بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أما بعد: فقد حذَّرنا الله - تعالى -في كتابه الكريم من أن نكون مثل بلعم بن باعوراء، وهو رجل من بني إسرائيل، ذاق حلاوة الإيمان وآتاه الله آياته، ثم انقلب على عقبيه واشترى الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، وانسلخ من آيات الله كما تنسلخ الحية من جلدها.
قال - تعالى -: (وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذِي آتَينَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنهَا فَأَتبَعَهُ الشَّيطَانُ فَكَانَ مِن الغَاوِينَ وَلَو شِئنَا لَرَفَعنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخلَدَ إِلَى الأَرضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إِن تَحمِل عَلَيهِ يَلهَث أَو تَترُكهُ يَلهَث ذَلِكَ مَثَلُ القَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقصُص القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف: 175، 176].
وحذَّرنا ربنا - سبحانه - أن نكون مثل امرأة مجنونة كانت بمكة، اسمها ريطة بنت سعد، كانت تغزل طول يومها غزلاً قويًا محكما ثم تنقضه أنكاثا، أي: تفسده بعد إحكامه، فقال - تعالى -: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَت غَزلَهَا مِن بَعدِ قُوَّةٍ, أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيمَانَكُم دَخَلاً بَينَكُم أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَربَى مِن أُمَّةٍ, إِنَّمَا يَبلُوكُم اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُم يَومَ القِيَامَةِ مَا كُنتُم فِيهِ تَختَلِفُونَ)[النحل: 92].
ومعنى: تَتَّخِذُونَ أَيمَانَكُم دَخَلاً بَينَكُم أي: تعاهدون قوما على أن تكونوا معهم، وهذا العهد خديعة، فإذا وجدتم أمة أربى منهم ـ أي: أكثر وأعز ـ غدرتم بعهد الأولين وعاهدتم الآخرين.
وهذه التحذيرات القرآنية تنطبق على من ذاق حلاوة طاعة الله - تعالى- في رمضان، فحافظ فيه على الواجبات وترك فيه المحرمات، حتى إذا انقضى الشهر المبارك انسلخ من آيات الله، ونقض غزله من بعد قوة أنكاثا.
أيها المسلمون، إن كثيرًا من المسلمين ـ هداهم الله ـ يكونون في رمضان من الذين هم على صلاتهم يحافظون، فإذا انقضى رمضان أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وكثير من المسلمين يجتنبون في رمضان شرب الدخان ومشاهدة المحرمات وسماع الأغاني، فإذا انقضى رمضان عادوا إلى ما كانوا عليه من الباطل، وهؤلاء يُخشى عليهم أن يُختم لهم بالسيئات أعاذنا الله وإياكم.
أيها المسلمون، إن كثيرا من المسلمين كانوا يعمرون المساجد في رمضان بطاعة الله وبحضور مجالس الذكر، وكانوا يقضون أوقاتهم في تلاوة كتاب الله وتدبره، فإذا انقضى شهر رمضان هجروا المساجد وهجروا كتاب الله. فاتقوا الله عباد الله.
لقد سُئلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: كيف كان عمل رسول الله؟ قالت: كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان رسول الله يستطيع. رواه مسلم. وروى مسلم أيضا أن النبي قال: ((إن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل)).
فعلى المسلم أن يلزم نفسه بقدر من العبادات يستطيع أن يداوم عليه ولو كان قليلاً، فإنه سيكون كثيرًا بالمداومة عليه، وسيكون محببا إلى رب العزة - سبحانه وتعالى -.
من الأعمال الصالحة التي تشرع لنا بعد رمضان صيام ستة أيام من شوال، عن أبي أيوب قال: قال: ((من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فذلك صيام الدهر)) رواه مسلم. وذلك أن شهر رمضان بعشرة أشهرº لأن الحسنة بعشر أمثالها، وستة أيام بستين يوما أي: بشهرين، وذلك يعادل أجر صيام سنة كاملة، فلا يفوتكم هذا الفضل العظيم.
ولا يشترط في هذه الأيام الستة التتابع، ولا أن تكون مباشرة بعد يوم العيد، بل يجزئ صيام أي ستة أيام من شوال.
ويمكن أن يجعلها في أيام الاثنين والخميس أو في غيرها. واختلف العلماء فيمن كان عليه أو كان عليها قضاء أيام من رمضان، هل ينال فضل صيام ست من شوال إذا صامها قبل قضاء ما عليه من رمضان أم لا؟ وفضل الله واسع، ولن يحرم المسلم الأجر ـ بإذن الله ـ إذا صامها ولو قبل القضاء، فإن حاز فضل صيام ست من شوال فبها ونعمت، وإلا فإنه سيحوز فضل الصيام عموما وفضله عظيم.
عن أبي أمامة قال: قال: ((من صام يوما في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقا كما بين السماء والأرض)) رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (6233)، وعن أبي هريرة قال: قال: ((من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفًا)) صححه الألباني في صحيح الجامع (6334).
فعلى المسلم أن يستقيم على طاعة الله ويداوم عليها حتى يأتيه الموت وهو على ذلك، قال - تعالى -: وَاعبُد رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ [الحجر: 99] أي: الموت، وذكر - تعالى- عن عيسى - عليه السلام - أنه قال: (وَأَوصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيًّا)[مريم: 31].
فليس هناك غاية لانقطاع العمل الصالح إلا الموت، فاحذروا ـ أيها المسلمون ـ من التهاون في الطاعات بعد رمضان، واحذروا من المعاصي بعد رمضان كما كنتم تحذرون منها أثناءه، واعلموا أن الدنيا مزرعة للآخرة، فمن زرع خيرا وجد خيرا، ومن زرع شرا وجد شرًا.
أيها المسلمون، إن الشياطين يُطلق سَرَاحها بعد رمضان وتفكّ قيودها، ولكن كيد الشيطان ضعيف كما أخبرنا ربنا - سبحانه -، ومن اعتصم بالله عصمه الله من مكايد الشيطان.
والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد