بسم الله الرحمن الرحيم
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.
معنى الحديث: أن من صام شهر رمضان مؤمناً بفرضيته وثوابه مخلصاً في صيامه وطلبه الثواب من الله وحده فإن ثوابه غفران الذنوب الصغيرة المتعلقة بحق الله - تعالى -.
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغُلَّقت أبواب النار وصُفِّدت الشياطين) متفق عليه. وإنما تفتح أبواب الجنة في هذا الشهر لكثرة الأعمال الصالحة، وترغيباً للعاملين، وتغلق أبواب النار لقلة المعاصي من أهل الإيمان (وتصفد الشياطين) أي: تُقيَّد فلا تصل إلى ما كانت تصل إليه منهم في غيره.
هؤلاء قومٌ حازوا السبق، وتربعوا على قمم الفوزº أدركوا رمضان وأحسنوا فيه الاحتساب والقيام ثم أدركوا العشر الأواخر من رمضان وأصروا على التميز فيها، لعلمهم أن هذه الليالي أفضل ليالي العام وأنها تبغي تقديمهم إلى ربهم بثوب قشيب..
* هم القوم منهم من تغنى بالقرآن وختم الختمات ذوات العدد.. وأقلها ثلاث ختمات مجودات.
* وهم القوم صلوا ليل تلك الليالي حتى تورمت أقدامهم.. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان - صلى الله عليه وسلم - يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!. قال - صلى الله عليه وسلم - (أفلا أكون عبداً شكوراً) متفق عليه.
* هم القوم لم يناموا من الليل إلا قليلا وحرصوا على أن يقرؤوا في اليوم والليلة أكثر من ألف آية عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، و من قام بمائة آية كُتب من القانتين، و من قام بألف آية كُتب من المقنطرين) رواه أبو داود و ابن خزيمة في صحيحه، كلاهما من رواية أبي سرية عن أبي حجيرة عن عبد الله بن عمرو، و قال ابن خزيمة إن صح الخبر فإني لا أعرف أبا سرية بعدالة و لا جرح، و رواه ابن حبان في صحيحه من هذه الطريق أيضاً إلا أنه قال: ومن قام بمئتي آية كُتب من المقنطرين.
* ويبرز فيهم رافع ليديه بدعاء وتضرع وتذلل وسؤال للملك وإلحاح فالدعاء في حياته، لا غنى له عنه ما دام فيه عرق ينبض، إذ هو الدواء إذا استفحل الداء، وهو البرد إذا اشتد الحر {وَقَالَ رَبٌّكُمُ ادعُونِي أَستَجِب لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
* وذو همة عالية أدرك الفلاح فلم يفتر من ذكر الله إذ لسانه رطباً ندياً.. على الأقل ألف من الأذكار والأوراد النبوية الشريفة و الاستغفار بالأسحار.. قال - تعالى -: {وبالأسحار هم يستغفرون}. [الذاريات: 18]
* وفيهم أخت مؤمنة ذات زوج ٍ, وأولاد ترعى أمرهم وقلبها معلق بالعبادات إذ هي مجتهدة وقد أحسنت الاحتساب وتجديد النيات وحسن اغتنام الوقت فلم تشغلها أعمال البيت عن الاستماع للختمات المجودة وترديد الدعاء والأذكار.
* وثم المقنطرون اختاروا صحبة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فأكثروا السجود.. فحرصوا على النوافل والزيادة قال - صلى الله عليه وسلم - (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أتمها كتبت له تامة. وإن لم يكن أتمها قال الله لملائكته انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها فريضته) رواه أحمد وغيره.
* ومنهم وفيهم مؤمن ومؤمنة يبسطان يديهما بالصدقة والتبرع والإطعام آناء النهار وأطراف الليل.. قال - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبتُم وَمِمَّا أَخرَجنَا لَكُم مِنَ الأَرضِ وَلا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنفِقُونَ وَلَستُم بِآخِذِيهِ إِلا أَن تُغمِضُوا فِيهِ وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيُّ حَمِيدٌ * الشَّيطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقرَ وَيَأمُرُكُم بِالفَحشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَغفِرَةً مِنهُ وَفَضلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة 267- 268] وقال - تعالى -: {وَأَنفِقُوا مما رَزَقنَاكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَولا أَخَّرتَنِي إِلَى أَجَلٍ, قَرِيبٍ, فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10 ]
* ومنهم من حرص على إحياء الدين والسنن المندثرة وتطبيقها في حياته ويومه كله مثال على ذلك السواك.. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) متفق عليه. وغيرها من السنن المندثرة فنال بذلك ميراث النبوة.
* هم القوم الذين يحرصون على بيوت الجنة.. فيحرصون على اثني عشر ركعة في اليوم والليلة.. نوافل الصلاة المؤكدة قال - صلى الله عليه وسلم -: (ما من عبد مسلم يصلي لله - تعالى - في كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه مسلم.
* وبينهم وفيهم مؤمن أو مؤمنة تفنن في إرضاء والديه أو أحدهما فصعدت منهما دعوة من غير وسيط لتلقى القبول فيرتقي.. ويقول - عليه الصلاة والسلام - حِكَايَةٌ عَنِ الله - تعالى -: (قُل للبَارِّ لِوَالِدَيهِ اعمَل مَا شِئتَ فَإنَّ الله يَغفِرُ لَكَ).. ويقول - عليه الصلاة والسلام -: (مَن أَصبَحَ وَلَهُ أبَوَانِ رَاضِيانِ عَنهُ أَو أَحَدُهُمَا فُتِحَت لَهُ أَبوَابُ الجَنَّةِ وَمَن أمسَى وَلَهُ أَبَوَانِ سَاخِطَانِ عَلَيهِ أَو أحَدُهُمَا فُتِحَت لَهُ أبوَابُ جَهَنَّمَ).. جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أبايعك على الهجرة والجهاد فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وهل من والديك أحد حي؟ ) قال: نعم، بل كلاهما، قال النبي صلى الله عليه سلم: (أتبتغي الأجر؟ ) قال: نعم يا رسول الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) رواه مسلم... فهم يحسنون اقتناص الحسنات).
* وفيهم من وعى عظم أجر النافلة فرفع همته وضاعف فضوعف له الأجر.. سواء الصلاة أو الصدقات أو حسن الخلق والمعاملة أو احتساب النيات في الأعمال والعادات فأصبحت كلها ببركة الله وحسن الإخلاص عبادات قال - صلى الله عليه وسلم - لبلال: (يا بلال حدثني بأرجى عملٍ, عملته في الإسلام فإني سمعتُ دفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة) قال: (ما عملتُ عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) متفق عليه.
* وفيهم من دخل محرابه واعتكف العشر الأواخر.. وبات ساجدا راكعا لله.. فعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله - تعالى -، واعتكف أزواجه من بعده. متفق عليه
* وفيهم من شد الرحال للبيت المعمور يطلب مضاعفة اجر ورفع درجات فالصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة والأعمال الصالحة فيه مضاعفات، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (عمرة في رمضان تعدل حجة) رواه أحمد في مسنده.
* وفيهم من وعى أن الصيام عمل، فكان كالنحلة لا تسقط إلا على أطايب الثمر، يبذل من نفسه وروحه وقلبه ومن ماله وجهده، ويحتسب كل ذلك على الله لكي يكون له بها وجاء وعتق من النار.
* وفيهم الفطن الكيس الذي جعل همه الدعاء واكثر من طلب الرضى والرحمات من الله وأن يرزقه قيام ليلة القدر وأن ينال مرتبة الشرف فيها وعظيم الدرجات.
* وفيهم من حرص على أن يكون من أهل الله وخاصته - أهل القرآن - فحرص على حفظ سورتين من طوال السور أو جزئين كاملين من أجزاء المفصل. لك حرية الاختيار هنا ويقسم الحفظ على طول الشهر الكريم على أن تكون ليلة 29 هي ليلة المراجعة النهائية.. من خلال القيام بما حفظت عن ظهر غيب..
فالقرآن بالنسبة لهم كما قال المتنبي:
كالبدر من حيث التفت رأيته *** يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا
كالشمس في كبد السماء وضوءها *** يغشى البلاد مشارقا ومغاربا
وفي الختام:
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره، وكان - عليه الصلاة والسلام - يخص العشر الأواخر بأعمال لا يعملها في بقية الشهر، تقول عنه زوجه عائشة - رضي الله عنها - كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر شمر وشد المئزر، وكان - عليه الصلاة والسلام - يوقظ أهله فيها وكل كبير وصغير يطيق الصلاة، ويمر على بنته فاطمة فيوقظها وزوجها الإمام علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه -، عائشة - رضي الله عنها - هي من يروي أحاديث أعمال النبي في العشر الأواخر لنتعلم بأن البيت المسلم يقوم على هذه الروحة الطيبة من العبادات التي تزرع الحب والسكينة في جنبات البيت وتنشر الرحمة على رؤوس أصحابه.
وقد فقه أبو هريرة عظم الأمر وأهميته فقسم الليل بينه وبين زوجه وبنته يقوم كل منهما في وقت فلا يترك البيت دون قيام وتضرع ودعاء ليرتفع ذكرهم في السماء.. وذهب الشافعي مذهبا جميلا إذ يقول:
استحب أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها..
رياح هذه الليالي تحمل أنين المذنبين وأنفاس المحبين وقصص التائبين ثم تعود برد الجواب بلا كتاب.. لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الانكسار، ورفعوا قصص الاعتبار مضمونها: {يَا أَيٌّهَا العَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهلَنَا الضٌّرٌّ وَجِئنَا بِبِضَاعَةٍ, مُزجَاةٍ, فَأَوفِ لَنَا الكَيلَ وَتَصَدَّق عَلَينَا} لبرز لهم التوقيع عليها {لا تَثرِيبَ عَلَيكُمُ اليَومَ يَغفِرُ اللَّهُ لَكُم وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
قال - عليه الصلاة والسلام - لزوجه عائشة - رضي الله عنها - قولي - أي ليلة القدر -: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) والعفو من أسماء الله - تعالى -وهو المتجاوز عن سيئات عباده، الماحي لآثارها عنهم، وهو يحب العفو ويحب أن يعفو عباده بعضهم عن بعض، لما عرف العارفون جلاله خضعوا، ولما سمع المذنبون بعفوه طمعوا، ما ثمة إلا عفو الله أو النار.
وإنما أمر بالعفو بعد الاجتهاد في الأعمالº لأن العارفون يجتهدون ولا يرون لأنفسهم عملاً صالحاً ولا حالاً ولا مقالاً.
قال يحي بن معاذ: ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو.
اللهم أنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.. رحماك ربنا.
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة *** فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلاً
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي *** ويصبح ذا الأحزان فرحان جذلاً
جعلنا الله وإياكم من أهل القبول..ومن المقنطرين الأوائل.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد