الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
السؤال:
سماحة الشيخ: هل يمكن أن تفتوني في كيفية التعامل أو الابتعاد من الذنوب بعد الحج؟ وما هي النتائج المترتبة على ذلك؟ إذ أنني سمعت أن الإنسان لا يجب أن يقوم بأي معصية بعد الحج، وإذا عصى فإن العاقبة تكون مدمية حتى ولو كان الذنب بسيطا، فلو تفتوني بعلاقة الحج بالذنوب، غفر الله لكم.
الجواب:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الأخت الكريمة: سؤالك قد تضمن عدداً من الاستفسارات: وهي تُعرب عن نفس لوّامة وقلب توّاق للطهر والنقاء.
فما يتعلق بالتعامل مع المعاصي والابتعاد عنها فإني أنصحك وأنصح نفسي أولاً وقبل كل شيء بأن ننظر في آثارها المترتبة عليها. يقول الله -تعالى-: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير"[الشورى: 30]. ويقول المصطفى -عليه الصلاة والسلام-: "إن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه"رواه أحمد(21881)، وابن ماجة(90) من حديث ثوبان رضي الله عنه والله -عز وجل- يقول: "فَكُلّاً أَخَذنَا بِذَنبِهِ فَمِنهُم مَّن أَرسَلنَا عَلَيهِ حَاصِباً وَمِنهُم مَّن أَخَذَتهُ الصَّيحَةُ وَمِنهُم مَّن خَسَفنَا بِهِ الأَرضَ وَمِنهُم مَّن أَغرَقنَا"[العنكبوت: 40]، وكل هذا بسبب الذنوب والمعاصي، وكانت عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- تردد قوله -تعالى-: "وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ,"[الشورى: 30[.
ويقول الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله-: "إذا همّت نفسك بالمعصية فذكرها بالله، فإذا لم ترجع فذكرها بأخلاق الرجال، فإذا لم ترتدع فذكرها بالفضيحة إذا علم بها الناس، فإذا لم ترجع فاعلم أنك في تلك الساعة انقلبت إلى حيوان".
وفي هذا المعنى يقول نابغة بن شيبان:
إن من يركب الفواحش سرا حين يخلو بسره غير خالي كيف يخلو وعنده كاتـباه شاهداه وربه ذو الجـلال، والمعاصي تذهب الخيرات وتزيل النعم.
وقد قال العباس رضي الله عنه- في دعائه للاستسقاء: (ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة) انظر فتح الباري(2/497) وصححه الألباني في التوسل، وانظري ـ رحمني الله وإياك ـ إلى ما حصل للمسلمين في يوم أحد عندما خالف الرماة وعصوا أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ماذا كانت الجناية عليهم، وفي ذلك يقول الله -تعالى-: "أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنىّ هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير"[آل عمران: 165[.
وقد كتب العلامة ابن القيم في الجواب الكافي لمن سئل عن الدواء الشافي جملة من الآثار ومما ذكره -رحمه الله-: أن المعاصي سبب للوحشة بين العبد وربه وهي سبب لذهاب البركة
وسوء الخاتمة، ونفرة الخلق، وقلة الرزق.
ثانياً: إذا أردت الابتعاد عن معصية من المعاصي التي ترين أن لا قدرة لك عن الابتعاد المباشر عنها، فابدئي بالتدريج شيئاً فشيئاً، فنفوسنا كالطفل الذي تعلق بالرضاع من أمه لا تستطيع فطمه إلا بالتدريج. وهي سنة ماضية عالج القرآن بها أم الخبائث (الخمر) التي تعتبر من أصعب ما يمكن، ومع ذلك كان التدرّج حاسماً لتسكين الفتنة بها.
ثالثاً: قد ذكرت في سؤالك أن الإنسان لا يجوز له أن يعصي بعد أداءه لفريضة الحج، ولو فعل ذنباً ولو كان بسيطاً فإن الآثار المترتبة -على حد تعبيرك- تكون مدمية.
والجواب: لو كان ما ذكرته صحيحاً لما صح (معنى) حديث النبي -عليه الصلاة والسلام-: فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة"رواه النسائي(810) والترمذي(810) وصححه فهذا دليل على أن قبل الحج وبعده ذنوب، فإذا كان الإنسان كثير الحج والعمرة فإن ذنوبه تزال بهذه المتابعة.
وليس القصد أن نقول بأنه يجوز للإنسان أن يعصي بعد الحج، فإننا مأمورون بالانتهاء عن المعاصي بعد الحج وقبله، ولكن تخصيص ذلك لا دليل عليه، ولا دليل كذلك على أن المعصية ولو كانت بسيطة إذا كانت بعد الحج فإن آثارها مدمية، فمن مقاصد الحج وأسراره وحكمه أنه جاء ليكفر عن الإنسان ذنوبه، وفي الحثّ الإكثار والمتابعة كما سبق.
دليل على أن الإنسان قد يعصي بعد الحج ليأتي الحج القادم ويكون مكفراً له عن ذنوبه التي فعلها بعد حجه الأول دون الإشارة إلى الجواز وعدمه.
ثالثاً: لا يوجد أحد من البشر معصوماً من المعاصي، فالامتناع عن فعل المعصية مستحيل شرعاً وهو أشبه بالمستحيل العقلي، ولذلك صح عنه -عليه الصلاة والسلام- من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لو لم تذنبوا لذهب الله -تعالى- بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله -تعالى- فيغفر لهم"رواه مسلم(2749).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد