بسم الله الرحمن الرحيم
لا يختص الفقه المعاصر بكونه صنعةً، إذ قد استحالت العلوم الشرعية كلها صناعات كما ذكر ابن خلدون في مقدمته، وذلك أن الناس في صدر الإسلام كانوا ذوي قرائح نقية، يسهل عليهم اقتراء الدليل وتعقله، واستنباط أحكام الوقائع من مجموع الأدلة وآحادها، فلم يكونوا بحاجةٍ, إلى تدوين قواعد اللغة والأصول والفقه، وغيرها مما يسمى بعلوم الآلة، إذ كان الواحد منهم فقيهاً مطبوعاً، يعني أنه فقيه بالملَكَة، أو هو ذو ملَكَةٍ, فقهية فطرية.
حتى إذا ما اتسعت رقعة الإسلام، بدخول الناس ـ عرباً وعجَماً ـ فيه أفواجاً، واستعجمت ألسنة القوم باختلاط بعضهم ببعض، واستغلق عليهم كثيرٌ من الفقه، نفرَ طائفةٌ من أهل كل فن إلى تدوين أصوله وقواعده، ضبطاً لأحكامه، ونفياً لما قد يتطرق إليه من خللٍ, خارجٍ, عن متنه، ومما يشهد لهذا الاستغلاق الذي أشرتُ إليه ما قاله الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - : \" كان الفقه قفلاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعي\"، ثمّ مِن بعدُ قال الإمام البخاري في فاتحة جزئه في رفع اليدين في الصلاة [17]: \"الرد على من أنكر رفع الأيدي في الصلاة عند الركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وأبهم على العجَم في ذلك، تكلفاً لما لا يعنيه، فيما ثبت عن رسول الله من فعله وقوله\" اهـ.
ولذا فلا غرو أن نجد أهل العلم يصفون الفقه بالصناعة، وشواهد هذا كثيرة.
وثمة فرقٌ بين فعلي \"صنَعَ\" و\"فعَلَ\"، فالفعل لفظٌ عامُّ، يقال لِما كان بإجادةٍ,، وبدونها، ولِمَا كان من الإنسان والحيوان والجماد، وأما الصنع فإنه يكون من الإنسان، دون غيره من الحيوانات والجمادات، ولا يقال إلا لما كان بإجادة، ولهذا يقال للحاذق المجيد، والحاذقة المجيدة: صنَعٌ وصَنَاعٌ، وعليه فالصٌّنعُ أخص وأشرف من مطلق الفعل، ويتبدَّى من ذلك أن في الصنع معنى الإبداع، والصَّنَع والصَّنَاع يطلقان على المتقن المبدع، قال حسان بن ثابت - رضي الله عنه-:
أهدي لهم مدحي قلبٌ يؤازرُهُ*** فيما أحب لسانٌ حائكٌ صَنَعُ
وإذ قد ثبت أن الفقه صناعةٌ، لها قواعدها كسائر الصناعات، فإن من القوادح المفسدة لكل صنعة عدم تحرير قواعدها لدى أهلها، أو تجاوز الصانع لتلك القواعد، أو عدم حضور تلك القواعد في نتاجها، وكلما كانت تلك الصناعة أدنى إلى استعمال الناس، وألصق بحياتهم العامة، كلما كانت المفسدة الحاصلة باختلال تلك الصناعة أفدح، فكيف إذا كانت متعلقة بأحكام الشريعة الإلهية، التي \" تُدفع بها مظالم الناس، الذين لم تصلحهم الموعظة، وحياطة الدنيا والأبشار والفروج والأموال، والأمن على كل ذلك من التعدي والغلبة، وهذه منفعةٌ عظيمةٌ جليلةٌ، لا بقاءَ لأحد في هذه الدنيا، ولا صلاح لأهلها إلا بها\" [رسالة التوقيف على شارع النجاةº لأبي محمد ابن حزم، مطبوعة ضمن رسائل ابن حزم الأندلسي (3/134)].
لا ريب أن ضبط علمٍ, هذا شأنه من أهم المهمات المناطة بأهله، فإذا ما استحضرنا هنا أنه مما يبعث الشجى في الشأن الفقهي المعاصرº أن يوجد بعض المتصدرين للفتيا من أهل العصر، قد اختلت لديهم القواعد اختلالاً بيناً، يظهر من خلال فتاويهم المتناقضة، حتى إن كل فتيا منها تحفظ على حدةº لشذوذها عن أخواتها، كما يحفظ الأوربيون صور كلمات لغاتهم واحدةً واحدة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد