بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أوصى بتقواه وحسن عبادته، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، شهد له ربه و زكّاه بحسن الخلق فقال: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ, عَظِيمٍ,)) (القلم: 4).
وأمره و أدبه فقال: ((خُذِ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَنِ الجَاهِلِينَ)) (الأعراف: 199).
إخوة الإسلام: السماحة و السهولة و التيسير و الجود و السخاء و كرم النفس معان كريمة متقاربة، وهي خلق من أخلاق الإسلام الفاضلة، دعى إليها و ندب لفعلها، و مارسها المسلمون في حياتهم، فحققوا السعادة لأنفسهم، و أقنعوا الآخرين بالدخول في دينهم.
عباد الله: ما أحوجنا للحديث عن السماحة في زمن التلكع والمراوغة و النصب والاحتيال والفجور في الخصومة وأكل أموال الناس بالباطل، وشدة اللجاج وكثرة الخصام، والمنازعة والضغينة لأتفه الأسباب.
قالوا عن السماحة: إنها بذل ما لا يجب تفضلا، و قالوا: إنها الجود عن كرم وسخاء، و قالوا: إنها تيسير في المعاملة، وملاينة في المحادثة، و مفاهمة جميلة، وصفح و تجاوز، وإغضاء عن الهفوات والزلّات، إنها طلاقة في الوجه، واستقبال للناس بالبشر، وحسن مصاحبة للأهل والإخوان والخدم وسائر الخلق [1].
أيها المسلمون: والمتأمّل في القرآن الكريم يجد عددا من آياته تدعو للسماحة والعفو والصفح فهو أقرب للتقوى ((وَأَن تَعفُوا أَقرَبُ لِلتَّقوَى)) وهو فضل ينبغي الّاينسى ((وَلاَ تَنسَوُا الفَضلَ بَينَكُم إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ)) (البقرة: 237).
بل هي دعوة للتعامل مع غير المسلمين و إن أساءوا: ((وَدَّ كَثِيرٌ مِّن أَهلِ الكِتَابِ لَو يَرُدٌّونَكُم مِّن بَعدِ إِيمَانِكُم كُفَّاراً حَسَدًا مِّن عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقٌّ فَاعفُوا وَاصفَحُوا حَتَّى يَأتِيَ اللّهُ بِأَمرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ)): (البقرة: 109).
((قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجزِيَ قَومًا بِما كَانُوا يَكسِبُونَ*مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاء فَعَلَيهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم تُرجَعُونَ)) (الجاثية: 14-15).
وفي الآية كما قال أهل التفسير أمر لعباده المؤمنين بحسن الخلق و الصبر على أذية المشركين به، الذين لا يرجون أيام الله أي لا يرجون ثوابه، ولا يخافون وقائعه في العاصين، فإنه - تعالى -سيجزي كل قوم بما كانوا يكسبون[2]
أيها المؤمنون: ديننا دين السماحة و هو أحب الأديان إلى الله، قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيّ الأديان أحبّ إلى الله؟ قال: ((الحنيفيّة السمحة))[3] وأورده البخاري في صحيحه معلّقا بدون إسنادو لكن وصله في الأدب المفرد، باب الدين يسر (29).
وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: أحبّ الدين، أي خصال الدين، لأن خصال الدين كلها محبوبة، لكن ما كان منها سمحا أي سهلا- فهو أحبّ إلى الله. أهـ
السماحة في الدين لا تعني عدم طلب الأكمل..و لا تعني التراخي المؤدّي إلى الترخّص غير المشروع..لكنها سماحة لا غلو، و ترفق لا تشديد لا سيما في مواضع الرخص.. و لهذا علّق ابن حجر على الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنّ الدين يسر و لن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه، فسددوا و قاربوا.. إلخ))[4].
علّق الحافظ بقوله: المعنى: لا يتعمّق أحد في الأعمال الدينية، و يترك الرفق إلّا عجز و انقطع فيغلب، قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوّة فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة، بل (المقصود) منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوّع المفضي إلى ترك الأفضل أو إخراج الفرص عن وقته كمن بات يصلّي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، وإلى أن خرج الوقت المختار، وإلى أن طلعت الشمس فخرج الوقت.
ثم أورد الحافظ حديث محجن بن الأدرع عند أحمد، ولفظه: ((إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة و خير دينكم اليسرة)).
ثم قال ابن حجر: و قد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخص الشرعيّة، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر[5].
وهكذا فرق العلماء بين التشدد المحذور وبين الترخّص غير المقبول حتى توضع سماحة الإسلام في موضعها الصحيح.
إخوة الإسلام: ومن هدي النبوة قبس يضيء في السماحة وأثرها حيث يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((اسمح يسمح لك))[6].
وفي لفظ آخر مرسل ((اسمحوا يسمح لكم))[7]
تُرى من أفضل المؤمنين وهل له علاقة بالسماحة؟ أجل، فعن أبي سعيد الحدري - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أفضل المؤمنين رجل سمح البيع، سمح الشراء، سمح القضاء وسمح الاقتضاء))[8].
وعند البخاري: ((رحم الله رجلا سمحا إذا باع و إذا اشترى، و إذا اقتضى)) [9].
وفي حديث عمرو بن عبسة قلت: ((ما الإيمان؟ قال: الصبر و السماحة))[10].
لا إله إلّا الله، كم في السماحة من خير.. و كم هي سبيل للنجاة في اليوم العصيب و إن كان صاحبها مفلسا من عمل الخير.. قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيئ إلا أنه كان يخالط الناس، وكان موسرا، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، فقال الله: نحن أحقّ بذلك منه، تجاوزوا عنه)) [11]
أيها المؤمنون: و من حياة السلف دروس في السماحة و التجاوز استحقّوا بها درجا الخبان، فقد ورد أن عثمان - رضي الله عنه - اشترى من رجل أرضا فأبطأ عليه، فقال له: ما منعك من قبض مالك. قال: إنك غبنتني فما ألقى من الناس أحدا إلا وهو يلومني، قال: أو ذلك يمنعك؟ قال: نعم، قال: فاختر بين أرضك و مالك، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أدخل الله - عز وجل - الجنّة رجلا كان سهلا مشتريا و بائعا و قاضيا و مقتضيا))[12].
ومن السماحة إقالة العثرة، يروى عن على - رضي الله عنه - قال: ((أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم فما يعثر عاثر إلا و يده بيد الله يرفعه))[13].
والسماحة من خلق الكرماء.. وأين هذا ممن يتتبعون العورات، أو يفرحون بالسقطات، دون مناصحة وتلطف في القول؟
قيل من عادة الكريم إذا قدر غفر و إذا رأى زلّة ستر [14].
ومن حكم الشعر قيل في السماحة:
وإني لأستحي و في الحق مسمح * * * إذا جاء باغي العرف أن أتعذّرا
وقال الشافعي - رحمه الله -:
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى * * * ودافع ولكن بالتي هي أحسن
وأبلغ من ذلك كله.. إن الله يجزي المتصدقين.. إن الله يحبّ المحسنين.. ((خُذِ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَنِ الجَاهِلِينَ)) (سورة الأعراف: 199)
جعلنا الله من المحسنين والمتصدّقين ورزقنا السماحة في أقوالنا وأفعالنا، وهدانا سبل السلام.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة و السلام على سيّد المرسلين...
إخوة الإسلام: وحين تضطرب الموازين ينبغي أن يعلم أن السماحة المنضبطة بضوابط الشرع قوة لا ضعف، وأن السمح عظيم وليس بالرجل البسيط فليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.. و بقي أن نعلم الوسائل لاكتساب السماحة و الأسباب الجالبة لضدها.
ومن وسائل اكتساب السماحة..
1- التأمّل في الترغيبات التي رغّب الله بها من يتحلّى بالسماحة، والفوائد التي يجنيها أصحاب السماحة في الدنيا و الآخرة، فهم أسعد الناس في الدنيا لذكرهم الحسن و هم أصحاب حظ كبير في الآخرة.
2- التأمل في المضارّ والمحاذير التي يقع فيها نكد النفس فهو قلق ضجر متعب لنفسه وللآخرين.. هذا فضلا عن إفلاسه يوم القيامة حين يأتي و قد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا فأولئك خصوم ودائنون صعب الخلاص منهم.
3- الإيمان بالقضاء والقدر والرضاء بما قسم الله للإنسان و ما قدره عليه كل ذلك يمنح المسلم رضا وتسليما وطيب نفس وسماحة، وطمأنينة.
4-ترويض النفس على خلق السماحة و العفو و الصفح و الكرم حتى تستأنس بهذه الأخلاق العالية و تألفها.. فالمجاهدة طريق لتربية النفوس على المكارم.
5- الاقتداء و الاعتبار بأهل السماحة و في مقدّمتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أمّا أسباب الجفاء و الشدة و البخل وضيق العطن- و هي ضد السماحة- فمنها:
1- تغليب طبيعة النفس الرديئة، و الاستسلام لإغواء الشيطان و نزغاته، و عدم الاستعاذة من شرّه وكيده.
2- التعلّق بالدنيا واعتبارها كلّ شيئ فلها يحب ولها يبغض و من أجلها ينافح.. فصاحبها لا يهمّه ما حلّ أو حرم.. أو أبيح أن نهي عنه، بل الحلال ما وقع بيده.. إنها أنانيّة تجعل المرء لا يفكّر إلا بنفسه ولا يستشعر مشاعر الآخرين أو يقدر أحاسيسهم، ولذا يظلمهم ويسيئ إليهم.
3- ومن أسباب الشدة والجفاء ضعف الإيمان بالقضاء والقدر، والتحسّر على كل فائت و الحرص على كل محبوب للنفس وإن كان فيه حتفها أو كان سببا لهلاكها.
الحرص والمسابقة والعزيمة ينبغي أن تكون لأعمال الآخرة.. والسماحة والسهولة والقناعة والزهد ينبغي أن تكون للدنيا.. هكذا علّمنا ديننا و أرشدنا نبيّنا - صلى الله عليه وسلم -.
يا مسلم: تخلّق بأخلاق الكرام، و خذ بنفسك إلى جميل المروءات، واصبر على ما أصابك فإنّ ذلك من عزم الأمور، ومهما كان فينا من نوازع الشر و هنات الأخلاق، فلا بد من الحديث مع النفس وترويضها على جميل الأخلاق.
أذكّر نفسي و إيّاكم بآثار الأخلاق الفاضلة في الدنيا والآخرة، ويكفي أنّ صاحب الخلق محبوب مرموق عند الناس، وهو عند الله يوم القيامة بمكان يبلغ درجة الصائم القائم الذي لا يفتر.
أيها المسلمون: بالأخلاق الفاضلة ندعو الآخرين للإسلام، وبالسماحة واليسر نظهر الجانب المشرق من أخلاقنا و قيمنا و مكنوز حضارتنا.
تعود الحياة صفوا لا كدرا حين يفي الناس للأخلاق الفاضلة و منها السماحة و اليسر- تتقلص مساحة الشحناء، وتردم هوة المنازعة و البغضاء.. بالالتزام بأخلاقيات الإسلام يأمن الناس على حقوقهم ويطمئنّون إلى معاملة الآخرين، فلا غشّ ولا ظغينة ولا احتيال و لا نصب.. و يتعلّم غير المسلمين من المسلمين كيف تكون المعاملة بالحسنى وكيف يكون العدل مع البر والفاجر و الصديق و العدوّ.
إننا بحاجة إلى خلق السماحة نطهر بها أنفسنا من الغلّ والبخل، ونرسم في مجتمعاتنا شعائر المحبّة والإخاء.. حتّى إذا أصرّت فئة أو طائفة على خلاف ذلك وجدت في مجتمع المؤمنين رفضا عمليا لأخلاق الجفاء، واستنكارا جماعيا لموارد الهلكة والشحناء.
اللهم كما أحسنت خلقنا فأحسن خُلُقنا، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرفنا عن سيّئها لا يصرف عن سيّئها إلّا أنت، اللهم إنا نعوذ بك من الهمّ والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل..
----------------------------------------
[1] نظرة النعيم 6/ 2287، 2288 بتصرف
[2] تفسير السعدي عند آية الجاثية.
[3] رواه أحمد 1/ 236 بإسناد حسن (الفتح 1/ 94).
[4] رواه البخاري الحديث (رقم 29).
[5] الفتح: 1/94-95.
[6] رواه أحمد و صحح إسناده أحمد شاكر 3/ 54.
[7] وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/ 330.
[8] رواه الطبراني في الأوسط، و قال الهيثمي رجاله ثقات (مجمع الزوائد 4/ 75.
[9] الفتح 4/ 2076.
[10] رواه أحمد 4/ 385، و انظر نظرة النعيم 6/ 2296.
[11] رواه مسلم: 1561.
[12] رواه أحمد و صحح إسناده أحمد شاكر و رواه النسائي و حسنه الألباني (صحيح النسائي/ 4379).
[13] المستطرف1/272 عن نظرة النعيم 2/ 2299.
[14] السابق 6/ 2299.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد