الحمد لله وحده، وبعد:
فقد (فوجئ العالم الإسلامي في هذا العصر بتفوق عدوه عليه في ميادين شتى، ولو أن هذا التفوق كان في مجال السيف والرمح والكر والفر، فلربما كنا نستطيع أن ندفع عن أنفسنا شره ونحول دون انتصاره علينا، بل قد نهزمه فنسترد ما ضاع منا.
ولكنه كان ولا يزال تفوقاً غير متكافئº فالعدو ـ على اختلاف توجهاته ـ يملك من وسائل القوة ما يضمن له التحكم والقهر، وبسط النفوذ وإملاء الإرادة في الوقت الذي أصبحنا فيه عالة عليه في كل شيء، مما يجعلنا نصنّف أنفسنا قبل أن يصنفنا غيرنا بأننا متخلفون.
ونتيجة لذلك فنحن (عالم التبعيّة) الواقع تحت التأثيرات الخارجية وقانون التوازن الدولي.
إن الصدمات العنيفة التي كان من المفروض أن تولِّد فينا ردود أفعال مناسبة لم تتوقف هزاتها وتحدياتها، ولقد بقينا مدة طويلة دون أن تكون مواجهاتنا لها في المستوى المطلوب)(1).
ويبقى الأفراد الغيورون يلتفتون صوب كل اتجاه بحثاً عن سبيل مواجهة أو طريق نجاة أو وسيلة إنقاذ إيماناً منهـم بأنـه لا بد من أن يستنفد المرء كل طاقته ـ ولا يدّخر منها شيئاً ـ لتبرأ ذمته ويستحق وعد الله - تعالى - : {أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم مَّسَّتهُمُ البَأسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
ولما كان الاقتصاد في هذا الزمن ذا تأثير كبير وفعال على مواقف الدول واتجاهاتهاº فقد بدأت الدعوة إلى (مقاطعة) البضائع والمنتجات التي تصدرها الدول التي تحارب المسلمين أو تقف معهاº لتكون وسيلة ضغط عليها لتوقف (أو تخفف) من موقفها المعادي للمسلمين.
وكان لهذا النداء تجاوباً كبيراً مــن الشــعوب المسلمة التي لا حول لها ولا قوّة، ولا تعرف كيف تعمل، ولا كيف تنتصر.
حتى قال بعضهم إن (سلاح المقاطعة) هو السلاح الوحيد المؤثر في سجل المواجهة مع إسرائيل في وقتنا الحاضر(2).
وفي الحقيقة إن المتابع لمجريات الأحداث يلمس لهذه المقاطعة آثاراً كبيرة تدفع بعض الشركات إلى التبرٌّؤ من دعم الدولة اليهودية، أو إلى تعهدها بدفع تبرعات لجهات فلسطينية، إلى غير ذلك.
وقد انتشرت في الساحة الإعلامية عدة فتاوى تقول: إن (كل من اشترى البضائع الإسرائيلية والأمريكية، من المسلمين فقد ارتكب حراماً، واقترف إثماً مبيناً، وباء بالوزر عند الله والخزي عند الناس»(3).
وحقيقة أن الغيرة الإسلامية تشتعل في النفس إذا رأت ما يحل بالمسلمين وما يدبر لهم على أيدي أعداء الله.
إلا أن موقف الموقِّع عن رب العالمين وهو يتلو قوله - تعالى - : {وَلا تَقُولُوا لِـمَا تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفلِحُونَ} [النحل: 116]. موقفٌ لا تؤثر فيه العواطف ولا يغلبه الحماس عن تأمل نصوص الوحيين، وإعمال قواعد الشرع وأدلته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : «كما أن الله نهى نبيّه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام في أول الأمر فكذلك في آخرهº فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم أو يكون في ضيق من مكرهم. وكثير من الناس إذا رأى المنكر، أو تغير كثير من أحوال الإسلام: جزع وكلَّ وناح كما ينوح أهل المصائب وهو منهي عن هذا بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه، فليصبر إن وعد الله حق، ويستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار»(4).
وفي هذه الورقات القليلات نظرات شرعية عاجلة لموضوع (المقاطعة)، حاولت فيها الوصول لحكم شرعي فقهي فيها.
أولاً: تعريف المقاطعة الاقتصادية:
المقاطعة مفاعلة من القطع. يقال: قطعه يقطعه قطعاً.
والقطع: إبانة بعض أجزاء الجرم من بعضٍ, فصلاً(5).
والقطع والقطيعة: الهجران ضد الوصل(6).
والبضاعة: السلعة، وأصلها القطعة من المال الذي يتجر فيه، وقيل جزء من أجزاء المال تبعثه للتجارة(7).
والسلعة: ما تُجر به والمتاع، وجمعها: سِلَع(8).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد