الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
غبتُ عنه عشر سنين، كان آخر عهدي به في مدينة جدة، ونحن في سيارته على شاطئها الأفيح نتهادى مختارات من أبيات الشعر الرائقة، فيغلبني حينًا بحسن اختياره، وأغلبه أخرى بعذب أبياتي، هكذا قضينا الليل إلا أقلَّه في مسامرةٍ وددنا لو أنَّ الليل تمطّى ممتدًا ولم تقف ساعاته.
ثم انصرفنا بعد أن ودّعني، ولم يكن يعلم أنَّ ذلك الوداع سيكون آخر عهدي به في جدة، فقد حملني بساط ريح القدر وطوّح بي إلى نجد العذاة، مستقرًّا في مدينة الرياض.
وفي ليلةٍ من ليالي العشر الأخيرة من رمضان، بينما كنت أتأهّب لأداء صلاة القيام في ساحة الحرم المكي، والمصلّون يحتشدون في الصفوف، إذ بي ألمح من بينهم شابًّا تعلوه مخايل الحزن التي فلقت كبده، فلا البِشْر بادٍ على وجهه، ولا السرور يرتسم على مُحيّاه، مُطرقٌ برأسه، شَرود الخيال في أودية الهموم.
عبدالله؟ أهذا أنتَ؟ ألا ما أسرع الأيام، تلك عشر سنين كاملة تصرّمت، كأن وداعنا كان البارحة!
أهلًا ماجد! ما أطيب هذه المصادفة الجميلة!
فلمّا تعانقنا، أحسست أنّي أعانق رجلًا حيًا لا كالأحياء، وميتًا لا كالأموات، شخصٌ كأنه من أشباح روايات ستيفن كينج، طيفٌ يُشبه البشر في ظِلال جسده، لكن روحه نادّةٌ في مكان آخر، كانت ذاكرتي تترنح بين ما أذكره من ماضي عبدالله الزاهر الوضّاء، وما أراه من حاضره الموحش القاتم.
ما صنعت بك الدنيا يا عبدالله، كأنك تحمل فوق رأسك من بذور الهمِّ ما يكفي لغرس أشجار الشقاء في قرية كاملة.
يا ماجد، والله إنّي لفي دوامة من التشتت لا يعلم مدى قسوتها إلا الله، فلا قرار لحالي فأنا متزوّج وأب لثلاثة أولاد، ولي سنة كاملة أتيه في بيداء البحث عن العمل، وما دخل جيبي ريال واحد إلا قرضًا أرَقْتُ لأجله بقايا الماء في حُرِّ وجهي.
فما راعنا ونحن نتحدث إلا وفد هادر من المعتمرين يتلّوى كالثعبان من طوله، فقطعوا علينا طريق الحديث، كما يقطع نهر السين عاصمة الأضواء باريس ويباعد بين جنبيها.
ثم عادت وشيجة الحديث بيننا، فاستمرَّ عبدالله يبوح بأشجانه قائلًا:
أختي يا ماجد، أختي مريضة بداء عُضال حالتْ معه نضارتها وانكمشتْ حتى عادت جلدًا على عظم، وقد طوّفنا بها مستشفيات كثيرات فأعيا الأطباء دواؤها وحاروا في شأنها، إنَّ الأيام يا ماجد تتعاقب على حياتي وتعبرها سِراعًا كأنها ريح في يوم عاصف، وأنا كما ترى، أُراوح في مكاني، كلما هممت بخطوة إلى الأمام اجتذبني مغناطيس الهمِّ حتى ألصقني برغام البطالة.
لم يكد عبدالله يستعرض حاله شاكيًا، حتى صاح صائح الحرم يُنادي مجلجلًا “صلاة القيام أثابكم الله”، فافترقنا على أن نلقى بعضنا بعد الصلاة في ذات المكان.
فلمّا قُضيت الصلاة وانتشر المصلون، جئتُ كالطير مسرعًا تخفق أجنحته أبحث عن عبدالله، أمّا المكان فهو ذات المكان، وأما الوجوه فتنكر ولا تعرف، وصرت أتفرّس في الناس لعلي أجد عبدالله مختبئًا بينهم، حتى طال بي المقام وأيست من لقائه فانصرفت وفي نفسي غصّة من همومه التي طمست سناء وجهه، وغرست أظافرها الدامية في قلبي حزنًا على صديق الطفولة ولهفة عليه.
ثم بعد حولين كاملين، استدار فيهما الزمان وتثنّى عِطْفه، وفي ساحة الحرم المكّي مما يلي فندق التوحيد، كنتُ جالسًا أتحيّن أذان المغرب، إذ بعيني تلمح شابًّا مطأطئًا رأسه، متقنّعًا بشماغه، رافعًا يديه وقد أدناهما من وجهه حتى أوشكتا أن تلتصقا به، يدعو ويهتزُّ متواجدًا من فرط اندماجه في ابتهالاته، فلمّا أمعنت النظر فإذا هو عبدالله، صديقي الذي أعرفُ.
أزمعت أمري هذه المرة على أن لا يفوتني لقاؤه مهما كان، فتربّصتُ حتى انقضت صلاة المغرب، ثم أقبلت عليه إقبال الصقر هاجمًا على فريسته، مطوقًا لها من كل جانب، فلمّا رآني هشّ لي وبشّ، وقام مسلّمًا معتنقًا، ثم أفسح لي في مكانه وأجلسني على سجادته، كان وجهه هذه المرة رائق المنظر، بهي الطلعة، وعيناه ناطقتان بالبهجة وأثَر النعيم، تلمح في بؤبؤها تورّد السعادة الغنّاء.
ما أصغر هذه الدنيا يا عبدالله! حمدًا لله على سلامتك يا رجل، فقدتك في تلك الليلة حين تحادثنا، كيف حال أختك؟ أرجو أنها بخير حالٍ الآن.
أعتذر يا ماجد عن ما جرى ليلتئذٍ، فقد جئتُ إلى مكة راجيًا رحمة الله، ملتمسًا نوال فضله، فلمّا بثثتك بعض ما أهمّني من الأمر، استحييت من ربي أنْ شكوتُ حالي إلى غيره، فانصرفت بعد الصلاة ولم ألقك.
لا تثريب عليك، لكن حدثني عن حالك؟ أرجو أن تكون أمورك بخير.
قبل عامين خَلَتْ جئت إلى مكة، بعد طول تعرّضٍ لأسِنّة الهموم ورماحها العاتية، حتى ضاقت معها نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت، فعلمت أنها لن تتسع إلا باللجوء إلى الله، فجمعت شؤوني وما تعاظم من همومي، ثم أقبلت بها على الله في ليلة السابع والعشرين من رمضان، والهًا متدللًا كسيفَ البال من الحياء، فكنت لا أُرسل دعوة إلا مصحوبة بدمع سخين كأنه يخرج من تنّور القلب المشتعل بنيران الهمِّ والغمِّ المتلظية.
راح عبدالله يتحدّث عن نعيم ليلة القدر، والأنس العميم الذي خامر صدره، كما لو كان يرتع في جنة المأوى عند سدرة المنتهى.
ثم أخبرني كيف باح إلى الله بانكساره، واستغاثه بلسانه الذي ينطلق تارة ويكبو أخرى، مُقسمًا على ربِّه أن يأخذ بيده إلى جادّة السعادة وأن يهديه طريق السكينة، فمن رآه وهو ينفجر باكيًا، ظنَّ أنّهُ قتل نفسًا بريئة بغير نفسٍ، أو أفسد في الأرض إفسادًا لا يُرجى صلاحه.
ثم التفت إلي ورمقني بنظرة حازمة وقال:
أنتَ إذا دخلت على ملك من الملوك، ثم طلبته شأنًا من شؤون الدنيا، أتراه سيردك خائبًا؟ كلا، وأنا جئت إلى حرم ملك الملوك، ومثلتُ في حضرته عاريًا من كل حول وبارئًا من كل قوة إلا حولي وقوّتي به وحده، فأيقنت ساعتئذٍ أنَّ الله لن يردني خائبًا.
فما زال عبدالله يُندي علي من حديثه الإيماني، حتى ختمه قائلًا:
لم تمضِ مدة وجيزة حتى وصلني الردُّ على رسائلي المستعجلة التي أبرقتُ بها إلى رب السموات، فأنا الآن في وظيفة حسنة، أما أختي التي أصابنا اليأس من بُرئها، فقد أعلاها الله إلى العافية، بعد أن تعاهدناها بالرقية فترقرق فيها ماء الحياة، وعادت كما كانت غيداء نضرة.
فهلّلتُ وكبرتُ وهويت على رأسه لثمًا وتقبيلًا، مباركًا له على تفريج الله، ثم استوى معتدلًا في جلسته بعد عاصفة القُبَل المباغتة وقال:
أنصحك أن تخَبِّئ حوائجك إلى الله، وأن تجمع شتات أمرك عليه، فإذا لمحت ربوة ليلة القدر، وهي ذات قرار ومعين، فأنِخ ركاب حاجتك بساحة الله، وأقبل عليه إقبال قاطع الطريق على سجّانه، خائف القلب، مرتعد الفرائص، دامع العين، فلن يعرض عنك.
ودعتُ عبدالله بقلبٍ ينبض بحُسن الظن بالله، ورفعتُ رأسي إلى السماء بنظرة الوامق، والسكينة تجلّلني ليقيني بنزول تيار الملائكة الميمون يتقدمهم جبرائيل، حاملين معهم هدايا السماء لأهل الأرض، ورحتُ متحيّنًا صلاة التراويح والقيام.
إنَّ مفاجآت ليلة القدر، ومكافآت الله لعباده، لا تتأخر أبدًا، فاستمطروا غيثها بالدعاء والإلحاح والتضرّع في ليالي العشر، ووقتّوا ساعاتكم على لحظات الفرح، وهيئوا لها النمارق والوسائد، فهي وشيكة جدًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد