المال وأحكامه


بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللَّهِ من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّهُº فلا مضل له، ومن يضللº فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله.

 

أما بعد:

* المال وأحكامه:

فإن موضوع المال وما يتعلَّق به من أحكام وما له به من صلة، أمر متشعِّب جداً، وخُصَّ بدواوين كثيرة شهيرة، وبقي: معرفة هل المال في ذاته محمود أم مذموم، وفي النصوص (الأحاديث والآثار) ما يفيد هذا وهذا، ولذا حمله العلماء على الحالتين على حسب ما يؤول إليه الأمر.

 

* متى يذم المال؟

فهو مذموم باعتبار:

- أن فيه إشغالاً عما هو الأهم في الدنيا من العمل بالخيرات، وقد يكون سبباً في الصدّ عن كثير من الطاعات.

- أنه سبب في الاشتغال عن الواجبات، ووسيلة إلى الغفلة والممنوعات، لأن التمتع بالدنيا بسببه له ضراوة كضراوة الخمر، وبعضها يجرٌّ إلى بعض، إلى أن تهوي بصاحبها في المهلكة -والعياذ بالله-.

- أن الشرع قد جاء بذم الدنيا، وهو من زينتها، وسبب للتمتّع بلذّاتها، كقوله - تعالى -: {أَذهَبتُم طَيِّبَاتِكُم فِي حَيَاتِكُمُ الدٌّنيَا} [الأحقاف: 20]، وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدٌّنيَا وَزِينَتَهَا} [هود: 15].

وفي الحديث: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم: أن تفتح عليكم الدنيا كما فُتحت على الذين من قبلكم... »، وفيه: «إن مما يُنبتُ الربيع ما يقتل حَبَطاً أو يُلِمّ».

 

وذلك كثير شهير في الكتاب والسنَّة، وسيأتي بعضه عند المصنف.

- ما فيه من التعرض لطول الحساب في الآخرة، وقد جاء: «إن حلالها حساب، وحرامها عذاب»، والعاقل يعلم أن طول الحساب نوع من العذاب، وأن سرعة الانصراف من الموقف إلى الجنة من أعظم المقاصد، وإن المال صادُّ عن ذلك.

 

* متى يمدح المال؟

ونازع آخرون في ذلكº وقالوا عن الوجوه المذمومة السابقة: إنها حق، وهذا النظر الذي نظرتم إليه إلى المال والدنيا هو نظر مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا، من كونها متعرفاً للحق، ومستحقاً للشكر الواضع لها، بل إنما يعتبر فيها كونها كيساً ومقتنصاً للذات، ومآلاً للشهوات، انتظاماً في سلك البهائم، وهذا ظاهر للعيان من هذه الجهة، وهو على هذا الحال، قشرٌ بلا لبٍّ,، ولعب بلا جد، وباطل بلا حقº لأن صاحب هذا النظر لم ينل منه إلا مأكولاً، ومشروباً، وملبوساً، ومنكوحاً، ومركوباً، من غير زائد، ثم يزول عن قريب، فلا يبقى منه شيء، فذلك كأضغاث أحلام، وهذا هو نظر الكفار أصالة، وأما المؤمنون فهم يعلمون أن المال محمود من وجوه كثيرة، منها:

- إنه نعمة من الله - عز وجل - كسائر النعم، يجب شكرها، والواجب الانتداب إلى ذلك حسب القدرة والمكنة، وصار ذلك القشرُ محشواً لُبّاً، بل صار القشر نفسه لباًº لأن الجميع نعمٌ طالبة للعبد أن ينالها، فيشكر لله بها وعليها.

- إنه يستعان به على الطاعات، وهو ذريعة في بعض الأحايين إلى تحقيق بعض المأمورات والواجبات، كالمستعان به على أمر أخرويّ، ففي الحديث: «نِعم المال الصالح للرجل الصالح»، وفي الحديث الآخر: «ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم.... »، إلى أن قال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»، فجعل المال فضلاً من الله يمتنّ به على بعض عباده.

 

- إن ما ذكر من الحساب على المال، وأنه يؤخر الأغنياء من دخول الجنة، يقال عليه: إنه راجع إلى أمر خارج عن نفس المال، فإنه - مثلاً- من خلاله: يقع أكل كذا، وله مقدمات وشروط ولواحق لا بد من مراعاتها، فإذا رُوعيت صار ذلك وسيلة إلى العبادات والطاعات، وإن لم تُراع كان التسبب والتناول فيه قصوراً أو خلافاً على حسبه وبقدره.

 

* المال كغيره من الشهوات:

- وعلى الجملةº فالمال كغيره من الشهوات والملذات، له أحكام، وضوابط، وشروط، وموانع، ولواحق تراعى، والترك في هذا كله كالفعل، فكما أنه إذا تسبب للفعل كان تسببه مسؤولاً عنه، كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسؤولاً عنه.

 

وتأمل حادثة سلمان وأبي الدرداء، فيما أخرج البخاري (1968، 6139) ومسلم (182) عن أبي جحيفة قال: آخى النبي بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء -وهي زوجه- متبذِّلةº فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل فإني صائم. فقال: ما أنا بآكل حتى تأكلº فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم. فنام، ثم ذهب ليقومº فقال: نم. فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصلينا فقال له سلمان: «إن لربِّك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍّ, حقّه». فأتى النبي فذكر له ذلكº فقال النبي: «صَدَقَ سلمان».

 

يتبين لنا من هذا أن الفعل والترك يتعلق بهما الحساب، وإذا كان كذلك، فلم يبق مجالاً لذم المال من هذا الوجه.

 

* فصل النزاع:

والصواب في هذا الباب: أن تناول المباح، وتحصيل المال من حلِّهº لا يصح أن يكون صاحبه محاسباً عليه بإطلاق، وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه، إما من جهة تناوله واكتسابه، وإما من جهة الاستعانة به على التكليفات، فمن حاسب نفسه في ذلك وعمل على ما أمر به، فقد شكر نعم الله، وفي ذلك قال الله - تعالى -: {قُل مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} إلى قوله: {خَالِصَةً يَومَ القِيَامَةِ}[الأعراف: 32].

وهذه النعم هدايا من الله للعبد، وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد؟ هذا غير لائق في محاسن العادات، ولا في مجاري الشرع، بل قصد المهدي أن تقبل هديته، وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه، فليقبل، ثم ليشكر له عليها.

 

والخلاصةº إنَّ المال لا بدَّ أن يكون خادماً لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي، ويراعى إمساكه وتحصيله من جهة ما هو خادم له، فيكون مطلوباً ومحبوباً فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله - عز وجل - من المأكل والمشرب ونحوهما: مباح في نفسه، وإباحته بمفرداته المتعددة، خادمة لأصل ضروري، وهو إقامة الحياة، فهو معتبر ومحبوب بالنسبة إلى حقيقته الكلية، لا إلى اعتباره الجزئي، ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد، لا من حيث هو جزئي معين.

 

أما إن عاد المال لنقض أصلٍ, من أصول الشرع، والاعتداء على المقاصد الكلية، بالاعتداء على العرض، أو العقل، أو البدن، أو النسل، أو الدينº فهذا هو المذموم، ويسمى أخذه:رغبة في الدنيا، وحباً في العاجلة، وضده هو الزهد فيها، وهو تركها من هذه الجهة، ولا شك أن ذلك مطلوب

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply