بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الإسبال
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
الإسبال هو أن ينزل ثوب الرجل عن كعبيه (الكعب: العظم النّاتئ عند ملتقى الساق والقدم). والثوب يشمل الإزار والسراويل والقميص ونحوها.
وقد وردت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الأطهار والأئمة الأخيار تحذر من الإسبال والتهاون في ذلك، وهي كثيرة جداً بلغت حد التواتر المعنوي، وقد رواها ما يقارب الثلاثين من الصحابة، منها ما هو في الصحاح، ومنها ما هو في السنن والمسانيد، ومنها ما هو في دواوين السنة الأخرى.
والإسبال له حالتان:
الأولى: أن يكون إسبال الثوب خيلاء، فهذا مجمع على تحريمه وكونه كبيرة من كبائر الذنوب، لم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم المعتبرين.
والأصل في ذلك قوله - تعالى -: إن الله لا يحب كل مختال فخور، وقوله - تعالى -: ولا تمش في الأرض مرحا وقوله - سبحانه -: الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس. فذم الله - سبحانه وتعالى - الخيلاء، والمرح والبطر.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة الصريحة أيضاً في تحريم ذلك والتحذير منه.
فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا».
وعن محمد بن زياد قال سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال النبي أو قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل جمته إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة».
وعن سالم بن عبد الله - رضي الله عنه - أن أباه حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة».
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» قال: فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب».
هذه جملة من الأحاديث وغيرها كثير كلها من أصح الكتب بعد كتاب الله - تعالى -البخاري ومسلم وكلها صريحة في تحريم إسبال الثوب وإطالته إلى ما تحت الكعبين على سبيل الخيلاء، وأن فاعل ذلك متوعد من الله - تعالى -بأنه لا يكلمه ولا ينظر إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم.
الحالة الثانية: أن يكون إسبال الثوب من غير خيلاء، فهذا حرام أيضاً وفاعله متوعد بالعقاب يوم القيامة بأن تنال النار ما غطاه الثوب من قدميه تحت الكعبين.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار».
قال الخطابي: يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار فكنى بالثوب عن بدن لابسه ومعناه أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة.
وخرج عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد أن نافعًا سئل عن ذلك؟ فقال: وما ذنب الثياب؟!! بل هو من القدمين.
نخلص من ذلك أن جر الثوب تحت الكعبين ممنوع مطلقاً سواءً كان فعله خيلاء أم عن غير قصد الخيلاء.
ومن المعلوم عند أهل العلم أنه يحمل المطلق على المقيد، فالتسوية بين الحالتين غير مسلمة لتنوع الوعيد.
قال ابن حجر في شرح حديث أم سلمة: ويستفاد من هذا الفهم التعقب على من قال إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء قال النووي: ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء ووجه التعقب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جر ذيولهن معنى بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقا سواء كان عن مخيلة أم لا فسألت عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهن إلا الإسبال من أجل ستر العورة لأن جميع قدمها عورة فبين لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط، وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء ومراده منع الإسبال لتقريره - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة على فهمها إلا أنه بين لها أنه عام مخصوص لتفرقته في الجواب بين الرجال والنساء في الإسبال وتبيينه القدر الذي يمنع ما بعده في حقهن كما بين ذلك في حق الرجال.
وقال في حديث صلاة الكسوف: قوله: فقام يجر ثوبه مستعجلاً فإن فيه أن الجر إذا كان بسبب الإسراع لا يدخل في النهي، فيشعر بأن النهي يختص بما كان للخيلاء لكن لا حجة فيه لمن قصر النهي على ما كان للخيلاء حتى أجاز لبس القميص الذي ينجر على الأرض لطوله كما سيأتي بيانه إن شاء الله - تعالى -.
غير أن هنا مسألة يجب التفطن لها والتنبيه عليها وهي أن الإسبال نفسه مظنة المخيلة، وباب من أبوابها فحسم الشارع الحكيم مادتها، وصار ذلك حكماً عاماً حتى لا تترك المسألة للأهواء.
قال ابن حجر: ويتجه المنع أيضا في الإسبال من جهة أخرى وهي كونه مظنة الخيلاء قال ابن العربي: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول: لا أجره خيلاء، لأن النهي قد تناوله لفظا ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكمًا أن يقول: لا أمتثله، لأن تلك العلة ليست فيَّ، فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره. وحاصله: أن الإسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء.
كما يجب التفطن إلى أنه لا فرق بين الإزار والقميص والسراويل فالإسبال في كل ذلك واحد.
سئل سالم بن عبد الله بن عمر عما جاء في إسبال الإزار أذلك في الإزار خاصة فقال بلى في القميص والإزار والرداء والعمامة.
قال شيخ الإسلام: طول القميص والسراويل وسائر اللباس إذا تعدى ليس له أن يجعل ذلك أسفل من الكعبين كما جاءت بذلك الأحاديث الثابتة عن النبي وقال: الإسبال في السراويل والإزار والقميص، يعنى نهى عن الإسبال.
قال ابن حجر: وقال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب فإنه يشمل جميع ذلك.
وعن يزيد بن أبي سمية قال: سمعت ابن عمر فيما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإزار فهو في القميص يعني ما تحت الكعبين من القميص في النار كما قال في الإزار.
بل إن كثيراً من العلماء أدخل الأكمام والعمامة وكل ما يلبس في ذلك، ومنع فيه الإسبال.
قال الصنعاني: وكذا تطويل أكمام القميص زيادة على المعتاد كما يفعله بعض أهل الحجاز إسبال محرم، وقد نقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة. قلت: وينبغي أن يراد في المعتاد ما كان في عصر النبوة.
وبعد فإن تعجب فعجب من رجال ونساء أبوا إلا مخالفة هدي نبيهم وترك سنته ومخالفة أمره - صلى الله عليه وسلم -، من إسبال الرجال لأثوابهم وقد أُمروا بالتشمير، وتشمير بعض النساء عن سوقهن وقد أمرن بإسبال ذيولهن ذراعاً، أفلا يخاف أولئك الوعيد الشديد والتهديد الأكيد الذي توعد الله - تعالى -به، وهو أصدق القائلين: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، قال الإمام أحمد: (الفتنة الشرك، لعله إن ترك بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك).
وإليك هذا الأثر من الصدر الأول لهذه الأمة لتقفو أثر القوم وتتبع هديهم في سرعة استجابتهم وامتثالهم وطاعتهم، وعدم تكبرهم ومجادلتهم.
عن جبير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم أنه كان جالسًا مع ابن عمر إذ مر فتى شاب عليه جُبّة صنعانية يجرها مسبلاً قال: يا فتى هلم، قال له الفتى: ما حاجتك يا أبا عبد الرحمن قال: ويحك أتحب أن ينظر الله إليك يوم القيامة قال: سبحان الله وما يمنعني أن لا أحب ذلك؟ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ يقول: لا ينظر الله إلى عبد يوم القيامة يجر إزاره خيلاء قال: فلم ير ذلك الشاب بعد ذلك اليوم إلا مشمرا حتى مات.
قال القرطبي - رحمه الله -: فما بال رجال يرسلون أذيالهم ويطيلون ثيابهم ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر وقائدة العجب وأشد ما في الأمر أنهم يعصون وينجسون ويلحقون أنفسهم بمن لم يجعل الله معه غيره ولا ألحق به سواه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء» ولفظ الصحيح: «من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة». قال أبو بكر: يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لست ممن يصنعه خيلاء فعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنهي واستثنى الصديق فأراد الأدنياء إلحاق أنفسهم بالرفعاء وليس ذلك لهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد