بسم الله الرحمن الرحيم
القضاء::(و (هو الفصل بين الناس في الخصومات) عرفته الفرس و الرومان و اليونان وغيرهم من الأمم المتقدمة, وذلك لكون الإنسان لا يستغني عمن يفصل بينه وبين خصمه في أي قضية من القضايا المهمة مهما كانت. وكان العرب في عصور ما قبل الإسلام كغيرهم من الأمم يتحاكمون عند الوجهاء و العقلاء من أصحاب الرأي ورؤساء القبائل, ولقد اشتهر من هؤلاء القضاة جماعة كانوا يقضون بين من يحضر للتقاضي عندهم في كثير من المشاكل التي تعرض لهم. فمن قبيلة تميم (حاجب ابن زُرارة, والأقرع ابن حابس), وربيعة بن مخاشن) وغيرهم. ومن ثقيف (غيلان بن مسلمة), ومن قريش (هاشم ابن عبد المطلب, وولده عبد المطلب, وحفيده أبو طالب). ومن كنانة (سلمى بن نوفل)(1) .
وهكذا كان من قضاة العرب في الجاهلية الوليد بن المغيرة القرشي, وقيس بن ساعدة الإيادي. وأكثم بن صيفي التميمي, وعامر بن الظرب اليشكري, وغيرهم ممن يجدهم المطلع على كتب الأدب العربي و التاريخ العربى في الجاهلية و في الإسلام. بل قد كان العرب قبل الإسلام يتحاكمون في بعض الأحيان عند امرأة من النساء اللاتي كن يحكمن بين المتقاضين عندهن مثل هند الإيادية, و حذام بنت الريان التي قيل فيها:
إذا قالت حذام فصدقوها *** فإن القول ما قالت حذام(2)
ولقد جاء في كتب التاريخ أن (قيس بن ساعدة الأيادي) كان يقول: \" على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين\".
وأنه أول من قال بذلك كما في السيرة الحلبية(3) ومحاضرة الأوائل(4). كما جاء في كتب التاريخ أن الوليد بن المغيرة أول من قطع في السرقة كما قاله القرطبي, وابن الجوزي(5). كما أنه أي (الوليد بن المغيرة) أول من قضي بالقسامة في الجاهلية وذلك في دم عمرو بن علقمة بن المطلب بن عبد مناف، وكان المطالب لها أبو طالب فكانت هذه القسامة أول قسامة وقعت في الجاهلية كما نص على معنى ذلك في نيل الأوطار(6). ولهذا قالوا عن أبي طالب أنه أول من سن القسامة في الجاهلية كما في شرح نهج البلاغة(7). وهكذا قالوا عن أول من حكم بأن تكون دية الرجل مائة من الإبل أبو سيارة عميلة أبي الأعزل, وقيل أن اسمه العاص حكاه ابن كثير عن السهيلي(8), وقيل بل هو عبد المطلب بن هاشم كما في المدهش لابن الجوزى, و الأوائل للعسكرى(9) وحاضرة الأوائل(10). وقيل بل هو عامر بن الظرب اليشكري(11). وقيل هو النضر بن كنانة(12). وعامر بن الظرب هذا قد قيل عنه أنه أول من قضى في قسمة التركة بأن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين, وقيل بل هو عامر بن جشم(13).
كما قالوا أيضاً عن عامر بن الظرب هذا أنه أول من قضى في الخنثى بالنظر إلى المحل الذي يبول منه(14). وقيل بل هو عامر بن حممه(15).
ومما قالوه عن أكثم بن صيفي أحد قضاة العرب المشهورين وأحد حكمائها (أنه أول من قضى بأن الولد للفراش)(16). وهذا إن دل على شيء فهو أن القضاء كان معروفا عند العرب في الجاهلية، وأنه كان يسند إلى العقلاء من الرجال و النساء, أو إلى رؤساء القبائل، وأن هؤلاء القضاة كانوا يجتهدون في تأسيس بعض الأحكام، ويقضون بين الناس بموجب ما رأوه، ثم يجيء من بعدهم فيحكمون في مثل تلك القضايا بمثل أحكام من قبلهم.
إلى أن جاء الإسلام فأقر الكثير مما كان قضاة الجاهلية قد قضوا به فمثلا في مثل هذه المسائل التي ذكرتها قد جاء القرآن الكريم مقررا لما كان قد قضى به قضاة العهد الجاهلي كعامر بن جشم, وعامر بن الظرب اليشكري, أن للذكر من الإرث مثل حظ الأنثيين. كما جاءت السنة الصحيحة مقررة لما كان قد قضى به أكثم بن صيفى من أن الولد للفرش. وهكذا أقرت السنة ما كان قد قضى به القضاة الجاهليون في قدر الدية حسبما ذكرته آنفا.
كما روي عن الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قضى في الخنثي بالنظر في مخرج بوله مقررا لما كان قد قضى به عامر ابن الظرب أو عامر بن حممة قبل الإسلام. وهذه بعض أمثلة نموذجية للدلالة على أنه كان للعرب قبل الإسلام قضاء. كما كان لديهم قضاة أيضاً. وهكذا كان لهم قواعد قضائية وعادات قبلية يرجعون إليها عند التحاكم. وأن الإسلام قد أقر البعض من القواعد القضائية التي كان العرب يقضون بموجبها ويسيرون على ضوئها.
وهناك أمثلة أخرى لعدة قضايا أخرى مذكورة في كتب التاريخ و الأدب العربي وإنما ذكرته نزرا يسيرا جداً كشاهد على ما نعتقده ونقرره من أن العرب قبل الإسلام كانوا يعرفون القضاء وأنه كان فيهم قضاة ومحكمون، أي كان يوجد فيهم طائفة من القضاة اشتهرت بالذكاء ونفوذ الفكر, وقوة الاستنتاج, وتأسيس بعض المسائل يعمل بموجبها من جاء بعدهم من قضاة العرب قبل الإسلام إلى أن جاء الإسلام فأقر البعض من تلكم القواعد وجعلها من المسائل الشرعية التي جاء بها هذا الدين الخالد. ومن القضايا التي حوتها الشريعة المحمودة الغراء.
هذا كله عن القضاء و القضاة عند العرب قبل الإسلام. أما بعد الإسلام فحدث عن البحر ولا حرج فقد جاء في القرآن من القواعد القضائية الكثير الطيب، كما جاء في السنة النبوية المطهرة من المسائل الشرعية و الأحكام الفقهية مالا يعد ولا يحصى. كما استنبط السلف من الصحابة و التابعين ومن أئمة الفقه الإسلامي من أصحاب المذهب المنقرضة ومن أصحاب المذاهب الإسلامية المتبوعة ما لا يحصره الحاصرون ولا يتمكن من عده العادون.
وهكذا من جاء بعدهم من أتباعهم ومن المجتهدين المستقلين في أفكارهم عبر القرون، كلهم قد استخرجوا عدة مسائل لا يعلم عددها إلا الله. ولقد أنجبت الأمة الإسلامية التي أخبر القرآن بأنها خير أمة أخرجت للناس الآلاف من الفقهاء و القضاة من جميع الشعوب الإسلامية و العربية على اختلاف مذاهبها وطوائفا وآرائها، من عصر النبي- صلى الله عليه و على آله وسلم- إلى يومنا هذا، على مدى أربعة عشر قرنا. نقول هذا ردا على بعض الملحدين من رجال الغرب الذين زعموا أن العرب و المسلمين لا يعرفون القضاء وأنهم كانوا يقتبسون القواعد القضائية من الفرس و الرومان وغيرهم من الأمم المتحضرة التي اختلط أهلها بالعرب بعد الفتح الإسلامي للبلدان التي كانت تحت سلطتها {كَبُرَت كَلِمَةً تَخرُجُ مِن أَفوَاهِهِم إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}.
وهكذا كان العرب في بعض الأحيان يتحاكمون إلى الكهان و العرافين كما في قصة محاكمة عتبة ابن ربيعة، و الفاكه بن المغيرة زوج ابنته (هند بنت عتبة) إلى أحد كهان اليمن وذلك حينما اتهم الفاكه ابن المغيرة زوجته هند بجريمة أخلاقية هي بريئة منها. فكان الحكم من الكاهن اليمني ببراءة هند من التهمة التي اتهمها بها زوجها المذكور قائلا لها: \"اذهبي غير عاهرة و لا زانية و ستلدين ملكا اسمه معاوية\". قالوا ففرحت هند ببراءتها فرحا عظيما كما أنها طلبت من زوجها الطلاق، وذلك لكي لا يكون هذا الملك من أولاد زوجها الذي ألصق بها تهمة شنيعة لا أصل لها في الواقعº لأنه لا يتصور من مثلها أن تخون زوجها إلى هذا الحد ولاسيما وهي القائلة للنبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: \"وهل تزني الحرة\"؟! وقد قال المؤرخون أن أبا سفيان ابن حرب خطبها بعد مفارقتها للفاكه ابن المغيرة، فرضيت به زوجاً لها وأبا للمولود الذي تكهن به هذا الكاهن. وأنه لما ولد لها ولد منه سمته (معاوية) وهو معاوية بن أيي سفيان المشهور و القصة بطولها مذكورة في المستطرف وغيرها من كتب الأدب العربي كما هي مذكورة في كثير من كتب التاريخ(17).
وهذا ومما يجب التنبيه عليها هاهنا هو أن القضاء عند العرب في الجاهلية يختلف عن القضاء بعد الإسلام في أمرين رئيسيين:
الأول: أن القضاء في الجاهلية لم يكن يستند إلى نص مكتوب أو إلى كتاب مسطور, وإنما كان يعتمد على الأعراف و العادات ومقتضيات العدل و الحكمة. أما القضاء في الإسلام فيعتمد على الكتاب (أي القرآن), و السنة, و الإجماع, و القياس, وكذلك على الأعراف و العادة بشرط أن لا يخالف العرف و العادات نصا في القرآن أو السنة. لا مطلقا, وذلك لأنه لا يخفي أن الاعتماد على العرف و العادات وحدهما يجعل القضاء بعيداً في بعض الأحيان عن العدالة الصحيحة و مباديء الحق الطبيعي, وذلك مثل عادات وأد البنات في الجاهلية, فإنها عادة رذيلة سيطرت على المجتمع الجاهلي, و اتبعها سادة القوم وأشرافهم حتى جاء الإسلام بإبطالها.
الأمر الثاني: هو صفة الإلزام في الحكم، ففي الجاهلية كان الطرفان يخضعان للحكم تحت التأثير الأدبي، أو تحت تأثير الرأي العام في القضايا الهامة. وكثيراً ما كان يرفض أحد المتخاصمين الخضوع لحكم المحكم ويطلب الاحتكام إلى غيره، ولم يكن في ذلك ضير وإذا لم يقتنع الخصم بحكومة المحكم ولم ينفذ مضمونها فليس هناك سلطة تفرض عليه التنفيذ إلا الخوف من الخصم. و بالتالي فإن صاحب القوة و البطش لا سلطان عليه و الحق للقوة أخيراً. في حين أن القضاء في الإسلام يختلف عن ذلك فقد اختصم رجلان إلى رسول الله في أمر من الأمور فقضى الرسول - عليه الصلاة والسلام – لأحدهما فلم يقبل الثاني ما حكم به الرسول فنزل قول الله - عز وجل -: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا} فقد أعطت هذه الآية صفة جديدة للقضاء لم تكن معروفة في الجاهلية هي صفة الإلزام وقد شدد الله فنفى عنه صفة الإيمان بقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ}, ولم تكتف الآية بالخضوع الناتج عن الكره و الجبر, وإنما أوجب الله التسليم المطلق بقوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا} ومن المعروف أن ﴿تَسلِيمًا﴾ مفعول مطلق لفعل ﴿وَيُسَلِّمُوا﴾ و الإطلاق يفيد المبالغة في التسليم للحكم ذلك لأنه لا قيمة للقضاء إذا لم تكن أحكامه ملزمة للجميع(18).
و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيد المرسلين وآله وصحبه وسلم.
----------------------------------------
(1) التمدن الإسلامي تأليف جرجي زيدان الجزء الأول.
(2) مجلة الوعي الإسلامي الكويتية العدد (11) الصفحة (55).
(3) صفحة (143) جزء (2).
(4) محاضرة الأوائل ص 14.
(5) تفسير القرطبى جزء (6) ص 162 و المدهش لابن الجوزي ومحاضرة الأوائل.
(6) نيل الأوطار جزء (8) ص (188).
(7) شرح نهج البلاغة المجلد (3) الجزء (15).
(8) انظر البداية و النهاية لابن كثير جزء (1) صفحة (306).
(9) صفحة(23).
(10) صفحة(108) وهي للشيخ علي دره.
(11) السيرة الجلية جزء (1).
(12) أوائل العسكرى ص (23).
(13) المدهش.
(14) محاضر الأوائل.
(15) نهاية الأرب للألوسى ص 176.
(16) الأوائل للعسكري ص 111 ومحاضرة الأوائل ص 86.
(17) راجع المستطرف الجزء الثاني ص (81-82).
(18) القضاء و القضاة تأليف محمد شكيب أرسلان بتصرف يسير ص 50-51-52.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد