بسم الله الرحمن الرحيم
هل الدم نجس؟ وهل صح الإجماع بذلك؟
الجواب:
حيّـاك الله وبيّـاك أبا عزام
الصحيح أن الدم ليس بنجس، وإن كان الإمام النووي - رحمه الله - حكى الإجماع، إلا أن الإجماع لا يصحّ للأدلة التالية:
أولاً: أن الدمّ مما تعمّ به البلوى، ومع ذلك لم يرد الأمر بغسله، ولا بتوقّيـه وتجنبه.
ثانياً: أن الصحابة كانت تُصيبهم الجراح، ومع ذلك لم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسل أثر الدم أو الوضوء، ولو فُرِض عدم علم النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك لا يخفى عمن لا تخفى عليه خافية - سبحانه -، فيُصحح الخطأ لو كان هناك خطأ.
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن جابر - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني في غزوة ذات الرقاع - فأصاب رجلٌ امرأة رجلٍ, من المشركين، فحلف يعني المشرك - أن لا انتهي حتى أهريق دما في أصحاب محمد، فخرج يتبع أثر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلا. فقال: من رجل يكلؤنا؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقال: كُـونا بِـفَـمِ الشِّعب. قال: فلما خرج الرجلان إلى فَـمِ الشعب اضطجع المهاجري، وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة للقوم، فرماه بسهم، فوضعه فيه، فنزعه، حتى رماه بثلاثة أسهم، ثم ركع وسجد، ثم انتبه صاحبه، فلما عرف أنهم قد نذروا به هرب، ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الــدمّ قال: سبحان الله ألا انبهتني أول ما رمى؟ قال: كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها.
وقد صلّى عمر - رضي الله عنه - بعدما طُعن وجُرحه يثعب دمـاً. يعني يصبّ صبّـاً.
ولذا قال الحسن - رحمه الله -: ما زال المسلمون يُصلٌّـون في جراحاتهم. رواه البخاري تعليقاً ورواه ابن أبي شيبة موصولاً.
وروى البخاري هذه الآثار تعليقاً، فقال: وعَصَر ابن عمر بثرة فخرج منها الدم ولم يتوضأ، وبزق بن أبي أوفى دما فمضى في صلاته، وقال ابن عمر والحسن فيمن يحتجم: ليس عليه إلا غسل محاجمه.
أي ليس عليه الوضوء من خروج الدم.
فهذه الأدلة وغيرها تدلّ على أن الدم ليس بنجس، وليس بناقض للوضوء من باب أولى.
ويُستثنى من ذلك دم الحيض فهو نجس.
وما خرج من أحد السبيلين (القبل أو الدبر) لملاقاة النجاسة.
والله أعلم.
----------------------------------------
ثم رد فضيلة الشيخ:
اتفقت المذاهب الأربعة المتبوعة على نجاسته حتى قال الإمام النووي - رحمه الله - في شرح مسلم: نجس بإجماع المسلمين \" وكذا حكى الإجماع الإمام القرطبي في تفسيره، وأسهب السهارنفوري في تقرير ذلك في \" بذل المجهود \"، ودليل نجاسته آية البقرة وغيرها، فإن كان الدم من أحد السبيلين فهو نجس بالإجماع حيض، أو نفاس، أو استحاضة أو غيرها، ولا يعفى عن يسيره، أما غيره فالمقرر عند أهل المذاهب المتبوعة أنه لا يعفى عن فاحشه، ويعفى عن يسيره وإن اختلفوا في حد اليسير،
أما صلاة عمر وعباد وغيرهم من الصحابة - فحال ضرورة، فيباح لمن دمه يثعب من جراحه أن يصلي على حاله، والواجب - الذي هو التحرز من النجس - يسقط بالإجماع، والمشقة تجلب التيسير، ألا ترى المستحاضة دمها نازل وتصح صلاتها ولو استثفرت، وكذا من به سلس..
وهل قولة الحسن - رحمه الله - محفوظة من حيث الدراية لا الرواية؟ بمعنى هل حفظت عنه وذكرها الفقهاء على أنها قولة محفوظة يعتد بها في الخلاف، أم أنها من قبيل الرواية فقط، وكم من أحاديث ذكرت رواية لا دراية يُفتى بها الآن ولو خالفت الإجماع، خذ مثلا، حديث ابن عباس في \" صحيح مسلم\" في طلاق الثلاث واحدة..هذا الحديث حديث شاذ كما قاله أحمد والدارقطني وغيرهم كما ذكره عنهم الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي في باب الشاذ، فهو مخالف لإجماع الصحابة المنعقد في خلافة عمر - بل راوي الحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - كان يفتي بخلافه كما في سنن البيهقي المجلد التاسع في أبواب الطلاق، ولم تزل الأمة تفتي بوقوع الطلاق الثلاث ثلاثا وتقضي بذلك حتى شهّر شيخ الإسلام - رحمه الله - القول بوقوع الثلاث واحدة،... عفوا على الاستطراد
لكن عودة لمسألتنا، - وإني والله أطلب الحق من أهل العلم - لماذا لا يحمل فعل ابن عمر مع البثرة على اليسير المعفو عنه، مع اشتراط الفقهاء لنجاسة الدم أن يفحش في نفسه كما في عمدة الطالب، وشرح منتهى الإرادات، وغيرهما فلعل ذلك لم يفحش في نفس ابن عمر - رضي الله عنهما -، وصلاة الصحابة في جراحاتهم لما ذكر سلفا يحمل على حال الضرورة لما علم بالضرورة من فقه الصحابة وعلمهم - رضي الله عنهم -، أما لو كان نجسا لبينه النبي الخاتم محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد علم الصحابة ذلك من كتاب الله - تعالى -وعندهم الأصل المقرر وهو نجاسة الدم المسفوح وهذا منه ولا شك،..
أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لكل خير، على أن هذه التعليقة السريعة، ليست منظمةº أكتبها على عجل
أطلب بعدها من فضيلتكم وغيركم من أهل العلم إيضاحها لي أكثر موثقة معزوة لعلي أن أستفيد منها
وصلى الله على نبينا محمد.
الجواب:
بارك الله فيك
ذكرتني بمقولة قالها لي أحد العلماء وقد أتيته أسأله في مسألة فلما ناقشته فيها وقلت في المسألة كيت وكيت، وحديث كذا وكذا
قال لي: قم يا ابني! أنت معك حذاءك وسقاءك!
عندك آلـة البحث فابحث!
أخي الحبيب: لن أقول لك تلك المقالة
ولكني أقول أن نجاسة الدم ليست محل إجماع، وقد نقلت لك سابقاً أن الإمام النووي - رحمه الله - حكى الإجماع.
أليست هذه مسألة تعمّ البلوى بها؟
الجواب: بلـى.
السؤال الذي يطرح نفسه: لِـمَ لَـم يرد في غسل الدم حديث واحد؟
بل ورد خلاف ذلك.
ولم أرَ دليلاً صحيحاً صريحا يدلّ على نجاسة الدمّ لمن قال بنجاسته.
قال الشوكاني - رحمه الله -:
وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل بأقل إثماً ممن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام، فالكل إما من التقوّل على الله - تعالى -بما لم يَـقـُل، أو من إبطال ما قد شرعه لعباده بلا حُجة. انتهى.
وهذه الكلمة من الشوكاني قاعدة عظيمة يُعضّ عليها بالنواجذ.
وأما دعوى الضرورة فلا يُسلّم بها.
أين الضرورة من إنسان يُصلّي نافلة؟
نعم. لو قلت فعل عمر - رضي الله عنه - ضرورة لربما سُلّم لك.
أما أفعال الصحابة عموماً فلا تُحمل على الضرورةº لأن بإمكان الواحد منهم أن يعصب جرحه ويُصلّي.
كما أن قياسك على المستحاضة قياس مع الفارق، والقياس مع الفارق باطل عند جمهور الأصوليين.
فالمستحاضة تستثفر وتشد وسطها وتتوضأ لكل صلاة وتُصلّي
وأما الأنصاري الذي كان يُصلّي فينزع السهم ويستمر في صلاته وجرحه يثعب، يختلف تماماً عن حال المستحاضة.
وحملك تلك الأفعال من الصحابة على اليسير أو الضرورة ليس بمسلّم لك.
لماذا؟
لأن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يُفتي بأن المُحتَجِم ليس عليه إلا غسل محاجمه، كما تقدّم.
فهذه فتوى من عالم من علماء الصحابة.
فكيف تُحمل الفتوى على الضرورة؟
ولا ضرورة مع الحجامة، فإن الحجامة تكون في الرأس أو في الظهر أو في غيره من البدن، ومع ذلك كان يُفتي المحتجِم بأنه ليس عليه إلا غسل محاجمه.
ثم إن القول إذا اتفقت عليه المذاهب الأربعة فإنه لا يُعـدّ إجماعاً، بل يُقال هذا رأي الجمهور، ونحو ذلك.
وأحب أن أُذكّر أنه ليس كل من نقل الإجماع سُلّم له بذلك، ولذا قال الإمام أحمد - رحمه الله -:
وما يُدريك أنهم أجمعوا، لعلهم اختلفوا.
وقد ذكر الخلاف في المسألة الإمام النووي نفسه في المجموع، وذكر بعض الأقوال في مذهبه هو والخلاف في نجاسة الدم من عدمه فقال:
والصحيح عند الجمهور نجاسة الدم والفضلات وبه قطع العراقيون، وخالفهم القاضي حسين فقال: الأصح طهارة الجميع، والله أعلم. انتهى.
نعم. دم الحيض متفق على نجاسته.
والعجيب أن جمهور العلماء الذين قالوا بنجاسة دم الآدمي قالوا بطهارة دم الشهيد!
والله أعلم.
أخي الفاضل
بعدما كتبت لك الرد الأخير
رأيت لشيخنا الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - تفصيل في هذه المسألة حيث قال:
قال الشيخ - رحمه الله -:
والقول بأن دم الآدمي طاهر ما لم يخرج من السبيلين قول قوي، والدليل على ذلك ما يلي:
1 أن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يقوم دليل النجاسة، ولا نعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الدم إلا دم الحيض، مع كثرة ما يُصيب الإنسان من جروح ورعاف وحجامة، وغير ذلك، فلو كان نجساً لبيّنه النبي - صلى الله عليه وسلم -º لأن الحجامة تدعو إلى ذلك.
2 أن المسلمين ما زالوا يُصلّون في جراحاتهم في القتال، وقد يسيل منهم الدم الكثير الذي ليس محلاً للعفو، ولم يَرِد عنه - صلى الله عليه وسلم - الأمر بِغسله، ولم يرِد أنهم كانوا يتحرّزون عنه تحرّزاً شديداً بحيث يُحاولون التخلي عن ثيابهم التي أصابها الدمّ متى وجدوا غيرها.
ولا يُقال: إن الصحابة - رضي الله عنهم - كان أكثرهم فقيراً، وقد لا يكون له من الثياب إلا ما كان عليه، ولا سيما أنهم كانوا في الحروب يخرجون عن بلادهم فيكون بقاء الثياب عليهم للضرورة.
فإن قيل ذلك فيُقال: لو كان كذلك لعلمنا منهم المبادرة إلى غسله متى وجدوا إلى ذلك سبيلا بالوصول إلى الماء أو البلد وما أشبه ذلك.
3 أن أجزاء الآدمي طاهرة، فلو قُطِعت يده لكانت طاهرة مع أنها تحمل دماً، وربما يكون كثيراً، فإذا كان الجزء من الآدمي الذي يُعتبر ركناً في بُنيَة البدن طاهراً، فالدمّ الذي ينفصل منه ويخلفه غيره من باب أولى.
4 أن الآدمي ميتته طاهرة، والسمك ميتته طاهرة، وعُلل ذلك بأن دم السمك طاهرº لأن ميتته طاهرة، فكذا يُقال: إن دم الآدمي طاهرº لأن ميتته طاهرة. فإن قيل: هذا القياس يُقابل بقياس آخر، وهو أن الخارج من الإنسان من بول وغائط نجس، فليكن الدم نجساً.
فيُجاب بأن هناك فرقاً بين البول والغائط وبين الدمº لأن البول والغائط نجس خبيث ذو رائحة منتنة تنفر منه الطباع، وأنتم لا تقولون بقياس الدم عليه، إذ الدم يُعفى عن يسيره بخلاف البول والغائط فلا يُعفى عن يسيرهما، فلا يُلحق أحدهما بالآخر.
فإن قيل: ألا يُقاس على دم الحيض، ودم الحيض نجس، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المرأة أن تحتّـه، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تُصلي فيه؟
فالجواب: أن بينهما فرقاً:
أ أن دم الحيض دم طبيعة وجبلة للنساء، قال - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم. فبيّن أنه مكتوب كتابة قدرية كونية، وقال - صلى الله عليه وسلم - في الاستحاضة: إنه دم عرق، ففرّق بينهما.
ب أن الحيض دم غليظ مُنتن له رائحة مستكرهة، فيُشبه البول والغائط، فلا يصح قياس الدم الخارج من غير السبيلين على الدم الخارج من السبيلين، وهو دم الحيض والنفاس والاستحاضة.
فالذي يقول بطهارة دم الآدمي قوله قوي جـداًº لأن النصّ والقياس يَـدُلاّن عليه.
....
فإن قيل: إن فاطمة - رضي الله عنها - كانت تغسل الدم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أُحـد، وهذا يدلّ على النجاسة.
أُجيب من وجهين:
أحدهما: أنه مُجرّد فعل، والفعل لا يدلّ على الوجوب.
الثاني: أنه يُحتمل أنه من أجل النظافة لإزالة الدم عن الوجهº لأن الإنسان لا يرضى أن يكون في وجهه دم، ولو كان يسيراً، فهذا الاحتمال يُبطل الاستدلال.
انتهى كلامه - رحمه الله - بشيء من الاختصار.
قال الشوكاني - رحمه الله -:
وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل بأقل إثماً ممن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام، فالكل إما من التقوّل على الله - تعالى -بما لم يَـقـُل، أو من إبطال ما قد شرعه لعباده بلا حُجة. انتهى.
وهذه الكلمة من الشوكاني قاعدة عظيمة يُعضّ عليها بالنواجذ.
----------------------------------------
ثم رد الأخ الفاضل:
فضيلة الشيخ - وفقه الله -
أولا أشكرك على هذا التفاعل مع هذه المسألة وأنا سعيد جدا بردك لكن هنا كلمات:
قولك - وفقك الله - ليس فيها حديث، بل فيها أحاديث كحديث غسل الدم للمستحاضة وهو في الصحيح، وكذلك حديث عائشة عند أبي داود وغيره وكذلك حديث الدارقطني وفيه الأمر من غسل الدم والمني والمذي وغيرها - وأنا أكتب هذا الرد سريعا وإلا أحلت على المراجع. وإن كان في بعض تلك الأحاديث ضعف.
ثانيا: قد حكى الإجماع غير واحد كالقرطبي والنووي وتكلم السهارنفوري في بذل المجهود كلاما نفيساً.
ثالثا: كلمة الشوكاني - رحمه الله - وفيها قوله: \" وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل.. \" أ0هـ
ما المقصود بالدليل؟! إن الدليل عند أهل الأصول نوعان أولهما: متفق عليها وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس فلا خلاف يعتد به في الاحتجاج بها وثانيهما: مختلف فيها كقول الصحابي، وشرع من كان قبلنا...
ومن يرى صحة الإجماع في هذه المسألة فقد أتى بالدليل!
رابعأ: قولكم وفقكم الله \"وأما دعوى الضرورة فلا يُسلّم بها.
أين الضرورة من إنسان يُصلّي نافلة؟
فالصحابي الفقيه يصلي النافلة ويضربه السهم ويعلم أنه ليس بإمكانه وقف النزيف فلماذا لا يتمم صلاته على تلك الهيئة ولو كان في نافلة فللمستحاضة أن تصلي ودمها ينزف حتى لو لم تستثفر كمن به سلس ينزل بوله وهو يصلي النافلة فهل يقطع نافلته؟ على أن قصة عباد المخرجة عند أبي داود فيها ضعف.
خامساً: فتوى ابن عمر بغسل المحاجم دليل على نجاسة الدم أصلا، فلا يُخلط بين مسألة نقض الدم للوضوء، ونجاسة الدم الخارج من البدن!!
سادسا: إذا حكى النووي وغيره الإجماع على مسألة وهم ممن يعتد بهم في العلم والفضل وتواطأ على ذلك أئمة فلماذا لا يكون صحيحا؟ على أنه ينتبه لشيء وهو أن بعضهم يهمل قول المخالف لأنه شاذ ربما أو قد انعقد الإجماع قبله أو لا يعتد به في الخلاف كما قد صرح النووي - رحمه الله - بذلك في باب السواك شرح مسلم فهو لا يعتد بخلاف الظاهرية.
ثم هناك رسالة صغيرة تسمى الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة لابن رجب - رحمه الله - عظيمة في باب الأخذ بأقول المذاهب الأربعة من الخروج عليها. وأن تلك المذاهب هي التي حفظت وغيرها لم يحفظ في الجملة فمن يحقق قول المخالف كالأوزاعي والليث وأين أصولهم وقواعدهم المنصورة المحفوظة وفروعهم المثبتة.. رحمة الله عليهم.
سابعا: قولكم: ولذا قال الإمام أحمد - رحمه الله -:
وما يُدريك أنهم أجمعوا، لعلهم اختلفوا فبالمناسبة قد حكى الإمام أحمد نفسه الإجماع على نجاسة الدم هو نفسه وهناك رسالة صغيرة في السوق تحمل هذا العنوان وهو نجاسة الدم.
الجواب:
بارك الله فيك أخي الفاضل
لا أُريد أن أُطيل في هذه المسألة أو إعادة الكلام فيها
قلتُ: ليس فيها حديث.
وإنما عنيت أن الدم مما تعمّ به البلوى، من جراحات ونحوها، فاستدلتَ حفظك الله بغسل دم الاستحاضة، والقياس مع الفارق باطل!
ولذا قال الإمام أحمد - رحمه الله -: أكثر ما يغلط الناس في التأويل والقياس.
فأنا أتكلّم عن الدم الخارج من جراح ونحوها، وهو ما قال فيه الحسن - رحمه الله -: ما زال المسلمون يُصلٌّـون في جراحاتهم. رواه البخاري تعليقاً ورواه ابن أبي شيبة موصولاً.
فأين هو النص على غسل ما أصابهم من جراحات بعد المعارك؟
أو حتى الدليل على غسل الدم الخارج من غير السبيلين؟
سواء كان من جرح أو كان رعافاً.
وأين الدليل على أن رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم نفسه غسل محاجمه بعد الحجامة، وكان كثير الاحتجام، كما صحت بذلك الأحاديث.
ولا يتناقض هذا مع ما أوردته عن ابن عمر والحسن من غسل المحاجم، فإن النبي صلى الله عليه على آله وسلم غسلت عنه ابنته أثر الدم يوم أُحد، ولا يدلّ على الوجوب، وإنما الدم مما يُتأّذى به وبأثره ورائحته فيُؤمر بغسل المحاجم كما قال ابن عمر والحسن.
والآثار التي سبقت أن سقتها لك وأجدني مضطرا لإعادتها تدل على أنهم كانوا لا يرون نجاسة الدم.
عَصَر ابن عمر بثرة فخرج منها الدم ولم يتوضأ، وبزق بن أبي أوفى دما فمضى في صلاته. علقها البخاري مستدلاً بها على ما ذهبتُ إليه من عدم نجاسة الدم.
*أما الأمر بغسل المني فلم يصح فيه حديث، وإنما صحّ فيه الغسل إن كان رطبا من فعل عائشة - رضي الله عنها -، وفركه إن كان يابسا كما في الصحيح.
*تكلّمت حفظك الله وكررت مسألة الإجماع، ولم تصحّ دعوى الإجماع، وما ثبت الإجماع، لورود الخلاف عن الصحابة - رضي الله عنهم - وعن التابعين، كما في الآثار السابقة.
*ذكرت حفظك الله مسألة المذاهب الأربعة، ويذكر بعضهم أنه إجماع!
وليس اجتماع المذاهب الأربعة على مسألة يُعدّ إجماعاً، وإنما يُقال: هذا رأي الجمهور.
ويجب أخي الحبيب أن لا يأخذنا الحماس أو العاطفة أو حب الأئمة على تعظيم أقوالهم دون أقوال رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم، أو تقديم أقوالهم على قول رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم، وما أشبه ذلك ما يقع فيه بعض متعصبة المذاهب.
ويعلم الله كم لهؤلاء الأئمة من حب وتوقير في أنفسنا
ولكن يجب أن لا يُداني حب رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم وتعظيمه وتوقيره.
قال العلامة القاسمي في قواعد التحديث في كلامه على ثمرات الحديث الصحيح ومعرفته -:
الثمرة الخامسة: لزوم قبول الصحيح، وأن لم يعمل به أحد. قال الإمام الشافعي في الرسالة: ليس لأحد دون رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم أن يقول إلا بالاستدلال، ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استُحسِن شيء يُحدِثه لا على مثالٍ, سابق. انتهى.
فالصحيح أنه لا يُعمل بالحديث إلا إذا صحّ، ولذا كان الإمام الشافعي - رحمه الله - يقول كثيراً: إن صحّ الحديث.
يعني في مسألة مُعينة إذا صح الحديث عمل به.
كما قال ذلك في الوضوء من لحوم الإبل.
نقل الحافظ ابن حجر عن البيهقي أنه قال: حكى بعض أصحابنا عن الشافعي قال: إن صح الحديث في لحوم الإبل قلتُ به. قال البيهقي: قد صحّ فيه حديثانº حديث جابر بن سمرة وحديث البراء. قاله أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وهذا من إنصاف البيهقي - رحمه الله - فهو شافعي المذهب، ومع ذلك قال بخلافه فيما صحّ فيه الحديث وتبيّن له فيه الدليل.
فالعبرة عند السلف بِصحّـة الحديث لا بمن قال به أو عمل بموجبه.
ألا ترى أن البيهقي - رحمه الله - الذي ينصر مذهب الشافعي حتى في تأليف السنن الكبرى، ومع ذلك يُخالف إمامه لما استبان له الحق.
وأولئك الأئمة - رحمهم الله - كانوا ينهون عن تقليدهم
ويُعظّمون السنة والحديث وأقوال الصحابة.
اتّفقت كلمة العلماء أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة المتبوعة على ردِّ قولِهم إذا خالف الحديث.
قال الإمام أبو حنيفة: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي.
وقال أيضا: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه.
وقال أيضا: إذا قلت قولاً يُخالف كتاب الله - تعالى -وخبرِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاتركوا قولي.
وقال الإمام مالك: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكلّ ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.
وقال أيضا: ليس أحدٌ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأما الإمام الشافعي فقال: أجمع المسلمون على أن من استبان له سُنةٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحِلّ له أن يدعها لقول أحد.
وقال أيضا: إذا وجدتم في كتابي خلاف سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوا ما قلت.
وقال الإمام أحمد: من ردّ حديثَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلَكَة
وقال أيضا: لا تقلد في دينك أحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهِ فخُذ به.
قال الحميدي: روى الشافعي يوماً حديثاً، فقلت: أتأخذ به؟ فقال: رأيتني خرجت من كنيسة، أو عليَّ زُنّارٌ حتى إذا سمعتُ عن رسول - صلى الله عليه وسلم - حديثاً لا أقول به.
إلى غير ذلك من أقوالهم الكثيرة المشهورة.
وقد خالف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وغيره خالفوا المذاهب الأربعة أو بعضها في مسائل استبان لهم فيها الحق، ومع ذلك لم يكن في هذا مطعن عليهم.
بل إن ابن رجب - رحمه الله - ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وذكر الخلاف في مسألة فقال:
ورجحه الإمام أبو العباس ابن تيمية.
فهو ينعته بالإمام، مع أنك ذكرت أنه له رسالة في بعنوان: الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة.
ومع حُبنا لأئمة المذاهب، إلا أننا لا ندّعي لهم العصمة كما تدّعيها الرافضة لأئمتها !!
وأرجو أن لا يُفهم مني تنقص الأئمة أو الطعن فيهم أو العيب عليهم، ولكننا نُنزلهم منازلهم.
وأرجو أن لا يكون ردي هذا انتصاراً للنفس، بل طلباً للحق.
أسأله - سبحانه - حسن المقصد.
والله يحفظكم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد