رسول الضعفاء


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

إن رسول الله لم يكن رسولاً لفئة من الناس، بل كان رسولاً للناس كافة، للأسياد والعبيد، للفقراء والأغنياء، للرجال والنساء، للكبار والصغار، للعرب والعجم، ورحمته انتظمت الوجود كله، إلا أن تعامله مع الضعفاء والمساكين كان له شأن خاص، يعيش معاناتهم، ويواسي فقيرهم، ويرحم ضعيفهمº فهم أتباع الأنبياء، فقد سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان وكان لا يزال على الكفر: هل أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال: وهم أتباع الرسل. رواه البخاري (7) ومسلم (137).

لقد أمر الله نبيه أن يجالس {الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللَّه مِن عِبَاد اللَّه ولو كَانُوا فُقَرَاء ضُعَفَاء: وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجهَهُ وَلا تَعدُ عَينَاكَ عَنهُم تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَلا تُطِع مَن أَغفَلنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطًا}.

يُقَال: إِنَّهَا نَزَلَت فِي أَشرَاف قُرَيش حِين طَلَبُوا مِن النَّبِيّ أَن يَجلِس مَعَهُم وَحده وَلا يُجَالِسهُم بِضُعَفَاء أَصحَابه كَبِلالٍ, وَعَمَّار وَصُهَيب وَخَبَّاب وَابن مَسعُود، وَليُفرِد أُولَئِكَ بِمَجلِسٍ, عَلَى حِدَة، فَنَهَاهُ اللَّه عَن ذَلِكَ فَقَالَ: وَلا تَطرُدِ الَّذِينَ يَدعُونَ رَبّهم بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ الآيَة [الأنعام: 52]، وَأَمَرَهُ أَن يَصبِر نَفسه فِي الجُلُوس مَعَ هَؤُلاءِ فَقَالَ: وَاصبِر نَفسك مَعَ الَّذِينَ يَدعُونَ رَبّهم بِالغَدَاةِ وَالعَشِيّ الآيَة.

روى مُسلِم فِي صَحِيحه عن سَعد بن أَبِي وَقَّاص قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيّ سِتَّة نَفَر، فَقَالَ المُشرِكُونَ لِلنَّبِيِّ: اُطرُد هَؤُلاءِ لا يَجتَرِئُونَ عَلَينَا، قَالَ: وَكُنت أَنَا وَابن مَسعُود وَرَجُل مِن هُذَيل وَبِلال وَرَجُلانِ نَسِيت اِسمَيهِمَا، فَوَقَعَ فِي نَفس رَسُول اللَّه مَا شَاءَ اللَّه أَن يَقَع، فَحَدَّثَ نَفسه فَأَنزَلَ اللَّه - عز وجل -: وَلاَ تَطرُدِ الَّذِينَ يَدعُونَ رَبّهم بِالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجهَهُ.

فالله لما عدّد أبواب البرّ ذكر منها إيتاء المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، فجعل الرحمة بالضعفاء الصفة الأولى من صفات المتقين، قال - تعالى -: لَيسَ البِرَّ أَن تُوَلٌّوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهدِهِم إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ [البقرة: 177].

ويقول - عليه الصلاة والسلام - وهو يبيّن أهمّيّة الضعيف في حدوث النصر وحصول الرزق: ((ابغوني في الضعفاءº فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)) أخرجه أبو داود (1594) والنسائي (3179) والترمذي (1702) وقال الترمذي: \"حسن صحيح\" وصححه الألباني كما في صحيح الجامع (41). ابغوني أي: أعينوني على طلب الضعفاء.

ويروى عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: ((اللهم أحيني مسكينًا، وتوفّني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين)) أخرجه عبد بن حميد والبيهقي عن أبي سعيد، والطبراني والضياء عن عبادة بن الصامت، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع (1261).

وليس معنى هذا أن نترك الدنيا ونهمل المال، وإنما المعنى أن تنكسر القلوب بين يدي علام الغيوب. والذي انكسر قلبه لله هو من يعيش عبدًا لله، لا لشهواته، ولا لمنصبه، ولا لدنياه، لهذا المعنى أُكرم الضعفاء بإجابة الدعاء ونيل أحسن الجزاء.

عن حارثة بن وهب - رضي الله عنه - قال: سمعت رَسُول اللَّهِ يقول: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعّف لو أقسم على اللَّه لأبره. ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلّ جوّاظ مستكبر)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. والعتلّ: الغليظ الجافي، الجوّاظ بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة: هو الجموع المنوع. وقيل: الضّخم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين.

وعن أسامة - رضي الله عنه - عن النبي قال: ((قمت على باب الجنة فإذا عامّة من دخلها المساكين وأصحاب الجَدّ محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. والجد بفتح الجيم: الحظّ والغنى، محبوسون أي: لم يؤذن لهم بعد في دخول الجنة.

وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رَسُول اللَّهِ: ((ربّ أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على اللَّه لأبرّه)) رَوَاهُ مُسلِمٌ، وعن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: مر رجل على رسول الله فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيك في هذا؟)) فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشفَّع، قال: فسكت رسول الله، ثم مرّ رجل فقال له رسول الله: ((ما رأيك في هذا؟)) فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفَّع، وإن قال أن لا يسمَع لقوله، فقال رسول الله: ((هذا خير من ملء الأرض مثلِ هذا)) رواه البخاري (6082).

فالعبرة ليست في الصور والأشكال وفيما تملكه من قصور وأموال، وإنما في صلاح الأعمال وتذلّل القلب وانكساره لله الواحد القهار.

كيف كان رسول الله يعامل الضعفاء؟

إن أحوج الناس للرحمة والإحسان والعطف والحنان الضعفاء الذين لا حول لهم ولا طول، مثل اليتيم الذي فقد الأب، والأرملة التي فقدت الزوج، والمسكين الذي فقد المال، وابن السبيل الذي لا سند له ولا معين، والمرضى والعجزة وكبار السن والعبيد والخدم والأُجَراء.

وانظر إلى اهتمام النبي وانشغاله بالفقراء في عيد الأضحى، وكيف أنه ضحى بكبشين أحدهما عمن لم يضح من أمتهº حتى لا يحرموا من أجر الأضحية بسبب فقرهم وفاقتهم.

وقد استفاضت الأحاديث في الحث على الإحسان إلى الفئات الضعيفة التي لا سنَد لها ولا معيل، فقال: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة)) وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما. رواه البخاري. وقال: ((من ضم يتيمًا بين مسلمين في طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة ألبتة)) رواه أبو يعلى وأحمد باختصار والطبراني بإسناد حسن، وقال: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله))، قال أنس: وأحسبه قال: ((وكالقائم لا يفتُر، وكالصائم لا يُفطر)) متفق عليه عن أنس.

وقال عن الخدم: ((هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمَن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه)) متفق عليه واللفظ للبخاري، وجاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، كم نعفو عن الخادم؟ فصمَتَ، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: ((اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة)) رواه أبو داود عن ابن عمر (5164) والترمذي (1950) وقال: \"حسن غريب\".

ويوم كان الخدم رقيقًا زجر النبي عن إيذائهم وضربهم، وجعل كفارة الضرب العتق، فكيف إذا كانوا أحرارًا؟! وقد أدرك النبي أبا مسعود البدري وهو يضرب غلامًا له فقال: ((اعلم أبا مسعود أنّ الله أقدر عليك منك على هذا الغلام))، فقلت: يا رسول الله، هو حرّ لوجه الله، فقال: ((أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمسّتك النار)) رواه مسلم (6659)، وقال: ((من لطم مملوكًا أو ضربه فكفارته أن يعتقه)) رواه أبو داود (5168)، ومسلم بنحوه (1657)، وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كانت عامّة وصية النبي حين حضره الموت: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)) حتى جعل يغرغر بها في صدره، وما يفيض بها لسانه.

 

الخطبة الثانية

أين نحن ـ أيها المسلمون ـ من رحمتنا بالضعفاء والمساكين؟! أين نحن من إعطاء حقوق العمال والأجراء؟! لقد وصلتنا شكاوى يندى لها الجبين ويتقطع لها القلب من ظلم المسئول للعمال والأجراء ومنعهم حقوقهم، فهذا يحرم العامل من أجرته، وآخر يؤخر ويماطل في دفعها، وثالث يستغل حاجات العمال وضعفهم فيستأجرهم بثمن بخس لا يتفق مع الجهد الذي يبذلونه.

ألا تخاف ـ يا من ظلمتَ الأجير ـ أن يكون الله خصمك يوم القيامة، ومن كان الله خصمه فقد خسر وهلك، قال: ((قال الله - تعالى -: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) البخاري (2109).

تذكر ـ يا صاحب العمل ـ أن هذا الأجير له أهل وأولاد ينتظرون مصاريف طعامهم ولباسهم، مصاريف دوائهم وعلاجهم، مصاريف تعليمهم ودراستهم، فإذا تأخَّرت في دفع أجرتهم أو حرمتهم منها كنت سببًا في ضياع تعليمهم وخروجهم من المدرسة، أو كنت سببًا في معاناة المريض أو ربما موته، أو كنت سببًا في بكاء الصِّبية بالليل وهم يعانون من عضّة الجوع، وأنت تنام منعمًا قرير العين.

تنام عيناك والمظلوم منتبه  * * * يدعو عليك وعين الله لم تنم

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply