الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة


بسم الله الرحمن الرحيم

 

فقد بلغني إنكار بعض الناس على بعض من ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد وغيره من مذاهب الأئمة المشهورين في هذا الزمان والخروج عن مذاهبهم في مسائل وزعم أن ذلك لا ينكر على من فعله، وأن من فعله قد يكون مجتهداً متبعاً للحق الذي ظهر له أو مقلداً لمجتهد آخر. فلا ينكر ذلك عليه.

 

فأقول وبالله التوفيق، وهو المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله:

لا ريب أن الله - تعالى - حفظ لهذه الأمة دينها حفظاً لم بحفظ مثله ديناً غير دين هذه الأمةº وذلك أن هذه الأمة ليس بعدها نبي يجدد ما دثر من دينها كما كان دين من قبلنا من الأنبياء، كلما دثر دين نبي جدده نبي آخر يأتي بعده. فتكفل الله - سبحانه - بحفظ هذا الدين، وأقام له في كل عصر حملة ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

وقال - تعالى -(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر9]. فتكفل الله - سبحانه - بحفظ كتابه، فلم يتمكن أحد من الزيادة في ألفاظه ولا من النقص منها.

وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرئ أمته القرآن في زمانه على أحرفٍ, متعددةº تيسيراً على الأمة لحفظه وتعليمه حيث كان فيهم العجوز والشيخ الكبير، والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط.

فطلب لهم الرخصة في حفظهم له أن يقرئهم سبعة أحرفº كما ورد ذلك في حديث أبي بن كعب وغيره.

ثم لما انتشرت كلمة الإسلام في الأقطار، وتفرق المسلمون في البلدان المتباعدة صار كل فريق منهم يقرأ القرآن على الحرف الذي وصل إليه. فاختلفوا حينئذ في حروف القرآن اختلافاً كثيراً.

فأجمع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهد عثمان على جمع الأمة على حرفٍ, واحد، خشية أن تختلف هذه الأمة في كتابها كما اختلفت الأمم قبلهم في كتبهم، ورأوا أن المصلحة تقتضي ذلك.

وحرقوا ما عدا هذا الحرف الواحد من المصاحف، وكان هذا من محاسن أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - التي حمده عليها علي وحذيفة وأعيان الصحابة.

وإذا كان عمر قد أنكر على هشام بن حكيم بن حزام على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في آية أشد الإنكار، وأبي ابن كعب حصل له بسبب اختلاف القرآن ما أخبر به عن نفسه من الشك، وبعض من كان يكتب الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه ارتد بسبب ذلك حتى مات مرتداً. هذا كله في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف الظن بالأمة بعده أن لو بقي الاختلاف في ألفاظ القرآن بينهم فلهذا ترك جمهور علماء الأمة بما عدا هذا الحرف الذي جمع عثمان عليه المسلمين، ونهوا عن ذلك. ورخص فيه نفر منهم، وحكي رواية عن أحمد ومالك مع اختلاف عنهما على ذلك به في الصلاة وغيرها أم خارج الصلاة فقط.

وبكل حال: فلا تختلف الأمة أنه لو قرأ أحد بقراءة ابن مسعود ونحوها مما يخالف هذا المصحف المجتمع عليه، وادعى أن ذلك الحرف الذي قرأ به هو حرف زيد بن ثابت الذي جمع عليه عثمان الأمة، أو أنه أولى بالقراءة من حرف زيد: لكان ظالماً متعدياً مستحقاً للعقوبة. وهذا لا يختلف فيه اثنان من المسلمين.

إنما محل الخلاف: إذا قرأ بحرف ابن مسعود ونحوه مع اعترافه أنه حرف ابن مسعود المخالف لمصحف عثمان- رضي الله عنه -.

وأما سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها كانت في الأمة تحفظ في الصدور كما يحفظ القرآن، وكان من العلماء من يكتبها كالمصحف ومنهم من ينهى عن كتابتها. ولا ريب أن الناس يتفاوتون في الحفظ والضبط تفاوتاً كثيراً.

ثم حدث بعد عصر الصحابة قوم من أهل البدع والضلال، أدخلوا في الدين ما ليس منه وتعمدوا الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -.

فأقام الله - تعالى - لحفظ السنة أقواماً ميزوا ما دخل فيها من الكذب والوهم والغلط، وضبطوا ذلك غاية الضبط وحفظوه أشد الحفظ.

ثم صنف العلماء التصانيف في ذلك، وانتشرت الكتب المؤلفة في الحديث وعلموه. وصار اعتماد الناس في الحديث الصحيح على كتابي الإمامين أبي عبد الله البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري - رضي الله عنها -.

واعتمادهم بعد كتابيها بعد بقية الكتب الستة خصوصاً سنن أبي داود وجامع أبي عيسى وكتاب النسائي ثم كتاب ابن ماجه.

وقد صنف في الصحيح مصنفات أخر بعد صحيحي الشيخين، لكن لا تبلغ كتابي الشيخين.

ولهذا أنكر العلماء على من استدرك عليهما الكتاب الذي سماه المستدرك. وبالغ بعض الحفاظ فزعم أنه ليس فيه حديث واحد على شرطهما. وخالفه غيره، وقال: يصفو منه حديث كثير صحيح. والتحقيق: أنه يصفو منه صحيح كثير على غير شرطهما. بل على شرط أبي عيسى ونحوه، وأما على شرطهما فلا.

فقل حديث تركاه إلا وله علة خفيةº لكن لعزة من يعرف العلل  كمعرفتها وينقده، وكونه لا يتهيأ الواحد منهم إلا في الأعصار المتباعدة: صار الأمر في ذلك إلى الاعتماد على كتابيها والوثوق بهما والرجوع إليهما، ثم بعدهما إلى بقية الكتب المشار إليها.

ولم يقبل من أحد بعد ذلك الصحيح والضعيف إلا عمن اشتهر حذقه ومعرفته بهذا الفن واطلاعه عليه، وهم قليل جداً. وأما سائر الناس: فإنهم يعملون على هذه الكتب المشار إليها، ويكتفون بالعزو إليها.

وأما الأحكام ومسائل الحلال والحرام: فلا ريب أن الصحابة والتابعين ومن بعدهم اختلفوا في كثير من هذه المسائل اختلافاً كثيراً، وكان في الأعصار المتقدمة كل من اشتهر بالعلم والدين يفتي بما ظهر له أنه الحق في هذه المسائل، مع أنه لم يخل من كان يشذ منهم عن الجمهور عن إنكار العلماء عليه.

كما كان ينكر على ابن عباس - رضي الله عنه - مسائل متعددة بها. وأنكر ذلك على أتباعه أشد من الإنكار عليه، حتى كان ابن جريج لما قدم البصرة إذا رآه الناس دخل المسجد الجامع رفعوا أيديهم ودعوا الله عليه لشذوذه بتلك المسائل التي تلقى عن أصحاب ابن عباس، حتى أنه رجع عن بعضها قبل أن يخرج من عندهم. وهذا مع أن الناس حينئذ كان الغالب عليهم الدين والورع.

فكان ذلك يريحهم عن أن يتكلم أحدهم بغير علم، أو ينصب نفسه للكلام وليس هو لذلك بأهل. ثم قل الدين والورع، وكثر من يتكلم في الدين بغير علم ومن ينصب نفسه لذلك وليس هو له بأهل. فلو استمر الحال في هذه الأزمان المتأخرة على ما كان عليه في الصدر الأول بحيث أن كل أحدٍ, يفتي بما يدعي أنه يظهر له أنه الحقº لاختل به نظام الدين لا محالة، ولصار الحلال حراماً والحرام حلالاً. ولقال كل من شاء ما يشاء، ولصار ديننا بسبب ذلك مثل دين أهل الكتابين من قبلنا. فاقتضت حكمة الله - سبحانه - أن ضبط الدين وحفظه: بأن نصب للناس أئمة مجتمعاً على علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى،من أهل الرأي والحديث.

فصار الناس كلهم يعولون في الفتاوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم.

وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم، حتى ضبط مذهب كل إمام منهم وأصوله وقواعده وفصوله، حتى ترد إلى ذلك الأحكام ويضبط الكلام في مسائل الحلال والحرام.

وكان ذلك من لطف الله بعباده المؤمنين، ومن جملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين.

ولولا ذلك: لرأى الناس العجاب، من كل أحمق متكلف معجبٍ, برأيه جريء على الناس وثاب.

فيدعي هذا أنه إمام الأئمة، ويدعي هذا أنه هادي الأمة وأنه هو الذي ينبغي الرجوع دون الناس إليه والتعويل دون الخلق عليه.

ولكن بحمد الله ومنته انسد هذا الباب الذي خطره عظيم وأمره جسيم، وأن حسمت هذه المفاسد العظيمة وكان ذلك من لطف الله - تعالى - لعباده وجميل عوائده وعواطفه الحميمة. ومع هذا فلم يزل يظهر من يدعي بلوغ درجة الاجتهاد، ويتكلم في العلم من غير تقليدٍ, لأحد من هؤلاء الأئمة ولا انقياد.

فمنهم من يسوغ له ذلك لظهور صدقه فيما ادعاه، ومنهم من رد عليه قوله وكذب في دعواه. وأما سائر الناس ممن لم يصل إلى هذه الدرجة فلا يسعه إلا تقليد أولئك الأئمة، والدخول فيما دخل فيه سائر الأمة.

 

فإن قال أحمق متكلف: كيف يحصر الناس في أقوال علماء متعينين ويمنع من الاجتهاد أو من تقليد غير أولئك من أئمة الدين.

قيل له: كما جمع الصحابة - رضي الله عنهم - الناس من القراءة بغيره في سائر البلدانº لما رأوا أن المصلحة لا تتم إلا بذلك، وأن الناس إذا تركوا يقرؤون على حروف شتى وقعوا في أعظم المهالك.

فكذلك مسائل الأحكام وفتاوى الحلال والحرام، لو لم تضبط الناس فيها بأقوال أئمة معدودين: لأدى ذلك إلى فساد الدين، وأن يعد كل أحمق متكلف طلبت الرياسة نفسه من زمرة المجتهدين وأن يبتدع مقالة ينسبها إلى بعض من سلف من المتقدمينº فربما كان بتحريف يحرفه عليهم كما وقع ذلك كثيراً من بعض الظاهريين، وربما كانت تلك المقالة زلة من بعض من سلف قد اجتمع على تركها جماعة من المسلمين. فلا تقضي المصلحة غير ما قدره الله وقضاه من جمع الناس على مذاهب هؤلاء الأئمة المشهورين - رضي الله عنهم - أجمعين.

 

فإن قيل: الفرق بين جمع الناس على حرفٍ, واحد من الحروف السبعة من أحرف القرآن وبين جمعهم على أقوال فقهاء أربعة، أن تلك الحروف السبعة كانت يقال: معناها واحد أو متقارب والمعنى حاصل بهذا الحرف، وهذا بخلاف قول الفقهاء الأربعةº فإنه يجوز أن يتفقوا على شيء ويكون الحق خارجاً عنهم.

قيل: هذا قد منعه طائفة من العلماء، وقالوا: إن الله لم يكن ليجمع هذه الأمة على ضلالة. وفي ذلك أحاديث تعضد ذلك.

وعلى تقدير تسليمه: فهذا إنما يقع نادراً ولا يطلع عليه إلا مجتهد وصل إلى أكثر مما وصلوا إليه، وهذا أيضاً مفقود أو نادر.

وذلك المجتهد على تقدير وجوده: فرضه اتباع ما ظهر له من الحق. وأما غيره: ففرضه التقليد. وتقليد هؤلاء الأئمة سائغ بلا ريب، الإثم عليهم ولا من قلدهم ولا بعضهم.

فإن قيل: فهذا يفضي إلى اتباع الأئمة على الخطأ.

قيل: لا يقول القول الحق جميع الخلق، ولابد أن يكون مذموماً به أحد من المخالفين. فلم يتفق للأمة الخطأ، وأكثر ما يقع هذا إن كان واقعاً فيما قل وقوعه.

فأما المسائل التي يحتاج المسلمون إليها عموماً فلا يجوز أن يعتقد أن الأئمة المقتدى بهم في الإسلام في هذه الأعصار المستطالة اجتمعوا فيها على الخطأº فإن هذا قدح في هذه الأمة وقد أعاذها الله منه.

 

فإن قيل: نحن نسلم منع عموم الناس من سلوك طريق الاجتهادº لما يفضي ذلك أعظم الفساد. لكن لا نسلم منع تقليد إمام متبع من أئمة المجتهدين غير هؤلاء الأئمة المشهورين.

قيل: قد نبهنا على علة المنع من ذلك وهو أن مذاهب غير هؤلاء لم تشتهر ولم تنضبط، فربما نسب إليهم ما لم يقولوه أو فهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذب عنها وينبه على ما يقع من الخلل فيها بخلاف هذه المذاهب المشهورة.

 

فإن قبل: فما تقولون في مذهب إمام غيرهم قد دون مذهبه وضبط وحفظ كما حفظ مذاهب هؤلاء.

قيل: أولا: هذا لا يعلم وجوده الآن. وإن فرض وقوعه الآن وسلم جواز اتباعه والانتساب إليه، فإنه لا يجوز ذلك إلا لمن أظهر الانتساب إليه والفتيا بقوله والذب عن مذهبه. فأما من أظهر الانتساب إلى بعض الأئمة المشهورين وهو في الباطن منتسب إلى غيرهم معتقد لمذهب سواه: فهذا لا يسوغ له ذلك البتة، وهو من نوع النفاق والتقية، ولا سيما من أخذ الأموال المختصة بأصحاب ذلك الإمام المشهور من الأوقاف أو غيرها. أو لبس على الناس، فأوهمهم أن ما يفتي به من مذهب من ينتسب إليه في الباطن هو مذهب ذلك الإمام المشهور. فهذا غير سائغ قطعاً، وهو تلبيس على الأمة وكذب على علماء الأمة. ومن نسب إلى أئمة الإسلام ما لم يقولوه، أو ما علم أنهم يقولون خلافه فإنه كاذب يستحق العقوبة على ذلك. وكذلك إن صنف كتاباً على مذهب إمام معين، وذكر فيه ما يعتقده من قول من ينتسب إليه في الباطن من غير نسبته إلى قائله. وكذلك لو كان الكتاب المصنف لا يختص بمذهب معين، إلا أن مصنف في الظاهر ينتسب إلى مذهب إمام معين وفي الباطن إلى غيره. فيذكر فيه أقوال من ينتسب إليه باطناً من غير بيان لمخالفتها لمذهب من ينتسب إليه ظاهراً. فكل هذا إيهام وتدليس غير جائز، وهو يقتضي خلط مذاهب العلماء واضطرابها. فإن ادعى مع ذلك الاجتهاد كان أدهى وأمر، وأعظم فساداً وأكثر عناداًº فعليه لا يسوغ ذلك مطلقاً إلا لمن كملت فيه أدوات الاجتهاد: من معرفة الإجماع والاختلاف، وبقية شرائط الاجتهاد المعروفة. وهذا يدعي اطلاعاً كثيراً على السنة، ومعرفة صحيحها من سقيمها، ومعرفة مذاهب الصحابة والتابعين والآثار المنقولة عنهم في ذلك. ولهذا كان الإمام أحمد يشدد أمر الفتيا، ويمنع منها من يحفظ ألف حديث ومائتي ألف حديث وأكثر من ذلك.

وعلامة صحة دعواه: أن يستقل بالكلام في المسائل كما استقل غيره من الأئمة، ولا يكون كلامه مأخوذاً من كلام غيره. فأما من اعتمد على مجرد نقل كلام غيره، إما حكماً أو حكماً ودليلاً: كان غاية جهده أن يفهمه، وربما لم يفهمه جيداً أو حرفه وغيره. فما أبعد هذا عن درجة الاجتهاد كما قيل:

فدع عنك الكتابة لست منها *** ولو سودت وجهك بالمداد

 

فإن قيل: فما تقولون في نهي الإمام أحمد وغيره من الأئمة عن تقليدهم وكتابة كلامهم، وقول الإمام أحمد: لا تكتب كلامي ولا كلام فلان وفلان، وتعلم كما تعلمنا. وهذا كثير موجود في كلامهم.

قيل: لا ريب أن الإمام أحمد - رضي الله عنه - كان ينهى عن آراء الفقهاء والاشتغال بها حفظاً وفهماً وكتابة ودراسة، وبكتاب آثار الصحابة والتابعين دون كلام من بعدهم ومعرفة صحة ذلك من سقيمه والمأخوذ منه والقول الشاذ المطرح منه.

ولا ريب أن هذا مما يتعين الاهتمام به والاشتغال بتعلمه أولاً قبل غيره.

فمن عرف ذلك وبلغ النهاية من معرفته كما أشار إليه الإمام أحمد، فقد صار علمه قريباً من علم أحمد. فهذا لا حجر عليه ولا يتوجه الكلام فيه، إنما الكلام في منع من لم يبلغ هذه الغاية ولا ارتقى إلى هذه النهاية ولا فهم من هذا إلا النزر اليسير، كما هو حال أهل هذا الزمان. بل هو حال أكثر الناس منذ أزمان، مع دعوى كثير منهم الوصول إلى الغايات والانتهاء إلى النهايات وأكثرهم لم يرتقوا عن درجة البدايات. وإذا أردت معرفة ذلك وتحقيقه، فانظر إلى علم الإمام أحمد - رضي الله عنه - بالكتاب والسنة.

أما علمه بالكتاب: فإنه - رضي الله عنه - كان شديد العناية بالقرآن وفهمه وعلومه، وكان يقول لأصحابه: قد ترك الناس فهم القرآن. على وجه الذم لهم وقد جمع في القرآن من الكتب، من ذلك كتاب الناسخ والمنسوخ، والمقدم والمؤخر وجمع التفسير الكبير، وهو محتوٍ, على كلام الصحابة والتابعين واختص عن أقرانه من ذلك بأمور متعددة، ومنها سعة الحفظ وكثرته، وقد قيل: إنه كان يحفظ ثلاث مائه ألف حديث. ومنها: معرفة صحيحه من سقيمه: وذلك تارة بمعرفة الثقات من المجروحين، وإليه كانت النهاية في ذلك.

وهذا وإن شاركه كثير من الحفاظ في معرفة علل الحديث المرفوعة، فلم يصل أحد منهم إلى معرفته بعلل الآثار الموقوفة. ومن تأمل كلامه في ذلك: رأى العجب، وجزم بأنه قل من وصل إلى فهمه في هذا العلم - رضي الله عنه -.

ومنها: معرفة فقه الحديث وفهمه وحلاله وحرامه ومعانيه، وكان أعلم أقرانه بذلك كما شهد به الأئمة من أقرانه: كإسحاق، وأبي عبيد، وغيرهما.

ومن تأمل كلامه في الفقه وفهم مأخذه ومداركه فيه، علم قوة فهمه واستنباطه. ولدقة كلامه في ذلك ربما صعب فهمه على كثير من أئمة أهل التصانيف ممن هو على مذهبه، فيعدلون عن مآخذه الدقيقة إلى مآخذ أخر ضعيفة يتلقونها عن غير أهل مذهبه، ويقع بسبب ذلك خلل كثير في فهم كلامه وحمله على غير محمله. ولا يحتاج الطالب لمذهبه إلا إلى إمعان وفهم كلامه.

وقد رؤي من فهمه وعلمه ما يقضي منه العجب، وكيف لا ولم يكن مسألة سبق للصحابة والتابعين ومن بعدهم فيها كلام إلا وقد علمه وأحاط علمه بها وفهم مأخذ تلك المسألة وفقهها، وكذلك كلام عامة فقهاء الأمصار وأئمة البلدان كما يحيط به معرفته كمالك، والأوزاعي، والثوري، وغيرهم.

وقد عرض عليه عامة علم هؤلاء الأئمة وفتاويهم، فأجاب عنها وجماعة عرضوا عليه مسائل مالك وفتاويه من الموطأ وغيره، فأجاب عنها. وقد نقل ذلك عنه حنبل وغيره. وإسحاق بن منصور عرض عليه عامة مسائل الثوري، فأجاب عنها. وكان أولاً قد كتب كتب أصحاب أبي حنيفة وفهمها وفهم مآخذهم في الفقه ومدركهم، وكان قد ناظر الشافعي وجالسه مدة وأخذ عنه.

وشهد له الشافعي - رضي الله عنه - تلك الشهادات العظيمة في الفقه والعلم ، وأحمد مع هذا شاب لم يتكهل. ومعلوم أن من فهم علم هذه العلوم كلها برع فيها، فأسهل شيء عنده معرفة الحوادث والجواب عنها، على قياس تلك الأصول المضبوطة والمآخذ المعروفة. ومن هنا قال عنه أبو ثور: كان أحمد إذا سئل عن مسألة كأن علم الدنيا لوح بين عينيه . أو كما قال ولا نعلم سنة صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد أحاط بها علماً، وكان أشد الناس اتباعاً للسنة إذا صحت ولم يعارضها معارض قوي. وإما ترك الأخذ بما لم يصح، وبما عارضه معارض قوي جداً. وكان السلف - رضي الله عنهم - لقرب عهدهم بزمن النبوة وكثرة ممارستهم كلام الصحابة والتابعين ومن بعدهم يعرفون الأحاديث الشاذة التي لم يعمل بها، ويطرحونها ويكتفون بالعمل بما مضى عليه السلف. ويعرفون من ذلك ما لم يعرفه من بعدهم، ممن لم تبلغه السنن إلا من كتب الحديث لطول العهد وبعده.

إذا فهمت هذا وعلمته: فهذه نصيحة لك أيها الطالب لمذهب هذا الإمام أؤديها إليك خالصة لوجه الله - تعالى -º فإنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

إياك ثم إياك أن تحدث نفسك أنك قد اطلعت على ما لم يطلع عليه الإمام، ووصلت من الفهم إلى ما لم يصل إليه هذا الذي ظهر فضل فهمه على من بعده من أولي الإفهام.

ولتكن همتك كلها مجموعة على فهم ما أشار إليه من الكتاب والسنة على الوجه الذي سبق شرحه.

ثم بعد ذلك: ليكن همك في فهم كلام هذا الإمام في جميع مسائل العلم، لا مسائل الإسلام. أعني: مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم والآخر، وهو العلم المسمى في اصطلاح كثير من العلماء بعلم السنة. فإن هذا الإمام كان غاية في هذا العلم، وقد امتحن بسبب مسائل منه وصبر لله على تلك المحنة، ورضي المسلمون كلهم بقوله الذي قاله ومقامه الذي قامه وشهدوا أنه إمام السنة وأنه لولاه لكفر الناس.

فمن كانت هذه منزلته في علم السنة، كيف يحتاج إلى تلقي هذا العلم من أحد من العلماء غيره، لاسيما لمن ينتسب إلى مذهبه. فليتمسك بكلامه في عامة هذا الباب، ويعرض عما أحدث من فضول المسائل التي أحدثت. وليس للمسلمين فيما أحدث حاجةº بل تشغل عن العلم النافع، وتوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين، وتوجب كثرة الجدل والخصومات في الدنيا مما هو منهي عنه عند هذا الإمام وغيره من السلف الماضين. وكذلك علم الإحسان: وهو علم المراقبة والخشية، كان هذا الإمام فيه غاية كما كان في علم الإسلام والإيمان آية. لكن كان الغالب عليه في هذا العلم تحقيق الأعمال دون تزويق الأحوالº فلذلك كان لا يطلق إلا المأثور عن السلف دون ما أخذته المتأخرون عن الخلف. ولقد كان - رضي الله عنه - في جميع علومه مستنداً بالسنة، لا يرى إطلاق ما لم يطلقه السلف الصالح من الأقوال ولا سيما في علم الإيمان والإحسان. وأما علم الإسلام: فكان يجيب فيه عن الحوادث الواقعية مما لم يسبق فيها كلامº للحاجة إلى ذلك. مع نهيه لأصحابه أن يتكلموا في مسائل ليس لهم فيها إمام. وإنما كان يجيب غالباً عما سبق الكلام فيه، وفيما يحتاج ولا بد لوقوعه ومعرفة حكمه. فأما ما يولده الفقهاء من المسائل التي لا تقع أو لا تكاد تقع إلا نادراً، فكان ينتهي كثير عن الكلام فيهاº لأنه قليل الفائدة ويشتغل عما هو أهم منه مما يحتاج إلى معرفته. وكان - رضي الله عنه -: لا يرى كثرة الخصام والجدال، ولا توسعة لقيل أو لقال في شيء من العلوم والمعارف والأحوال. إنما يرى الاكتفاء في ذلك بالسنة والآثار، ويحث على فهم معاني ذلك من غير إطالةٍ, للقول والإكثار. ولم يترك توسعة الكلام بحمد الله عجزاً ولا جهلاً، ولكن ورعاً وفضلاً واكتفاء بالسنة فإن فيها كفاية، واقتداءً بالسلف الصالح من الصحابة والتابعين فبالاقتداء بهم تحصل الهداية.

فإن أنت قبلت هذه النصيحة وسلكت الطريقة الصحيحة، فلتكن همتك: حفظ ألفاظ الكتاب والسنة، ثم الوقوف على معانيها بما قال سلف الأمة وأئمتها، ثم حفظ كلام الصحابة والتابعين وفتاويهم، وكلام أئمة الأمصار، واعرف كلام الإمام أحمد وضبطه بحروفه ومعانيه والاجتهاد على فهمه ومعرفته. وأنت إذا بلغت من هذه الغاية فلا تظن في نفسك أنك بلغت النهاية، وإنما أنت طالب متعلم من جملة الطلبة المتعلمين. ولو كنت بعد معرفتك ما عرفت موجودا في زمن الإمام أحمد، ما كنت حينئذ معدوداً من جملة الطالبين فإن حدثت نفسك بعد ذلك أنك قد انتهيت أو وصلت إلى ما وصل إليه السلف فبئس ما رأيت. وإياك ثم إياك: أن تترك حفظ هذه العلوم المشار إليها وضبط النصوص والآثار المعول عليها، ثم تشتغل بكثير الخصام والجدال وكثرة القيل والقال وترجيح بعض الأقوال على بعض الأقوال مما استحسنه عقلك، ولا تعرف في الحقيقة من القائل لتلك الأقوال، وهل هو من السلف المعتبر بأقوالهم أو من غير أهل الاعتدال. وإياك أن تتكلم في كتاب الله أو في حديث رسول الله بغير ما قاله السلف كما أشار إليه إمامك، فيفوتك العلم النافع وتضيع أيامك. فإن العلم النافع: إنما هو ما ضبط في الصدور، وهو عن الرسول أو عن السلف الصالح مأثور. وليس العلم النافع: أرأيت وأريتº نهى عن ذلك الصحابة ومن بعدهم ممن إذا اقتديت بهم فقد اهتديت. وكيف يصح لك دعوى الانتساب إلى الإمام، وأنت على مخالفته مصر ومن علومه وأعماله وطريقته تفر. وأعلم وفقك الله: أنك كلما اشتغلت بتلك الطريقة، وسلكت السبل الموصلة إلى الله على الحقيقة، واستعملت الخشية ونفسها المراقبة، ونظرت في أحوال من سلف من الأئمة بإدمان النظر في أحوالهم بحسن العاقبة، ازددت بالله وبأمره علماً وازددت لنفسك احتقاراً وهظماً، وكان لك من نفسك شغل شاغل عن أن تتفرغ لمخالفة المسلمين. ولا تكن حاكماً على جميع فرق المؤمنين، كأنك قد أوتيت علماً لم يؤتوه أو صلت إلى مقام لم يصلوه. فرحم الله من أساء الظن بنفسه علماً وعملاً وحالاً وأحسن الظن بمن سلف، وعرف من نفسه نقصاً ومن السلف كمالاً، ولم يهجم على أئمة الدين ولا سيما مثل الإمام أحمد وخصوصاً إن كان إليه من المنتسبين. وإن أنت أبيت النصيحة وسلكت طريقة الجدال والخصام، وارتكبت ما نهيت عنه من التشدق والتفيهق وشقشقة الكلام، وصار شغلك الرد على أئمة المسلمين والتفتيش عن عيوب أئمة الدين: فإنك لا تزداد لنفسك إلا عجباً ولا لطلب العلو في الأرض إلا حبا ومن الحق إلا بعداً وعن الباطل إلا قرباً، وحينئذ فتقول: ولم لا أقول وأنا أولى من غيري بالقول والاختبار، ومن اعلم مني ومن أفقه منيº كما ورد في الحديث. هذا يقوله من هذه الأمة من هو وقود النار. وأعاذنا الله وإياكم من هذه الفضائح، ووفقنا وإياكم لقبول النصائح بمنه وكرمه إنه أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين. فإن أبيت إلا الإصرار على أن العلم والتفقه هو نقل الأقوال وكثرة البحث عليها والجدال، وأن من اتسع في ذلك ونقب عن عيوب الأئمة بالنظر والاستدلال أعلم ممن لم يكن كذلك، وأن من قل كلامه فليس هنالك. فأقول لك: من هنا اعتقد طوائف من أهل الضلال أن الخلف أعلم من السلفº لما امتازوا به من كثرة القيل والقيل. ونحن براء إلى الله من هذه الأقوال، ولو كان الأمر على هذا لكان شيوخ المعتزلة والرافضة أعلم من سلف الأمة وأئمتها. وتأمل كلام شيوخ المعتزلة كعبد الجبار بن أحمد الهمداني وغيره وكثرة بحوثه وجداله واتساعه في كثرة مقاله، وكذلك من كان من أهل الكلام من سائر الطوائف. وكذلك المصنفون في سائر الكلام، وفي الفقه من فقهاء الطوائف: يطيلون الكلام في كل مسألة أطالة مفرطة جداً. ولم يتكلم أئمتهم في تلك المسائل بتقريرها وكلامهم فيها. هل يجوز أن يعتقد بذلك فضلهم على أئمة الإسلام، مثل: سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، والنخعي، والثوري، والليث، والأوزاعي، ومالك ، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، ونحوهم. بل التابعون المتسعون في المقال أكثر من الصحابة بكثير. فهل يعتقد مسلم أن التابعين أعلم من علماء الصحابة. وتأمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية) قاله في مدح أهل اليمن وفضلهم. فشهد لهم بالفقه والإيمان، ونسبها عليهم لبلوغهم الغاية في الفقه والإيمان والحكمة. ولا نعلم طائفة من علماء المسلمين أقل كلاماً من أهل اليمن، ولا أقل جدالاً منهم سلفاً وخلفاً. فدل على أن العلم والفقه الممدوح في لسان الشارع: هو العلم بالله المؤدي إلى حبه ومحبته وإجلاله وتعظيمه، وهما مع العلم بما يحتاج إليه من أوامره ونوهيه كما كان عليه علماء أهل اليمن قديماً، مثل: أبي موسى الأشعري، وأبي مسلم الخولاني، وأويس، وغيرهم. دون ما زاد على ذلك: من ضرب أقوال الناس بعضها ببعض، وكثرة التفتيش عن عوراتهم وزلاتهم. وهو أن أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيرة مما لا تقدح في إمامتهم وعلمهم، فكان ماذا. فلقد انغمر ذاك في محاسنهم وكثرة صوابهم، وحسن مقاصدهم ونصرهم للدين. والانتصاب للتنقيب عن زلاتهم ليس محموداً ولا مشكوراً، لا سيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ ولا ينفع فيها كشف خطئهم وبيانه. وكذلك كثرة البحوث عن فضول علوم لا تنفع في الدين وتشغل عن الله والاشتغال به، وتقسي القلب عن ذكره ويوجب لأهلها حب العلو والرئاسة على الخلق، فكل هذا غير محمود، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من علم لا ينفع، وفي حديث عنه أنه قال (سلوا الله علماً نافعاً وتعوذوا من علم لا ينفع). وفي حديث عنه (إن من العلم جهلاً)وكان - صلى الله عليه وسلم - يكره إطالة القول وكثرة تشقيق الكلام، ويحب التجوز في القولº وفي ذلك عنه أحاديث كثيرة يطول ذكرها. وكذلك التصدي لرد كلام أهل البدع بجنس كلامهم، من الأقيسة الكلامية وأدلة العقول: يكرهه الإمام أحمد، وأئمة أهل الحديث كيحيى القطان، وابن مهدي، وغيرهم. وإنما يرون الرد عليهم بنصوص الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة إن كان موجوداً، وإلا رأوا السكوت أسلم. وكان ابن المبارك، أو غيره من الأئمة يقول: ليس أهل السنة عندنا من رد على أهل الأهواء، بل من سكت عنهم. ذكر هذا كراهية لما صد عن العلم الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن العمل بمقتضاهº فإن فيه كفاية، ومن لم يكفيه ذلك فلا كفاه الله!

وكل ما ذكرته هاهنا: فأنا أعلم أن أهل الجدال والخصومات يناقشون فيه أشد المناقشة ويعترضون عليه أشد الاعتراض. ولكن إذا وضح الحق تعين اتباعه وترك الالتفات إلى من نازع فيه وشغب وخاصم وجادل وألب. ومن هاهنا يعلم: أن علم الإمام أحمد ومن سلك سبيله من الأئمة أعلم علوم الأمة وأجلها وأعلاها، وأن فيه كفاية لمن هداه الله إلى الحق. ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply