بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
شاعت في كثير من المساجد منذ سنوات معدودات في صيام وقيام شهر رمضان بعض الظواهر الجديدة التي لم تكن من قبل (فيما أعلم) وأهمها إطالة دعاء القنوت إطالة مملة، والزيادة في ألفاظه على ما ورد في السنة زيادة مفرطة، وتبلغ هذه الإطالة وتلك الزيادة ذروتها ليلة السابع والعشرين حيث يكون بعض الأئمة النشيطين قد أتموا قراءة القرآن كله في الأيام السابقة وينهون ختمته في هذه الليلة، فيتوجونها بدعاء طويل عريض في صلاة الوتر في هذه الليلة.
حكم الدعاء بهذه الكيفية:
إن الباحث المدقق والدارس المحقق إذا نظر في الأمر جلياً وتأمل فيه ملياً فسيجد أن هذا الدعاء (ولو كان يرافقه ما يرافقه من الأمور التي ظاهرها الصلاح والخير) إلا أنه يبقى بدعة منكرة ينطبق عليها كل تعاريف البدعة التي وضعها العلماء، وذلك أنه:
أولاً: أمر جديد في الدين.
وثانياً أنه يراد به التقرب إلى الله -جل وعلا-.
وثالثاً: أن الداعي له والمقتضي-وهو زيادة التقرب إلى الله- كان موجوداً زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يرشد إليه.
رابعاً: أنه لم يمنعه من فعله مانع، إذ يمكن أن يكون أمر ما مشروعاً ولكن يمنع منه مانع واقعي أو شرعي كحدوث مفسدة من فعله كما هو الشأن في بناء الكعبة على قواعد إبراهيم -عليه السلام-.
خامساً: يضاف إلى ذلك أن الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وأئمة العلم والدين لم يفعلوه خلال القرون الطويلة كلها، ولم يظهر إلا حديثاً في السنوات الأخيرة. دين الحق إن الدين الحق هو ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو قرآن وسنة، مفهومين على ضوء فهم السلف -رضي الله عنهم-، فكل ما لم يكن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ديناً فليس هو عند الله بدين، والعبادات كلها توقيفية كما هو مقرر عند العلماء، وهي محصورة في الوحي، وليس لها مصدر آخر، والأصل فيها الاتباع وليس الابتداع، والقاعدة فيها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (رواه مسلم) فقد كمل الدين وتمت النعمة: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً"(سورة المائدة/3)
أوجه مخالفة دعاء القنوت ودعاء ختم القرآن للشرع:
فإذا طبقنا ما سبق فسنجد أن هذا الأمر والمبالغة والزيادة في قنوت وتر رمضان ودعاء ختم القرآن في صلاة القيام في ليلة القدر ليس بدعة فقط، بل فيه مجموعة من البدع والمخالفات للشرع، ومن هذه الأمور:
1- أنهم يداومون عليه مع أن الوارد في دعاء القنوت ألا يستمر عليه المسلم دائماً وأبداً فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعه أحياناً. قال أستاذنا الألباني في (صفة الصلاة ص 179): وإنما قلنا أحياناً لأن الصحابة الذين رووا الوتر لم يذكروا القنوت فيه، فلو كان -صلى الله عليه وسلم- يفعله دائماً لنقلوه جميعاً عنه، نعم رواه عنه أبي بن كعب وحده، فدل على أنه كان يفعله أحياناً، ففيه دليل على أنه غير واجب، وهو مذهب جمهور العلماء.. "
من أوجه المخالفة الزيادة في دعاء القنوت:
الأدعية المشروعة في القنوت:
2- المشروع في دعاء القنوت التزام الصيغة التي كان يدعو بها النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير زيادة ولا نقصان، ذلك لأن هذا القنوت عبادة وهو ذكر شرعي فلا يجوز الخروج عما ورد فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولفظ القنوت الوارد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو ما ذكره الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) قال: علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود: "اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني واصرف عني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت لا منجى منك إلا إليك". (رواه ابن مندة في "التوحيد" والحاكم في المستدرك- 2/188، والبيهقي في السنن 2/38-39، وهو حديث صحيح).
ذكر أستاذنا الألباني في رسالة "قيام رمضان ص31" أنه لا بأس من جعل القنوت بعد الركوع ومن الزيادة عليه بلعن الكفرة والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- والدعاء للمسلمين في النصف الثاني من رمضان لثبوت ذلك عن الأئمة في عهد عمر رضي الله عنه فأين هذا من دعاء الأئمة في هذا الزمان، فقد غيروا وبدلوا، وزادوا وأضافوا، وأطالوا وأطنبوا من غير إذن من الله ولا سلطان من الشرع، فكيف سوغوا لأنفسهم ذلك؟ مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر على البراء بن عازب (رضي الله عنه) حينما استبدل كلمة (رسولك) بـ (نبيك) في دعاء النوم مع أن كلمة الرسول أوسع وأشمل. من أوجه المخالفة التغني به كالقرآن.
التغني بالدعاء كالقرآن:
3- إن دعاء القنوت الحالي وخاصة دعاء ختم القرآن يتغنى فيه كالقرآن، ولم ينقل مثل هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عن أحد من سلف الأمة فيما بلغنا، فالتلاوة والتغني المعهود هو من خصائص القرآن الكريم، وأما الدعاء فالمشروع فيه والمنقول أن يكون على السجية والبساطة وليس فيها ذلك. ضعف دليل الدعاء عند ختم القرآن.
4- إن المستند الوحيد لهم على الدعاء عند ختم القرآن، هو ما نقل عن بعض السلف كأنس بن مالك (رضي الله عنه) أنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا لهمرواه الدارمي "ص 734" وسنده ضعيف فيه صالح بن بشر المري وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات ولم يرد أنه كان يفعل ذلك في الصلاة بل الظاهر من هذا الأثر أنه كان يفعل ذلك خارج الصلاة، فنقل هذا إلى الصلاة مخالفة أخرى وليس لها مستند البتة.
هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتقصد ختم القرآن؟
5- هذا بالإضافة إلى أنه لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن الصحابة أنهم كانوا يتقصدون ختم القرآن كله في صلاة قيام رمضان، ويجزئون القراءة بحيث يكملون الختمة في آخر الصلاة، بل كانوا على سجيتهم يقرؤون ما تيسر من القرآن. من المخالفة جعل الدعاء في الشفع.
6- المشروع في دعاء القنوت في رمضان أن يكون الوتر من صلاة الليل -أي من الركعة الأخيرة- بينما أصحاب دعاء ختم القرآن قد جعلوه أيضاً في الشفع من هذه الصلاة، وليس لها أصل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من السلف.
الختم في ليلة السابع والعشرين مما أحدثه المعاصرون:
7- ومما أحدثه المعاصرون أنهم لم يجعلوا الدعاء في صلاة آخر ليلة من رمضان، بل في ليلة السابع والعشرين منه، وهذا من بنات أفكارهم، وليس له مستند إطلاقاً فإن قيل: لأن هذه الليلة ليلة القدر. نقول لهم: إن كون ليلة القدر في هذه الليلة أمر فيه خلاف بين الصحابة أنفسهم، وبين من بعدهم من العلماء كذلك، وليس هذا محل بسطه، وعلى فرض ترجيح ذلك فإنه لا يسوغ جعل دعاء ختم القرآن في هذه الليلة لعدم وجود ما يخصصه بذلك أو يرجحه على الليالي الأخرى. من أوجه المخالفة الإطالة الزائدة في الدعاء
التطويل في الدعاء من الاعتداء:
8- إن الدعاء الحالي يطيلون فيه إطالة تتعب المصلين وتجهدهم وتدخل الملل إلى نفوسهم، وإنني أجزم بأنه من الاعتداء في الدعاء المنهي عنه والذي هو من الأمور المنكرة التي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بأنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء" إسناده صحيح ومن ناحية أخرى فإطالة دعاء القنوت مما يشق على الناس ويوقعهم في الحرج، ولذلك نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد النهي عن إطالة الصلاة فقد روى البخاري (1/172- 173) عن أبي مسعود رضي الله عنه أن رجلاً قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا. قال: فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موعظة أشد غضباً منه يومئذ، ثم قال: "يا أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة".
ولو نظرت إلى ما ورد من خطبه -صلى الله عليه وسلم- في الجمعة والعيدين ونحوهما لوجدتها قصيرة لا تكاد تزيد على عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة، وكذلك في دعائه -صلى الله عليه وسلم- في الاستسقاء وغيره. فإنك لن تجد أطول دعاء له يبلغ خمس دقائق على أبعد تقدير، ومن شاء فليرجع إلى كتب السنة ليطالع صيغ أدعيته -عليه الصلاة والسلام-.
هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- تقصير الدعاء:
فهذه الإطالة غير معهودة في الشرع ومخالفة لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويكفي لبيان ذلك أن نتذكر حديث عائشة رضي الله عنه فقد روى الإمام الترمذي -رحمه الله- تعالى- عنها أنها قالت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة. ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني" (سنن الترمذي 5/534 وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ورواه كذلك ابن ماجة والحاكم عنها بألفاظ متقاربة، وصححه أستاذنا الألباني في (تخريج المشكاة 2091 وصحيح الجامع 4423) فهذا كل ما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة أحب الناس إليه قاطبة إذا علمت يقيناً متى ليلة القدر، كلمات معدودات قليلات لا يتجاوز الدعاء بها لو كررت عشر مرات دقيقة واحدة.
فأين هذا مما اصطنعوه من الدعاء المملوء بالمترادفات التي لها من الصنعة البلاغية والبيانية نصيب كبير؟
الخير كل الخير في الاتباع وعدم الابتداع:
وفي الختام أنصح إخواني الخطباء والأئمة والدعاة أن يلتزموا السنة ويدعوا البدعة ولو أعجبتهم، فليس المعول في أمور الدين على الذوق بل على الشرع، ولذكروا قول الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-: "كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة". وما أحسن ما روي عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل -رحمه الله- تعالى- حيث سأله أحد أصحابه عن المغبِّرة هل يجلس معهم؟ وهم قوم يجلسون مجالس يذكرون الله -تعالى- وينشدون بعض الأناشيد التي ترقق القلوب وتهيج النفوس وتحدث فيها الخشوع، ويضربون بعصي معهم الأرض إذا انشدوا، فيثيرون الغبار، فسموا بذلك، فأمره أن يدعوهم، ويجلسه وراء ستارة ليطلع على ما يجري في مجلسهم، فلما انتهى المجلس وانصرفوا دخل تلميذ الإمام عليه، فوجده يبكي متأثراً من ذكرهم وأناشيدهم، فسأله عن رأيه، فقال له: يا بني لا تحضر معهم، فإن هذا لم يكن عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتابعون لهم بإحسان.
قال أستاذنا الألباني -رحمه الله- معلقاً على ذلك: وهذا غاية الاتباع للسنة وهدي السلف. وفقنا الله إلى اتباع سنته والاهتداء بهديه،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
الاهتمام بالتراويح العشاء
00:40:28 2020-04-10