بسم الله الرحمن الرحيم
كان يسير وسط الحقول.. متعباً.. وكان يظهر التعب على وجهه، ولكنه يسرع الخطا.. نظر إلى السماء (لابد أن أسير بسرعة.. لم يعد هناك وقت لأذان المغرب.. يا لله.. المسافة طويلة.. أكان لابد أن يرسلني أبي إلى خالتي فاطمة؟!.. كان من الممكن أن يؤجل الذهاب إلى الغد، ولكن أبي أمرني ولا أستطيع أن أعصى له أمراً.. صائم يا أبي، والحمارة في الحقل تعمل، ولا بد أن أذهب إلى خالتي لأعطيها الدواء الذي أحضره أخي من القاهرة.. مسكينة يا خالتي.. مريضة ولكنك تصومين، والصيدليات في قريتنا لا تأتي بهذا الدواء، ولا صيدليات في قريتكم.. لابد أن أسرع.. لا فائدة.. وجب الإفطار).
سمع من بعد أصوات مآذن تشق السماء
الله أكبر، الله أكبر
(ماذا أفعل الآن.. شيخ الجامع الكبير وأبي دائماً يقولان إنه من السنة تعجيل الفطر، ولكن أين ما أفطر به)
نظر حواليه.. لاشيء غير الأرض التي تغطيها الخضرة وشجرات متفرقة.. يمشي ينظر يميناً وشمالاً.. هناك على غصن شجرة تتدلى قلة.
(الحمد لله، هذه قلة ماء.. قلة ماء في رمضان!!.. ربما وضعها أصحابها هنا لتبرد ثم نسوها، الحمد لله أن وضع هذه القلة في طريقي)
أمسك بالقلة.. قبل أن يشرب قال.. (اللهم إني لك صمت وبك آمنت وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله..)
الماء عذب بارد جميل، وهو عطشان جوعان، ولكنه لم يشرب كثيراً.. كان يعلم أنه من السنة أن يفطر الصائم على حسوات ماء.. وضع القلة مكانها على الشجرة.
(والآن، ماذا أفعل؟ أواصل المشي أم أصلي أولاً؟.. سأصلي ولا أطيل، بعد ذلك يفرجها ربنا.. نعم أنا خائف من الليل والظلام، ولكن الليل جميل، والقمر جميل، والله معي).
كان متوضئاً.. توجه للقبلة ثم صلى.. دعا في صلاته «يا رب، جائع فأطعمني.. يا رب، اغفرلي.. واشف خالتي فاطمة.. وارزق أبي، ووفقني لفهم دروسي الصعبة، وأنجحني في الامتحان».
أنهى صلاته ثم سار.. يمشي. على البعد رأى شبحاً..
(ما هذا الشبح الذي أراه.. أيمكن أن يكون أحد أنهى إفطاره بهذه السرعة وجاء يعمل في الحقل.. لا أظن)
صوت يشق السكون.. يا أخ.. يا أخ..
إنه يناديه.. توقف عن المسير.. كان هناك ولد صغير يجري ناحيته.. كان يبتسم.. وصل الولد إليه.. وقف عنده.. كانت أنفاسه تتلاحق وهو يقول:
أبي رآك وأنت تصلي، ووعدني إذا جئت بك لتفطر معنا فسيعطيني جنيهاً كاملاً مكافأة.. تعال عندنا، افطر معنا ثم امش..
كان الولد الداعي يشير بيده إلى أسرة صغيرة تجلس على الأرض في حقل قريب.. كان صاحبنا يعلم أن هذه الأسرة اضطرت للإفطار خارج دارها لتروي أرضها.. بعد ثلاثة أيام، سيروي أبوه أرضهم، وسوف يفطر معه في الأرض كما اتفقا..
لم يقبل الدعوة على الفور.. حاول أن يعتذر، ولكن الأب نفسه أتى إليه.. كان رجلاً كبيراً بصوت ودود قال.. (لا تحرمنا من ثوابك.. نحن إخوة، ونحن في رمضان، شهر الكرم والخيرات، لقمة بسيطة تأكلها معنا ثم نوصلك بالحمارة..)
لم يستطع أن يرفض.. يمشي مع الأب وابنه.. كان يبتسم ويقول في نفسه (نعم.. صدق رسول الله «للصائم دعوة مستجابة».. سأفطر مع هذه الأسرة الطيبة.. وسوف يشفي الله خالتي ويرزق أبي وأنجح في الامتحان).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد