فَلاَ يَرفُث وَلاَ يُجَادِل)) (لسعيد بن منصور، انظر: محمد الحمد، رمضان، دروس وعبر 27).
قال ابن عباس - رضي الله عنه -: كفى بك ظلماً ألا تزال مخاصماً، وكفى بك إثماً ألا تزال مماريا.
وقال الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل.
وإذا كان ثمَّ خلاف حول أمر ما فلتقم فينا روحُ الإنصاف، ولنعوِّد أنفسنا على العدلِ مع غيرنا، فذلك أقربُ للتقوى، وأنفى للوحشة والبغضاء.
أيها الصائمون: وثمة تناقض صارخ، وذلك حين ينام بعض الصائمين عن الصلاة المكتوبة، ويتكرر هذا بشكل يفقد الصائم تقوى الصيام، إن الطاعة ينبغي أن تقود إلى طاعة أخرى، ورمضان فرصةٌ للكسالى والمقصرين في أمر الصلاة ليراجعوا أنفسهم، فإذا وجد التراخي والكسلُ عن الصلاة في شهر الصيام، فذلك خلل في الصيام، وتناقض في سلوكيات الصائم عليه أن ينتهِ ويُسارعَ بالعلاج.
عباد الله: أليس الغشٌّ والفحش والكذبُ والزور والغيبة والنميمة والتعدي على حقوق الآخرين محرماً على المسلم على الدوام؟ لكن ما رأيكم في مَن يمارس هذا حتى وهو صائم؟ أليس هذا تناقضاً مع حقيقة الصيام، وخروجاً عن سمت الصائمين؟ ((ومن لم يدع الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)).
أما التعامل بالربا، وأكلُ أموال الناس بالباطل، فذلك محرم في شريعة الإسلام على الدوام، ولكن ممارسته في رمضان تَعدٍ, على حرمة الصيام، وانتهاكٌ لقدسية رمضان، وهو تناقضٌ بين العبودية لله والعبودية لغيره.
أما الذين يعكفون سحابة النهار على تلاوة القرآن، فإذا جنَّ عليهم الليل رأيت منهم عكوفاً مُناقضاً على مشاهدة القنوات الهابطة، أو متابعة للمواقع المشبوهة في الإنترنت، فأولئك حريون بتدبرِ ما قرءوا من القرآن، وأولئك خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم، وأن يفتح عليهم ليعلموا أن صيام النهار جُنةٌ عن آثام الليل، وأن سماع الغناء أو مشاهدة الخنا، لا يجتمعان مع سماع القرآن وتقدير شهر رمضان.
أيها الصائمون: أما رسائل الجوال وصورُه فكم هي مؤشرات على السَّفه حين تحمل عباراتٍ, يستحي العقلاءُ من ذكرها، أو صوراً لا يليق نشرها، وحين تمارس هذه الرسائل والصورُ الهابطة في شهر رمضان فما فَقِه أولئك فقهَ الصيام، وأين هم من حكمة الصيام وقدسية رمضان؟
عباد الله: ألا نشعر جميعاً بالإسراف في تناول الكثير من الأطعمة في رمضان، أليس في الصوم تربية على الصبر والجوع والاقتصاد في المطعم والمشرب، ومحاربةٌ للتخمة، وموازنة مشروعة لأثلاث الطعام والشراب والنفس، لكنا حين نسرف في الفطر ونعوّض ما فات في الصوم، فما استفدنا كثيراً من حكمة الصوم.
أيها المدخنون: كان الله في عونكم على ترك التدخين، ورمضان فرصةُ مهمة لكم للإقلاع عن هذا الداء المستشري، ألا تشعرون بشيءٍ, من التناقض وأنتم تصومون النهار عما أحل الله لكم طاعة لله وقربةً له، فإذا كان الليلُ أفطرتم على الحرام، وربما عوّضتم ما فاتكم من النهار، إنها طاعة ومعصية، واستجابة لله في النهار لكنها استجابة للهوى وانهزامٌ أمام الشهوة في الليل، أين ذهبت قوةُ إرادتكم في النهار فهلا واصلتموها في الليل؟ إن القرار قد يبدو عند بعضكم صعبٌ، ولكن ذلك من تخويف الشيطان، وإلا فقافلة المقلعين عن التدخين سائرة، وأنت لست أضعف ممن ترك وأقلع، ولكنك محتاجٌ إلى الجرأة والصبر قليلاً، والعاقبةُ حميدة، والخطوة موفقة، فاستعن بالله ولا تعجز، وقل لنفسك: هذا أوان التوبة، ومهلتك الأخيرة شهرُ رمضان، وستجد من ربك عوناً ومن أقاربك مشجعاً، ومن مجتمعك مثنياً ومباركاً، ولك أن تتصور فرحتنا بك مقلعاً تائباً، ومن حقك بل ومن حقِّ كل مبتلى أن ندعو وأن نُؤمن على الدعاء، اللهم عافِ كلَّ مبتلى بسوء، اللهم أبدل سيئاتهم حسنات، اللهم ثبتهم على الحقِّ إلى لقياك.
عباد الله كلَّنا يُدعى إلى التوبة النصوح، وكلنا مطالبٌ بالتغيير للأحسن، وكلنا يكره التناقض، فلنجعل من رمضان فرصةً للمراجعة والمحاسبة والتوبة والإنابة، ففي الشهر عونٌ على الطاعة وفرصٌ لا تعوض، ومكاسبٌ جلية للدنيا والآخرة، ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه، وغداً يكشف الستار ويتبين من تأخر ومن فاز وحينها لا ينفع الندم، ولا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل.
اللهم أعِنَّا على ذكرك وعلى شكرك وحسن عبادتك، واجعلنا من السابقين للخيرات، الفائزين بالجنات، اللهم اعصمنا من الزلل واحفظنا من الفتن، اللهم أفء من بركات هذا الشهر على المسلمين كافة، وعلى المظلومين والمشردين والُمحاصرين خاصة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد