تطبيق الحدود


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ، وعظموا أمره، واشكروا نعمه، ولا تعصوه.

عباد الله، إن توفر الأمن ضرورة من ضرورات الحياة، قد تفوق ضرورة الغذاء والكساء، بل لا يستساغ طعام إذا فقد الأمان، والأمان في جوهره ومعناه لا يكون إلا مع الإيمان، والسلام في حقيقته لا يكون إلا مع الإسلام الَّذِينَ ءامَنُوا وَلَم يَلبِسُوا إِيمَـانَهُم بِظُلمٍ, أُولَـئِكَ لَهُمُ الامنُ وَهُم مٌّهتَدُونَ [الأنعام: 82].

((لا إيمان لمن لا أمانة له))[1]، ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))[2].

ومن دخل في الإسلام فقد دخل في دائرة الأمن والأمان ((من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله - عز وجل -))، ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه))، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّـالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِى ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدّلَنَّهُم مّن بَعدِ خَوفِهِم أَمناً يَعبُدُونَنِى لاَ يُشرِكُونَ بِى شَيئاً وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذلِكَ فَأُولَـئِكَ هُمُ الفَـاسِقُونَ [النور: 55].

ومن هنا كان بناء الإنسان في الإسلام شاملاً كل جوانب حياته ومكونات شخصيته عقيدة وسلوكاً وأخلاقاً.

ولئن كان الأمن ـ أيها الإخوة ـ يتوفر برسوخ الإيمان في القلوب وتطهير الأخلاق في السلوك، وتصحيح المفاهيم في العقول، فإنه لابد مع ذلك من الشرع العادل والسلطان القوي لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيّنَـاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَـابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ وَأَنزلنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأسٌ شَدِيدٌ وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىُّ عَزِيزٌ \" [الحديد: 25].

إن من الناس صنفاً غليظاً، لا يكفيه توجيه رفيق، ولا وعظ بليغ، بل لا يردعه إلا عقوبة زاجرة وقوة صارمة، لذا كان لابد من سياط السلطان مع زواجر القرآن، وقد جاء في الأثر: ((إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن))[3].

ولكي يشيع الأمان ويطمئن الإنسان شرعت الشرائع الحازمة لمعكري الأمن ومثيري القلق، إنها مبادئ وأحكام من أَجل ضبط المجتمعات، أساسها الرحمة العامة والمصلحة الراجحة.

إنها الرحمة المصاحبة للعدل في قانون الإسلام، أنزلت من أجلها الشرائع، وسنت لها الأحكام، وجاء بها رسول البشرية محمد - صلى الله عليه وسلم -: \"وَمَا أَرسَلنَـاكَ إِلاَّ رَحمَةً لّلعَـالَمِينَ \"[الأنبياء: 107].

فالغاية من الرسالة المحمدية الرحمة بالبشرية.

وإن الرحمة بمفهومها الواسع غير مقصورة على الشفقة والرقة التي تنبت في النفس نحو مستضعف أو أرملة أو طفل، ولكنها رحمة عامة للضعيف والشريف والرئيس والمرؤوس والقريب والبعيد.

لا مكان للرحمة لناشري الفوضى ومهدري الحقوق، ومرخصي النفوس، كيف تكون الرأفة بذئاب الأعراض والأموال والدماء؟ لا يعرف العدالة في هذه القوة إلا المقروحون والمكتوون ممن أهدرت دماؤهم وانتهكت أعراضهم ونهبت أموالهم، هل تترك تلك الكلاب المسعورة حرة طليقة تزداد ضراوة ويزداد المجتمع بها بلاء وشقاء؟!

أيها الإخوة، إن شرائع القصاص والحدود بعض مظاهر الرحمة في هذا الدين.

إن أغلب المجرمين يقدمون على القتل حين يذهلون عن الثمن الذي يدفعونه حتماً، ولو علموا أنهم مقتولون يقيناً لترددوا ثم أجمعوا.

ويوم قالت العرب: \"القتل أنفى للقتل\" قال القرآن الكريم عبارة أوجز لفظاً وأحكم أسلوباً: في القصاص حياة نعم إن في القصاص حياة حين يكف من يهم بالجريمة عن الإجرام.

 

وفي القصاص حياة حين تشفى صدور أولياء القتيل من الثأر الذي لم يكن يقف عند حد، لا في القديم ولا في الحديث، ثأر تسيل معه الحياة على مذابح الأحقاد العائلية والثأر القبلي جيلاً بعد جيل لا تكف الدماء عن المسيل.

في القصاص حياة أعم وأشمل، حياة تشمل المجتمع كله، حيث يسود البلاد الأمان الذي يصون الدماء، وكما حفظت النفوس حفظت الأعراض، فلا قسوة في جلد أو رجمº لأن الغرض الأسمى هو حماية الشرف، وصيانة الأسر، وإشاعة الطهر والعفة بين الرجال والنساء: \" وَلاَ تَأخُذكُم بِهِمَا رَأفَةٌ في دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الاخِرِ وَليَشهَد عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المُؤمِنِينَ [النور: 2].

وإن الآية الكريمة لتبين بوضوح أن هذا النوع من الرأفة بالزناة والزواني لا يجتمع مع الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى الرغم مِن أنّ مِن أخص خصائص المؤمنين أنهم رحماء بينهم، فالرفق بمنتهكي الأعراض ومرتكبي الفواحش ليس من الرحمة في شيء.

 

كل ذلك من أجل أن تخرس بواعث الجريمة وتسري الرهبة في نفوس أهل الريب، فلا يتطاولون على الحدود، ولا ينتهكون كرامات الناس.

والزواج الصحيح ولو مبكراً هو وحده الملتقى المشروع للنفوس الكريمة والأسر الشريفة، يلبي نداء الفطرة بطريقة سليمة صحيحة، يحقق من خلالها ترابط المجتمع.

إن الولي العاقل والأب الشريف والمربي الغيور، لا يهنأ له بال ولا يقر له قرار ولا يشعر بالطمأنينة، حتى يضع مَولِيّتَهُ بيد زوج كريم، يصون عرضها ويحفظ كرامتها، لاسيما هذه الأيام التي كثرت فيها بواعث الشر ومهيجات الشهوة، ذئاب مسعورة تحوم حول التجمعات النسائية عند المدارس والأسواق.

 

خدعوها بقولهم حسناء ***  والغواني يغرهن الثناء

 

حتى حدث من جراء ذلك قصص تشيب لها الرؤوس وحكايات يندى لها الجبين، وعند جهينة الخبر اليقين.

ألا فليتنبه لذلك الأولياء، وليحذروا كل الحذر من الهاتف والأسواق وسير الفتاة من المدرسة إلى البيت ذهاباً وإياباً، وإني بذلك لا أدعو إلى التخون، ولكن الحذر واجب.

وليتق الله الذين يطلقون ألسنتهم في أعراض المسلمين، فإنهم بذلك يشيعون الفاحشة في الذين آمنوا، فكم من فتاة كان السبب في فسادها الحديث في عرضها.

ومن أجل هذا وتأكيداً لحفظ حرمات الناس من أن تستطيل عليها الألسنة الحداد، فتقع في الإفك، شرع حد القذفº ليجلد المفترون، وتسقط كرامتهم، وترد شهادتهم، وتحفظ أعراض العفيفين والعفيفات.

أما السراق واللصوص، فأين دعاة الرحمة والمتشدقون بحقوق الإنسان؟ أين هم من عامل كادح قد قبض أجره ليضعه في أفواه نساء وصبية فإذا بيد آثمة تمتد إلى كسبه وتستولي على رزقه؟! يأخذ اللص في لحظة ما جمعه الشريف بأيام وليالي من عرق جبينه.

إن اليد العاملة الكاسبة، حقها أن تصان وتحمى، حقها أن يضمن لها سعيها وتأمن في معاشها، فلو قطعت هذه اليد ولو من غير عمد كان لها نصف دية المسلم.

 

قال بعض من يجهل أحكام الشريعة في ذلك:

يد بخمس مئين عَسجَد وديت *** ما بالها قطعت في ربع دينار

 

ورد عليه من ألهمه الله الصواب فقال:

 

عِزّ الأمانة أغلاها وأرخصها *** ذل الخيانة فافهم حكمة الباري

ولما كانت أمينة كانت ثمينة ولما خانت هانت.

 

إن اليد الفاسدة التي عزفت عن شريف العمل وامتد إلى الناس بالأذى وعز علاجها، فلا بد من بترها ليرتاح منها صاحبها ويريح المجتمع كله من مفاسده.

 

إن السطو على الأموال جريمة تزداد وتستشري، إن لم تقابل بالعلاج الزاجر الحاسم تتحول إلى جرأة على الدم الحرام، فما أيسر أن يقتل اللص من يعترض طريقه! سواء كان هذا المعترض من رجال الأمن أو من رجال الأعمال والأموالº بل حينما يستفحل أمرهم ويتصاعد خطرهم تعظم العقوبة الزاجرة في حقهم، إنهم أصبحوا محاربين لله ولرسوله، ساعين في الأرض فساداً، فجزاؤهم: \"أَن يُقَتَّلُوا أَو يُصَلَّبُوا أَو تُقَطَّعَ أَيدِيهِم وَأَرجُلُهُم مّن خِلَـافٍ, أَو يُنفَوا مِنَ الأرضِ ذلِكَ لَهُم خِزىٌ فِي الدٌّنيَا وَلَهُم فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ \" [المائدة: 33]، ذلكم حكم الله أنزله إليكم.

 

إن الغلظة في العقوبة ـ أيها الرحماء ـ تتكافأ مع غلظ الجريمة.

 

إن الرفق بمن ثبتت جريمته ليس من الرحمة في شيء، وكيف يكون إقرار الظلم والاعتداء على الآمنين والتقاعس ثم الجزاء الرادع رأفة ورحمة؟

فالرحمة الحقيقية هي التي لا تحمل في ثناياها ظلماً ولا هضماً.

لقد تعالت صيحات من هنا وهناك، تنادي بإلغاء عقوبة القتل لمن يستحقها، فهذا المجرم عندهم منحرف المزاج مضطرب النفس، ينبغي أن يعالج، إنه اعتذار عن السفاكين ومرخّصي الدماء مرفوض، ومع هذا فقد وجدت هذه الصيحات استجابة عند البعض، فألغيت عقوبة الإعدام من دول شتى، ففتحوا سجوناً كثيرةً، سمن فيها المجرمون لكي يخرجوا إلى الناس أشد ضراوة وأكثر شقاوة.

ومن اليسير أن يتعاون اللصوص والقتلة في إدراك مآربهم ورسم خططهمº ليكونوا عصابات ويتقاسموا المهمات، وكأنهم يحسون بأن السجون تصبح ساحات ممهدة لاجتماع هؤلاء وإحكام خططهم، بل لعلهم يديرونها ويدبرونها من خلف قضبان السجون، ولهم في الخارج إخوان يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون.

 

إن الريبة لتثور حول ضمائر هؤلاء المدافعين عن المجرمين، ويكاد المتعجب أن يقول: لا يعطف على اللص إلا لص مثله، ولا يرأف بالقاتل إلا قاتل مثله.

 

ماذا كسب الذين أهملوا حكم الله في الحدود والقصاص وأعملوا حكم الطاغوت، لم يجنوا إلا انتشار الجريمة وسيادة الفوضى وذعر الألوف في مساكنهم ومسالكهم، وفي الحديث: ((وما ترك أئمتهم العمل بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم))[4].

 

إنه لتأخذك الدهشة حين ترى في واقع الذين ظلموا أنفسهم وابتعدوا عن شرع الله ما تنشرونه من أنواع الجرائم المستبشعة مع استهانتهم بالأنفس واسترخاصهم للدماء وانتهاكهم للأعراض وابتزازهم للأموال.

 

لقد وصل الحال بهم حين أمنوا العقوبة الرادعة أن كونوا قوى إرهابية تضارع الدول والحكومات، بل قد تفوق عليها في قوتها وأنواع أسلحتها وتقنيتها، إنها عصابات تقطع الطرق، وتخيف السبل ـ برية وبحرية وجوية ـ، تنشر الرعب والفساد، وتغير على المصارف والخزائن، وتستهين بالقوانين والأعراف، من قاومهم قتلوه، ومن سكت عنهم استخفوا به وأهانوه، شرهم يستشري، وأمرهم يستفحل، والناس منهم في هرج ومرج واضطراب وفساد، والدول يضعف سلطانها، وما أنباء المخدرات ومنظماتها عنكم ببعيد.

عباد الله، وفي هذا الخضم المائج بفتنه وإرهابه، نقول: فلتهنأ بلادنا بلاد الحرمين الشريفين بأمنها وأمانها، ولتستمسك بدينها، وتعتز بمصدر أحكامهاº كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، تحل حلاله، وتحرم حرامه، وتقيم حدوده، وتعمل بمحكمه، وتؤمن بمتشابهه، زادها صلاحاً وإصلاحاً، وبتحكيم شرعه إيماناً وتسليماً.

\"وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَـارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم قُل إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعتَ أَهوَاءهُم بَعدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ العِلمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ, \"[البقرة: 120].

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه يقصر الإدراك عند بعض المنتسبين إلى الإسلام، حين يظنون أن العقوبات والزواجر في الإسلام، إن صلحت فيما مضى فهي غير صالحة في هذه العصور.

إنهم لم يدركوا أن الأمن الذي يتحقق بتطبيق شرع الله لا يعتمد على العقوبة وحدها، ولكن يعتمد قبل ذلك وبعده على غرس الإيمان في القلوب وزرع الخشية من علام الغيوب، فتترك النفوس الإجرام رغبة ورهبة، يغذي ذلك ويقويه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأساليبه المتعددة ونداءات الوعظ الرقيق والتذكير الرفيق وتعليم الجاهل وتنبيه الغافل وحفظ السفهاء في أنفسهم وأموالهم.

ومن هنا ـ أيها الإخوة ـ فإن الدين لا يقف متربصاً من أجل أن تزل قدم ليُجهِزَ على صاحبهاº ولكنه يمنح الفرص تلو الفرص من الستر المحمود، ليرشد الضال ويصلح العاصي.

إنه يؤثر ستر طالبي الستر، ويدرأ الحدود بالشبهات، ويفتح منافذ الأمل لمستقبل يتوبون فيه إلى ربهم، ويستغفرونه والله غفور رحيم، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

 

----------------------------------------

[1] صحيح، أخرجه أحمد (3/135)، والطبراني في الأوسط (2606)، وأبو يعلى في مسنده (2863). وصححه ابن حزيمة (2335)، وابن حبان (194)، وذكره الضياء في المختارة (1699)، (2661). قال الهيثمي: فيه أبو هلال وثقه ابن معين وضعّفه النسائي وغيره. مجمع الزوائد (1/96). وصححه الألباني. صحيح الترغيب (3004)، مشكاة المصابيح (35).

[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الإيمان باب المسلم من سلم المسلمون...حديث (10)، ومسلم: كتاب الإيمان باب بيان تفاضل الإسلام... حديث (41).

[3] أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (4/107) بإسناد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ولفظه: ((لما يزع بالسلطان، أعظم مما يزع بالقرآن)). وأخرج ابن عبد البر في التمهيد (1/118) بإسناده إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، أنه قال: ((ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن)).

[4] حسن، أخرجه ابن ماجه: كتاب الفتن باب العقوبات، حديث (4019). وأبو نعيم في الحلية (8/333-334)، والحاكم (4/540)، وحسّنه الألباني، السلسلة الصحيحة (106).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply