الشجاعة والتضحية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الله - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان في أحسن تقويم وصوره في أحسن صورة وفطر عنده من الصفات والأخلاق التي ما إن تحلى بها حتى يصل إلى درجة تجاري درجة الملائكة في عبادتهم وطاعتهم لله - سبحانه وتعالى - فقد قال - تعالى -: ((لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)) وقال جل جلاله: ((فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) ومن حكمته جل جلاله ولابتلاء البشر وتمحيصهم حف الجنة بالمكاره وحف النار بالشهوات حتى يميز الخبيث من الطيب ويظهر الصالح من الطالح وينجلي صاحب الإرادة الذي عبد حق لله - تعالى -ومهزوم النفس ضعيف التحمل الذي لا يلبث ينجر وراء شهواته وغفلاته حتى يفاجئه الموت وعندها خسارته كبيرة والعياذ بالله فقال - تعالى -: ((اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم)) لذلك فرق الله - سبحانه وتعالى - في الدنيا قبل الآخرة بين المؤمن والكافر وبين المسلم الذي يتق الله في كل أحواله وبين المسلم الذي يقترف من المعاصي مالا يبالي له فقال - تعالى -: ((أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون)) ولم يسو الله - سبحانه - بين المجاهد بنفسه والمجاهد بماله كما لم يساوي أي منهما بالقاعد فالجهاد في سبيل الله بالمال وبالنفس فيه خير كثير للأمة وللدين وللعقيدة وإن كان ظاهر الأمر فيه خسارة مالية أو بدنية للمجاهد، ولما كان الجهاد فيه عرضة للخسارة فإنه احتاج إلى خلق عال يتحلى به صاحبه لأن النفس تكره الجهاد ذلك الخلق ألا وهو الشجاعة التي تتبعها التضحية فقال جل جلاله: ((كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون))..

أيها المسلمون: إن الغايات والأهداف التي شرع الله - تعالى -الجهاد لأجلها كثيرة ومتنوعة أشهرها وأظهرها لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى فقال - تعالى -: ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير)) وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) ولتحقيق هذه الغايات وإقامة شرائع الدين كان لا بد بجيل من المسلمين في كل زمان ومكان أن يقوم بهذا الواجب وألا يتخلف عنه مخلصا بذلك لوجه الله - تعالى -وهذا الأمر عباد الله لا يتحقق إلا بالشجاعة التي يتحلى بها المجاهدون والتضحية التي يبذلها هؤلاء المؤمنين فلا بد من رد اعتداء المعتدين والوقوف في وجه الظالمين دون خشية من أحد ومهما كانت موازين القوى راجحة لطرف دون آخر فإن ذلك لا يعتبر عذرا يوقف تضحية وشجاعة المقدمين فقد قال - تعالى -: ((ألا تقاتلون قوما نكثوا إيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين)) فالمجاهد المقدام لا يضع نصب عينيه إلا مخافة الله - سبحانه - وخشيته - جل جلاله - ولو عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بمنطق المعاصرين لما وصل الدين لأحد في أيامنا هذه ففي الإقدام والتضحية والشجاعة بعد التوكل على الله - سبحانه وتعالى - ذل لهؤلاء المجرمين وشفاء لصدور المؤمنين فقد قال جل جلاله ((قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين))..

 

أخوة الإسلام: إن الله - سبحانه وتعالى - بقدرته وعلمه وسلطانه قادر على أن ينصر دعوة نبيه وأن يرفع أمر دينه دون عناء لأحد أو شقاء لمرء فإن الكافرين مهما بلغت قوتهم ومهما بلغ حجمهم وسلاحهم فإنهم لن يعجزوا الله - جل جلاله - ولكن التمحيص والاختبار لأصحاب الشجاعة والتضحية يقتضي أن يخوض هؤلاء هذه التجربة فقد قال - تعالى -: ((وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون))..

 

وقال - جل جلاله –: ((ذلك لو يشاء الله لانتصر منكم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالكم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم)) فلئن كان بالتضحية والإقدام بشيء من الخسارة في نظر البعض فان العدو أيضا يألم كما يألم المسلم ويرجو المؤمن من الله - تعالى -ما لا يرجوه ذلك الكافر وعز المؤمن في دنياه بجهاده والأيام دول جعلها الله بين الناس فقد قال - تعالى -: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم إن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)) ومن هنا عباد الله فهم سلفنا الصالح من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن سار على دربهم إلى يومنا هذا هذه القاعدة وعملوا بها فقدموا الغالي والنفيس بداية من أموالهم ونهاية بأنفسهم حتى يرضى عنهم الله - سبحانه وتعالى - فكانوا على درجة من الشجاعة والتضحية ما لا يتصوره عقل إنسان في هذه الأيام إلا من فهم ما فهموه، فعلموا أن التخلي عن التضحية والشجاعة ردة عن دين الله - سبحانه وتعالى - يؤذن بزوال الفاعلين لذلك ووعد الله أن يبدلهم بآخرين يحبهم ويحبونه ووصفهم أنهم ((أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)) وهذا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ضرب لنا أروع الأمثلة في الشجاعة والتضحية ابتداء من حمله الرسالة وتحمله الأذى والعذاب في سبيل تبليغها إلى غير ذلك من المواقف، يقول أنس رضي الله - تعالى -عنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول: ((لم تراعوا -- لم تراعوا)) ويقول البراء - رضي الله عنه -: ((كنا والله إذا احمر البأس نتقي برسول الله)) أي إذا اشتدت المعركة نتقي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا علي كرم الله وجهه يقول: ((لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسا)) وهذا المقداد بن الأسود رضي الله - تعالى -عنه لما شاور النبي أصحابه في غزوة بدر يقول: ((يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك لا نقول لك كما قال بنوا إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى ((برك الغماد)) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه)) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرا ودعا له. هؤلاء هم الذين تربوا على أيدي رسولنا - صلى الله عليه وسلم - شجاعة وإقدام منقطعة النظير فلم يقولوا إن عدونا ثلاثة أضعافنا ولم يتخلوا عنه ويقولوا أنت من مكة ونحن من المدينة، فوا عجبا لمن تخلوا اليوم عن المجاهدين أصحاب الشجاعة والتضحية والإقدام وتركوهم يواجهون عدوهم ومصيرهم ثم يزعمون بعد ذلك الإيمان والتقوى بل إن بعضهم راح يعيب على الشجعان شجاعتهم وعلى المضحين تضحيتهم حتى أصبحت الفتاوى تصدر يمينا وشمالا تحرم وتحلل فشتان شتان بين من يجلس على مقعده آمنا مطمئنا بين أهله وعلى أرضه ويطلق فتاوى التحليل والتحريم وبين المجاهد الذي يوقّع على هذه الفتاوى بدمه نازفا وبحجارة بيته الذي يهدم على أهله.

أيها المسلمون: هذا سعد بن معاذ - رضي الله عنه - سيد الأنصار لما طلب النبي الرأي في بدر حينما قال - صلى الله عليه وسلم - أشيروا علي أيها الناس فقال سعد والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال أجل، قال فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهدنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرض بنا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إما لصبر في الحرب صدق عند اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقربه عينك فسر على بركة الله، فسرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول سعد ونشطه ثم قال: ((سيروا وأشيروا فان الله وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني انظر إلى مصارع القوم)) فالله الله على الرجال إخوة الإسلام الله الله على الذين يريدون خوض البحار لإعلاء كلمة الله الذين ما نظروا في العدد ولا العدة ولكنهم تيقنوا أن الله حسبهم فكان يقينهم في مكانه ولم لو يخذلوا أبدا وما شاء جل جلاله أن يخذل من كان معه.

أما إذا أردتم اخوة الإسلام أن تروا حال الصبية في زمن الحبيب - صلى الله عليه وسلم - فهذان الغلامان معاذ بن عمرو بن الجحوح ومعاذ بن عفراء كانا يبحثان عن أبي جهل في معركة بدر حتى يقتلاه لأنه كان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان لهما ما أرادا حيث انطلق كل واحد منهما بسيفه إلى أبي جهل بعد أن قال لعبد الرحمن بن عوف: ((أخبرت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده ـ أي جسدي جسده ـ حتى يموت الأعجل منا، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه يقول كل منهما أنا قتلته، قال - صلى الله عليه وسلم - هل مسحتما سيفكما قالا: لا، قال فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال كلاهما قتله وقضى بسلبه لهما)) هلا سمعتم عباد الله حال الشباب زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأين تربى هؤلاء الشباب؟ وما تربية أبنائنا في يومنا هذا؟ هل كان يبحث أولئك الشباب عن قصة شعرهم أم عن نوع لبسهم أم ما هي السيارة التي يحلمون بها أم أنهم بحثوا عن دينهم ونبيهم حتى وصلوا إلى هذه الدرجة من الشجاعة والإقدام يقف الواحد منهم على رؤوس أصابع قدميه حتى يظهر طويلا فيخرج للجهاد..

عباد الله: إن الشجاعة والتضحية لا تكون في الخطب الرنانة وفي كثرة الكلام ولا في التصريحات الإعلامية ولا في كثرة الشتم والسباب إنما الشجاعة والتضحية تحتاج إلى تربية وصبر ومصابرة بعد إخلاص النية لله - سبحانه وتعالى - حتى ينال صاحبها الشهادة فيكون الله قد اتخذه شهيدا من بين الناس أجمعين. فاللهم قوّ عزائمنا وانزع الجبن والخوف من قلوبنا وارزقنا الشهادة في سبيلك إنك أنت نعم المولى ونعم النصير..

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply