ذم العجب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ملخص الخطبة

1- من أعظم أسباب القبول. 2- حقيقة العجب. 3- تحريم العجب وذمه. 4- من أقوال السلف في ذم العجب. 5- العجب بريد الكفر. 6- أسباب العجب. 7- مظاهر العجب.

 

الخطبة الأولى

 إن من أعظم أسباب قبول الأعمال شهود منة الله - سبحانه - في كونه، أقامه في هذا المقام، ووفقه لذلك، فلولاه - سبحانه - لم يكن شيء من ذلك، يقول الله - تعالى -: (يَمُنٌّونَ عَلَيكَ أَن أَسلَمُوا قُل لا تَمُنٌّوا عَلَيَّ إِسلامَكُم بَل اللَّهُ يَمُنٌّ عَلَيكُم أَن هَدَاكُم لِلإِيمَانِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ) [الحجرات: 17]، فيجب عليك أن تعلم أن الله - سبحانه - هو صاحب الفضل والمنة عليك أن وفقك لأداء هذه العبادة وهداك للإسلام، حتى وإن عبدته وصليت وصمت وزكيت فليس لك فضل، فالفضل له وحده. فلا تعجب بعملك، ولا تقل: إن ذلك من ذكائك وفطنتك، فإن العُجب من الآفات الخطيرة التي تصيب كثيرًا من الناس، فتصرفهم عن شكر الخالق إلى شكر أنفسهم، وعن الثناء على الله بما يستحق إلى الثناء على أنفسهم بما لا يستحقون، وعن التواضع للخالق والانكسار بين يديه إلى التكبر والغرور بالأعمال، وعن احترام الناس ومعرفة منازلهم إلى احتقارهم وجحد حقوقهم.

 

والعجب هو الزهو بالنفس، واستعظام الأعمال والركون إليها، وإضافتها إلى النفس مع نسيان إضافتها إلى المُنعم - سبحانه وتعالى -. وإن من مساوئ العجب أنه يحبط الأعمال الصالحة ويخفي المحاسن ويكسب المذام.

 

قال الماوردي: \"وأما الإعجاب فيخفي المحاسن ويظهر المساوئ ويكسب المذام ويصد عن الفضائل، وليس إلى ما يكسبه الكبر من المقت حد، ولا إلى ما ينتهي إليه العجب من الجهل غاية، حتى إنه ليطفئ من المحاسن ما انتشر، ويسلب من الفضائل ما اشتهر، وناهيك بسيئة تحبط كل حسنة، وبمذمة تهدم كل فضيلة، مع ما يثيره من حنق ويكسبه من حقد\".

 

إن العجب محرمº لأنه نوع من الشرك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: \"وكثيرًا ما يقرن الرياء بالعجب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس، وهذا حال المستكبر، فالمرائي لا يحقق قوله: إِيَّاكَ نَعبُدُ، والمعجب لا يحقق قوله: وإِيَّاكَ نَستَعِينُ، فمن حقق قوله: إِيَّاكَ نَعبُدُ خرج عن الرياء، ومن حقق قوله: وإِيَّاكَ نَستَعِينُ خرج عن الإعجاب\".

 

وقال أبو حامد الغزالي - رحمه الله -: \"اعلم أن العجب مذموم في كتاب الله وسنة رسوله، قال الله - تعالى -: (وَيَومَ حُنَينٍ, إِذ أَعجَبَتكُم كَثرَتُكُم فَلَم تُغنِ عَنكُم شَيئًا) [التوبة: 25]، ذكر ذلك في معرض الإنكار. وقال - عز وجل -: (وَظَنٌّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُم حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِن حَيثُ لَم يَحتَسِبُوا) [الحشر: 21] على الكفار في إعجابهم بحصونهم وشوكتهم. وقال - تعالى -: (وَهُم يَحسَبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعًا) [الكهف: 104] أيضًا يرجع إلى العجب بالعمل، وقد يعجب الإنسان بالعمل وهو مخطئ فيه، كما يعجب بعمل وهو مصيب فيه\".

 

وقال: ((ثلاث مهلكات: شحٌّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)) أخرجه البيهقي وحسنه الألباني. وثبت عنه أنه قال في ذم العجب: ((بينما رجل يمشي في حلةٍ, تعجبه نفسه، مرجل جمته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة)) متفق عليه.

 

قال ابن حجر في الفتح: \"قال القرطبي: إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال مع نسيان نعمة الله، فإن احتقر غيره مع ذلك فهو الكبر المذموم. وقوله: ((إذ خسف الله به)) يدل على سرعة وقوع ذلك به. وقوله: ((فهو يتجلجل إلى يوم القيامة)) وفي رواية الربيع: ((فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة)) رواه مسلم. قال ابن فارس: التجلجل أي: يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد، ويندفع من شق إلى شق، فالمعنى يتجلجل في الأرض أي: ينزل فيها مضطربًا متدافعًا\".

 

ومن الأدلة كذلك على ذم العجب حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه -، فعن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أيّةُ آية؟ قال: قوله - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لاَ يَضُرٌّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُم) [المائدة: 105]، قال أبو ثعلبة: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله فقال: ((بل ائتمروا بينكم بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شّحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثَرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوامَّ، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن كالقبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم)) رواه الترمذي وقال: \"حسن غريب\".

 

ومن أقوال السلف في ذم العجب ما قاله ابن مسعود - رضي الله عنه -: (الهلاك في اثنين: القنوط والعجب). قال أبو حامد: \"وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب والجد والتشمير، والقانط لا يسعى ولا يطلب، والمعجب يعتقد أنه قد سعد وقد ظفر بمراده فلا يسعى\". وقال مطرف: \"لأن أبيت نائمًا وأصبح نادمًا أحب إليّ من أن أبيت قائمًا وأصبح معجبًا\". وكان بشر بن منصور من الذين إذا رؤُوا ذُكِرَ الله - تعالى -والدار الآخرة لمواظبته على العبادة، فأطال الصلاة يومًا ورجل خلفه ينتظره، ففطن له بشر، فلما انصرف عن الصلاة قال له: \"لا يعجبنك ما رأيت مني، فإن إبليس لعنه الله قد عبد الله مع الملائكة مدة طويلة، ثم صار إلى ما صار إليه\". وقيل لعائشة - رضي الله عنها -: متى يكون الرجل مسيئًا؟ قالت: (إذا ظن أنه محسن).

 

بارك الله لي ولكم في العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (الإعجاب ضدّ الصواب وآفة الألباب). وقال بزدجمهر: \"النعمة التي لا يحسد صاحبها عليها التواضع، والبلاء الذي لا يرحم صاحبه منه العجب\".

 

وربما طغت آفة العجب على المرء حتى وصل به الحدّ إلى الكفر والخروج من ملة الإسلام، كما هو الحال مع إبليس اللعين، حيث أعجب بأصله وعبادته، ودفعه ذلك إلى الكبر وعصيان أمر الرب- تبارك وتعالى -بالسجود لآدم - عليه السلام -.

 

وحكي عن عمر بن حفص أنه قال: قيل للحجاج: كيف وجدت منزلك بالعراق؟ قال: خير منزل لو كان الله بلغني قتل أربعة فتقربت إليه بدمائهم، قيل: ومن هم؟ قال: مقاتل بن مسمعº ولي سجستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلما عُزل دخل مسجد البصرة، فبسط له الناس أرديتهم، فمشى عليها، وقال لرجل يماشيه: لِمِثلِ هَذَا فَليَعمَل العَامِلُونَ [الصافات: 61]، وعبد الله بن زياد بن ظبيان التميميº خوّف أهل البصرة أمرًا فخطب خطبة أوجز فيها، فنادى الناس من المسجد: أكثر الله فينا مثلك، فقال: لقد كلفتم الله شططًا، ومعبد بن زرارةº كان ذات يوم جالسًا في الطريق، فمرت به امرأة فقالت له: يا عبد الله، كيف الطريق إلى موضع كذا؟ فقال: يا هناه، مثلي يكون من عبيد الله؟! وأبو سمّال الأسديº أضل الله راحلته، فالتمسها الناس فلم يجدوها فقال: والله إن لم يَرُد إليّ راحلتي لا صليت له صلاة أبدًا، فالتمسها الناس فوجدوها، فقالوا له: قد ردّ الله عليك راحلتك فصلِّ، فقال: إن يميني يمين مُصِرّ.

 

قال الماوردي: فانظر إلى هؤلاء كيف أفضى بهم العجب إلى حمق صاروا به نكالاً في الأولين ومثلاً في الآخرين، ولو تصور المعجب والمتكبر ما فطر عليه من جِبِلّة وبُلي به من مهنة لخفض جناحه لنفسه، واستبدل لينًا من عُتوه وسكونًا من نفوره.

 

قال الأحنف بن قيس: عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبر؟!

يـا مظهرَ الكبر إعجابًـا بصورته*** انظـر خلاك فإن النتن تثريـب

لو فكر النـاس فيمـا فِي بطونهم *** ما استشعر الكبر شبان ولا شيب

هل فِي ابن آدم مثل الرأس مكرُمةً *** وهو بِخمس من الأقذار مضروب

أنف يسيـل وأذن ريحهـا سهك *** والعين مرفضـة والثغر ملعـوب

يا ابن التراب ومأكول التراب غدًا *** أقصر فإنك مأكول و مشـروب

 

قال ابن قدامة: \"اعلم أن العجب يدعو إلى الكبر لأنه أحد أسبابه، فيتولد من العجب الكبر، ومن الكبر الآفات الكثيرة، وهذا مع الخلق. فأما مع الخالق فإن العجب بالطاعات نتيجة لاستعظامها، فكأنه يمنّ على الله - تعالى -بفعلها، وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها، ويعمى عن آفاتها المفسدة لها، وإنما يتفقد آفات الأعمال من خاف ردها، دون من رضيها وأعجب بها\".

 

ومن أسباب العجب الجهل، ومن الناس من يعجب بعمله ومعرفته لمسائل الخلاف وأقوال العلماء، ولو علم أن إعجابه بعلمه يدل على جهله لما كان من المعجبين بأنفسهم، قال بعض السلف: ما يزال العبد يطلب العلم حتى إذا ظنّ أنه قد علم فهو جاهل. قال أبو حامد: \"وعلّة العجب الجهل المحض وقلة الورع والتقوى وضعف المراقبة لله - عز وجل - وقلّة الناصح وسوء النية وخبث المطية وإطراء الناس للشخص وكثرة ثنائهم عليه مما يعين عليه الشيطان والافتتان بالدنيا واتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء وقلة الفكر وقلة الشكر لله - عز وجل - وقلة الذكر لله - عز وجل - وعدم تدبر القرآن والسنة النبوية والأمن من مكر الله - عز وجل - والركون إلى عفو الله ومغفرته، ولو تفكر العبد لعلم أن كل نعمة عنده هي من الله - سبحانه -.

 

ومظاهر العجب كثيرة، منها رد الحق واحتقار الناس، تصعير الخد، عدم استشارة العقلاء والفضلاء، الاختيال في المشي، استعظام الطاعة واستكثارها، التفاخر بالعلم والمباهاة به، الغمز واللمز، التفاخر بالحسب والنسب وجمال الخِلقة، تعمد مخالفة الناس ترفعًا، التقليل من شأن العلماء الأتقياء، مدح النفس، نسيان الذنوب واستقلالها، توقع الجزاء الحسن والمغفرة وإجابة الدعاء دائمًا، الإصرار على الخطأ، الفتور عن الطاعة لظنه أنه قد وصل إلى حد الكمال، التصدر قبل التأهل، قلة الإصغاء إلى أهل العلم.

ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم..

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply