يعد إعداد الجيش وتجهيزه في دولة ما من أهم عناصر وجود تلك الدولة، ولذلك تسعى كل دولة إلى إيجاد الجيش القوي والمتدرب وإلى تسليحه بأفضل أنواع السلاح وأحدثها، وأكثرها تطوراً، وهذا هو المطلوب من الدولة الإسلامية من باب أولى.
ولكن ما حكم الإسلام في دخول المسلم صفوف الجيش غير الإسلامي؟ وهل يجوز للمسلم أن يخدم في جيش غير إسلامي؟ قبل أن نقرر حكماً شرعياً في هذا الموضوع لا بد أن ننظر إلى الحال التي يعيشها المسلمون اليوم، سواءً في البلاد الإسلامية أو غير الإسلامية، كالأقليات المسلمة التي توجد في دول غير إسلامية، ولا خلاف أن الدخول في صفوف الجيش في ذلك البلد، من واجبات الجنسية التي تعيش فيها الأقليات الإسلامية خدمة إجبارية وفي بعضها غير ذلك.
ومن المتفق عليه أن الإسلام يحث المسلمين على الاستعداد، وتدريب الجسم لكي يكون المسلم مستعداً دائماً للجهاد، ومجاهدة أعدائه، لأن الحق لا يحميه إلا القوة، ومن ثم فإن مشاركة المسلم ودخوله في جيش دولة غير مسلمة بنية التدرب واكتساب مهارات القتال وفنونه يكون جائزاً، وقد يصل إلى درجة الوجوب.
والأدلة على ذلك ما يلي:
1- قوله - تعالى -: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ([سورة الأنفال: 60]
يقول سيد قطب عند تفسير \" القوة \" الواردة في الآية: \" إنها حدود الطاقة إلى أقصاها، بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها \"(1).
ويقول الرازي في تفسير هذه الآية: \" هذه الآية تدل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح وتعليم الفروسية والرمي فريضة إلا أنه من فروض الكفايات \"\"(2).
من هنا أرى أن على الأقليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية أن يدخلوا الجيش ويتعلموا على الأسلحة والعلوم العسكرية الأخرى أخذاً بظاهر الآية وعمومها، بل من الممكن أن نعتبر هذه الخدمة العسكرية نعمة أعطيت لهؤلاء المسلمين، حيث لولاها لكان من الصعب عليهم أن يتعلموا هذه العلومº لأن تمليك الأسلحة ممنوع في معظم بل في جميع الدول، فكيف لهم أن يتعلموا بدون التدرب على السلاح؟
2-قوله - صلى الله عليه وسلم -: \" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز \"(3).
وجه الدلالة
إن المراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد، وأسرع خروجاً إليه وذهاباً في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى وفي كل ذلك احتمال المشاق في ذات الله تعالى\"(4).
وكل هذا لا يحصل إلا بالتعليم والتدريب، والخدمة في الجيش هي وسيلة إلى القوة، ومن هنا يكون ذلك واجباً ولو عند الكفار إذ لم يكن ذلك ممكناً عند المسلمين.
3-من القواعد الفقهية: مثل قاعدة ارتكاب أخف الضررين \"(5) أي إن كان في الخدمة في الجيش غير الإسلامي بعض الضرر ولكن ترك الخدمة من جهة المسلم ضرر أعظم حيث يبقى جاهلاً في العلوم العسكرية ومن ثم غير مستعد لمواجهة الأعداء في حالة وقوع الحرب فيكون عاجزاً عن الدفاع عن دينه ونفسه وعرضه وماله.
وقاعدة: لا ضرر ولا ضرار \"(6) حيث لا يجوز للمسلم أن يضر نفسه ولا غيره، ولكن لو ترك المسلمون الذين يعيشون كأقلية في دول غير إسلامية الخدمة لنتج من ذلك ضرر على أنفسهم، حيث يبقون غير مستعدين عسكرياً وفي ذلك ضرر على المسلمين، حيث يحرمون بذلك من المساواة في الحقوق مع سائر الناس في تلك المجتمعات. وهذا لا يجوز في حق المسلمº لأنه يعيش عندئذ بلا كرامة إنسانية.
وقاعدة: المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة \"(7)، أي وإن كان يترتب بعض المفاسد على الدخول في الجيش غير الإسلامي التي تقع على بعض الأفراد ولكن لا يلتفت إلى ذلك نظراً إلى المصلحة التي تعود على المسلمين جميعاً.
4-الواقع والمشهود حيث نرى أن المسلمين الذي تدربوا في الجيوش غير الإسلامية كان لهم دور كبير في مساعدة أهلهم في الحروب الدائرة في البوسنة والهرسك، وفي الجمهوريات الإسلامية ـ تحت سيطرة روسيا حيث لم يحتاجوا إلى التدريب بل شاركوا مباشرة في الحرب وعلّّموا الآخرين على ذلك، وكانوا قادرين على أن يستعملوا أي سلاح كانوا يشترونه أو يغنمونه، ولو لم يكونوا دخلوا في الجيش لما علموا ذلك ولكانوا بحاجة إلى التدريب وقتاً طويلاً والعدو لن ينتظر، ومن ثم فإنه سيحتل مناطق أكثر مما احتلّ.
5-المعقول: الجهاد و الاستعداد هو واجب على جميع المسلمين أينما كانوا وهذا يتطلب مالاً كثيراً لا تملكه تلك الأقليات الإسلامية غالباً، ولو كانوا يملكونها ما سمحت لهم الحكومات في تلك الدول أن يؤسسوا هذه المؤسسات، ومن هنا ليس من المعقول أن يرفض المسلم أداء الواجب الذي أوجبه الله عليه لبعض شبهات وهمية.
يقول الشيخ رشيد رضا - رحمه الله - تعالى-: \" وإنني أعتقد أن محاربة مسلمي روسيا لليابان - يريد الحرب التي نشبت بينهما سنة1904م- ليست معصية لله - تعالى -، ولا ممنوعة شرعاً، وأنها قد تكون مما يثابون عليها عند اللهº إذا كانت لهم نية صالحة: \" إنما الأعمال بالنيات\"، وللنية الصالحة في حرب المسلم مع دولته غير المسلمة وجوه منها أن طاعته إياها تدفع عن إخوانه من رعيته شيئاً من ظلمها وشرها إذا كانت استبدادية ظالمة، وتساويهم بسائر أهلها في الحقوق والمزايا إذا كانت عادلة. أو تفيدهم ما دون ذلك إذا كانت بين بين.
ومنها أن العلوم والأعمال الحربية لا تزال من أهم عناصر الحياة الاجتماعية في البشر، فإذا حرم منها شعب من الشعوب ضعفت حياته، والضعيف لا يكون إلا ذليلاً مهيناً، والخير للمسلين من رعايا تلك الدول أن يكونوا مشاركين لسائر أهل الملل فيها في جميع مقومات الحياة الاجتماعية، أقوياء بقوتهم أعزاء بعزتهم، لا أن يكونوا فيهم ضعفاء أذلاء بدينهمº فإن الدين الإسلامي لا يبيح لأهله أن يختاروا الضعف والذلة على القوة والعزة، وإذا هم اختاروا ذلك عجزوا عن حفظ دينهم، فكان ذلك إضاعة الدين نفسه فلا يلتفت إلى متعصب جهول يقول لك: إن المنار يبيح للمسلمين أن يعتزوا بالكافرين إلا إذا رأيته يعقل بالكلام، فقل له: إنه ينصح للمسلمين بأن يختاروا العزة على الذل مهما كان مصدر العزة، والقوة على الضعف، ويرى أن حفظ الإسلام في داره لا يكون إلا بذلك، ويتمنى نصارى العثمانيين لو تدخلهم الدولة في الجندية لذلك \"\"(8). وما عرضنا من الأدلة نرى أن دخول المسلم في الجيش غير الإسلامي في هذه الظروف والأحوال بالنية الصالحة جائز بل واجب، (أما إذا كانت النية تحصيل منصب دنيوي أو وظيفة فلا يجو لأن الأصل عدم جواز تقوية الكافرين) ولذلك أنصح إخواننا الذين يعيشون هذه الحال أن لا يترددوا في ذلك، وأن يرسلوا أولادهم إلى المدارس العسكرية ليكونوا ضباطاً في الجيشº لان ذلك وسيلة لتقوية الإسلام والمسلمين في تلك البلاد، وعليهم قبل ذلك أن يعنوا بتربيتهم الإسلامية الأصيلة لكي يكون لديهم المناعة من كل الانحرافات، وتوجيههم إلى المقصد الشرعي من الدخول في هذا المجال.
وقد يقول قائل: وكيف تجيز للمسلم الدخول في الجيش غير الإسلامي وهو متعرض للإذلال من قبل الضباط الكفرة ولا يسمح له أن يمارس الشعائر الدينية؟ نقول: اليوم وفي جميع جيوش العالم تقريباً هناك حقوق وواجبات للجنود محفوظة بالقوانين، وإذا حصلت أية مخالفة لهذه الحقوق من قبل بعض الضباط في حق الجندي فيحق له أن يشتكي ذلك الضابط إلى قضاء الجيش، وحجتي أنه يسمح للجندي المسلم أن يمارس شعائره الدينية داخل هذا الجيش، وأن أكثر الدول في العالم بدأت تتجه هذا التوجه، إذ أنهم يعلمون أن الجيش لا يمكن له أن يكون في المستوى المطلوب من القوة إلا إذا توفر لجنوده كل الاحتياجات المادية والمعنوية، وعلى رأسها النواحي الروحية، وهم يعلمون كذلك أن عدداً من الجنود المسلمين يكونون لبنات أساسية في جيوشهم ولا بد من المحافظة على هذه اللبنات.
ويمكن أن يقال: ماذا سيفعل هؤلاء إذا نشبت الحرب بين تلك الدولة وبين دولة أخرى غير مسلمة، أو دولة مسلمة؟ هذا ما سنبحثه في الحلقات القادمة إن شاء الله - تعالى -.
----------------------------------------
(1) في ظلال القرآن 3/1544.
(2) تفسير الرازي 9/191-192.
(3) رواه مسلم، صحيح مسلم، 4/2052.
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 16/215.
(5) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص89 والأشباه والنظائر للسيوطي ص87
(6) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، ص 85 وللسيوطي، ص 83.
(7) الأشباه والنظائر، لابن نجيم ص 88، والأشباه والنظائر للسيوطي، ص 87، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/41، المادة 28.
(8) فتاوى رشيد رضا 2/565-566.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
......
04:46:25 2021-01-06