بسم الله الرحمن الرحيم
رمضان جديد يطل على أمة الإسلام وأهل الإسلام في مزيد من التقهقر والانقسام نتيجة الأحداث السياسية الجارية في العالم، فبين فريق مؤيد للقوى الدولية التي تفرض نفسها إلهاً جديداً على الدول والشعوب تحكمهم وتخضعهم لسياساتها وتتدخل في شئونهم الداخلية، وبين فريق آخر رافض لسياسة الذل والمهانة وما يتبع ذلك من إلغاء للشخصية الإسلامية الحرة التي لا تؤمن إلا بوجود رب واحد يحكم هذا الكون وفق دستور وسنن ثابتة.
وفي ظل هذا التناقض تفكرت في رمضان هذا العام ورأيت فيه معانٍ, جديدة لم تظهر لي سابقاً، ورأيت في هذا الشهر خطاباً جديداً متحدياً يمكن أن يستنبط منه إثبات جديد على وحدانية الخالق ونفاذ حكمه على العالم الذي أوجده.
وخطاب التحدي هذا لا ينحصر في رمضان وحده بل يمكن للمتفكر أن يلحظه في كل العبادات على الإطلاق، وإن كان في رمضان أكثر وضوحاً، فإذا تفكرنا في الحج مثلاً نجد في مظاهر الانقياد والأخوة والتعاون لإرادة الله - سبحانه و تعالى - تحدياً للعولمة التي تدعو إلى الفردية ونبذ الآخر، إلا أن هذا التعاون لا نلمسه عند المسلمين كافة وذلك لكون هذه العبادة غير مفروضة إلا على من استطاع إليها سبيلاً.
أما عبادة الصوم في رمضان فإنها تتميز بتنوع العبادة وشموليتها، ويتجلى هذه التنوع بصيام الليل وقيام النهار والصدقة والتعاون وغير ذلك مما سيتم الحديث عنه لاحقاً إن شاء الله - تعالى -، كما تتجلى الشمولية في قدرة هذا الشهر على توحيد المسلمين في أنحاء العالم كافة، وتجديد ولائهم، حتى العصاة منهم، لله الواحد مثبتين بذلك عالمية الإسلام التي لا يمكن أن ينافسه فيها أية عقيدة أو فكر بشري مهما بلغت درجة رقيها وتقدمها.
من هنا جاءت خواطري هذه حول كيفية تحدي رمضان للعولمة.
ففي رمضان إثبات لحاكمية الله - سبحانه و- تعالى - على العباد، فالمسلم في هذا الشهر يجدد انتماءه لله الواحد القهار، الحاكم بأمره، السّان لكافة القوانين الدنيوية والأخروية، المرتكزة على قاعدتي الطاعة والعبادة، لقوله - تعالى -: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون)، الذاريات: 56-57، والمبنية على حرية الاختيار التي لا تحرم المختار حقه في التمتع بالحياة الدنيوية مع تحمله لما يترتب على ذلك من ثواب وجزاء وذلك على القاعدة المستقاة من قوله - تعالى -: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي): البقرة: 256.
وهذا الأمر هو على نقيض حاكمية العولمة التي تفرض سيطرتها على الإنسان بالقوة والإكراه، فارضة عليه طاعة قوانين وضعية لا تؤمن له أدنى مستويات العيش الكريم من جهة، وتساعد غيره على إحكام سيطرته على موارده البشرية والمادية من جهة أخرى، وذلك دون أي مقابل لهذه الطاعة اللّهم إلا مزيداً من الانكسار والذل والحرمان.
وفي رمضان أيضاً تحد كبير للعولمة الفكرية التي تبث أفكاراً غربية تروج لفكرة التمتع بالشهوات المادية والجسدية دون أية ضوابط أو تحمل للمسئولية، مدّعين أن إطلاق العنان للشهوات يساعد على حصول الإنسان على حريته وسعادته، في حين أن الصوم يثبت أن السعادة والحرية الحقيقيتين لا تكون بالتمتع بالشهوات بل في الترفع عنها، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قال:\"ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، و ثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه\"، رواه الترمذي.
لهذا جاءت أقوال بعض العلماء في الماضي والحاضر تؤكد على أن السعادة ليست في التمتع بالشهوات وإنما في ضبطها ووضعها الموضع الصحيح الذي لا يحط من إنسانية الإنسان، فقد قال أحد علماء الإسلام:\"إن السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة في أن تملكه نفسه\". وأكبر دليل معاصر على عدم وجود ترابط بين المادة والسعادة ما أشار إليه أحد علماء الغرب وهو\"روبرت رايت الباحث في جامعة بنسلفانيا\"من أنه لا تلازم بين مسار المال والرخاء المادي مع السعادة،إذ تبين أن الدول الفقيرة أكثر سعادة من الدول الغنية التي تتمتع بكل أسباب الرفاه المادي.
وفي رمضان أيضاً تحد كبير للعولمة الاقتصادية التي تسعى لفرض نظام موحد قائم على الفردية ونبذ الآخر وإغراقه بالديون والضرائب التي تزيده تبعية وفقراً في الوقت نفسه الذي تزيده هو استغلالاً وغنى، وهذا الكلام ينطبق مع الفكرة\"الأساسية للرأسمالية التي تقوم على القول بأنه من لا يستطيع كسب قوته ينبغي أن يموت!!! وهناك أصوات في الغرب الاقتصادي تنادى بأن المليار من فقراء العالم الثالث، كما يطلق على المجتمعات ذات الاقتصاد المتخلف، زائدون عن الحاجة لذا يجب الخلاص منهم لأن البقاء هو للأقوى\".
لهذا جاء الصوم في هذا الشهر لينقد هذه النظرية وليثبت حق الفقير بمال الغني إن كان عن طريق الصدقة أو عن طريق الزكاة، فقال - تعالى -: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)، الذاريات، آية 19. وقال أيضاً: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)،التوبة، 103.
هذا ويوضح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المسؤولية التي تقع على عاتق المؤمن بتوجيهه للمؤمن أن يتصدق بفضل ماله على أخيه، فقال - صلى الله عليه وسلم -:\"من كان معه فضل ظَهر فليَعُد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له\"رواه مسلم.
وإذا كان هذا الحكم عاماً في كل الأوقات فهو أشد رسوخاً في شهر رمضان حيث تكثر فيه الأحاديث التي تشجع على إفطار الصائم والتصدق على الفقراء والمساكين، وقد ورد في السنة النبوية الشريفة عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت:\"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جواداً وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان يأتيه جبريل فيتدارسان القرآن، فلَرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة\"، رواه البخاري.
هذا من ناحية الصدقة وإطعام الفقير والسكين، أما بالنسبة للزكاة فإن في قيام كثير من المسلمين بأداء فريضة الزكاة في مثل هذا الوقت من كل عام مساهمة في رفع الضيم عن الفقير وابن السبيل ومساهمة في إعمار وتنشيط بعض المرافق الضرورية من أجل رفع مستوى حياة المسلم وإشعاره بإنسانيته.
وفي رمضان أيضاً تحد آخر للعولمة الاجتماعية التي تسعى إلى عزل الإنسان عن أسرته ومجتمعه، فيأتي الاجتماع العائلي على الطعام ليوحّد العائلة المفتتة من جديد، وليظهر تمسك المسلم بنظامه الاجتماعي القائم على حب أفراد العائلة لبعضهم البعض، وسعيهم لمرضاة رب العالمين وحده الذي حدد لهم أهدافهم في الحياة.
فإذا أخذنا المرأة التي هي ركن البيت المسلم نجدها في رمضان أكثر تحدياً لنظام العولمة الذي يحاول ان يفرض عليها مبادئه الداعية إلى رفض نظام الأسرة التقليدي القائم على القوامة والطاعة وما إلى ذلك من مفاهيم تسعى إلى تقويض بنى الأسرة، فنجد المرأة في هذا الشهر مهما كان انشغالها تسعى إلى تأمين اللقمة الطيبة لعائلتها دون أي مبالاة بمن يجد في العمل المنزلي إنقاصاً لكرامتها.
وإذا أخذنا الزوج ورب الأسرة وجدنا في اجتماعه اليومي بأسرته وتركه العمل والجري وراء لقمة العيش تأكيداً على مبدأ المودة والرحمة التي تبنى عليها الأسرة المسلمة، وينعكس هذا اللقاء اليومي لمدة شهر راحة واطمئناناً على أفراد الأسرة وخاصة الأولاد الذين قد يعانون من قلة هذه اللقاءات خلال السنة، وصدق الشاعر حين قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلّت أو أباً مشغولا
كما تأتي العلاقات الاجتماعية بين أفراد المسلمين وتزاورهم وتوادهم في رمضان، لِيُثبت أهمية تماسك المسلمين فيما بينهم وتراصهم الذي حث عليه الإسلام، ويتجلى هذا الأمر في تصرفات المسلم المتنوعة، والتي منها:
1- امتلاء المساجد ودور العبادات بالمسلمين من مختلف الأعمار والجنسيات مثبتين المساواة بين المسلمين كافة، قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -:\"الناس سواسية كأسنان المشط لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى\"، ومثبتين أيضاً تمسكهم بالجماعة التي بيّن فضائلها رسول الله - عليه الصلاة والسلام - بقوله:\"ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان. فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية\"، رواه أبو داود.
2- امتناع المسلم عن إيذاء أخيه المسلم أو الإساءة إليه ولو بالكلمة، وقد جاء هذا النهي على لسان رسول الله - عليه الصلاة والسلام - الذي قال:\"إذا كان أحدكم صائماً، فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم\"، أخرجه مسلم.
3- مسارعة المؤمن إلى إدخال الفرح والسرور على قلوب الآخرين عبر أي عمل خيري تطوعي، وإن كان عن طريق إطعام الضيف في رمضان، كل ذلك بهدف اكتساب الثواب في الدنيا والآخرة، قال - عليه الصلاة والسلام - مبيناّ فضل من فطّر صائماً:\"من فطّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئ\"، رواه الترمذي.
هذا وقد بين الشهيد سيد قطب فرح الإنسان وسعادته بعطاء الآخرين بقوله:\"بالتجربة عرفت أنه لا شيء في هذه الحياة يعدل ذلك الفرح الروحي الشفيف الذي نجده عندما نستطيع أن ندخل العزاء أو الفرح إلى نفوس الآخرين\".
هذا الفرح بالعطاء أثبته علماء الغرب ولكن الفرق بيننا وبينهم أنهم يحدّدون هذا العطاء بدولارات قليلة وذلك تخفيفاً لعقدة الذنب التي قد يمكن أن يشعروها تجاه الفقراء، وقال\"روبرت رايت\": إذا وجدت أنك لا تستطيع النعاس حزناً على حال عمال أُغلق مصنعهم في سري لانكا وأصبحوا بلا عمل نتيجة لبطء طفيف طرأ على العولمة، هناك سبل يمكن اتباعها لتخفيف إحساسك بالانزعاج من ذلك، ومن هذه السبل أن تتبرع ببعض النقود للمؤسسات الخيرية التي توزع الطعام والغذاء على الشرائح الأشد فقراُ في العالم\".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد