بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله - عز وجل -.
أيها الإخوة في الله، إن أعباءَ الدنيا جسام، والمتاعبَ تنزل بالناس من اليتامى والأرامل والغرباء والضعفاء والمعسرين. والإنسانُ بمفرده أضعف من أن يصمد طويلاً تجاه هذه الشدائد، ولئن صمد فإنه يبذل من الجهد ويقاسي من المعاناة ما كان في غنًى عنه لو أن إخوانه التفتوا إليه وهرعوا لنجدته وأعانوه في مشكلته، فالمرء قليل ضعيف بنفسه كثيرٌ قوي بإخوانه.
ومن حق المسلم على أخيه المسلم أن يتألم لألمه، ويحزن لحزنه، ويعينه على دفع كربته، أما موت العاطفة وقلّة الاكتراث وكأن الأمر لا يعنيه فهو تنكّر لهذه الأخوة، فضلاً عن أنه جفاء في الخلق وجمود في الطبع.
والتألم الحق هو الذي يدفعك إلى كشف ضوائق إخوانك، فلا تهدأ حتى تزول الغمة وتنكشف الظلمة، ((المسلم أخو المسلمº لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)).
عباد الله، إن من رحمة الله حين خلق المعروف أن خلق له أهلاً فحببه إليهم وحبب إليهم إسداءه، ووجههم إليه كما وجّه الماء إلى الأرض الميتة فتحيا به ويحيا به أهلها، وإن الله إذا أراد بعبده خيرًا جعل قضاء حوائج الناس على يديه، ومن كثرت نعم الله عليه كثر تعلّق الناس به، فإن قام بما يجب عليه لله فيها فقد شكرها وحافظ عليها، وإن قصّر وملّ وتبرّم فقد عرّضها للزوال، ثم انصرفت وجوه الناس عنه.
ورد في الحديث: ((إن لله أقوامًا اختصهم بالنعم لمنافع عباده، يقرّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحوّلها إلى غيرهم)) أخرجه الطبراني وابن أبي الدنيا. وعن ابن عباس مرفوعًا: ((ما من عبد أنعم الله عليه نعمة وأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرّم فقد عرّض تلك النعم للزوال)) رواه الطبراني بسند جيد.
وفي الصحيح عن النبي قال: ((من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)). وفي صحيح مسلم: ((من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه، ومن أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)).
فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، وأحب الخَلق إلى الله أنفعهم لعباده، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، والجزاء من جنس العمل، فكما تعامل الخلقَ في الدنيا يعاملك الخالق - سبحانه - في الآخرة، فاختر لنفسك.
ولما سئل نبينا عن أحب الناس إلى الله وأحبِّ الأعمال إلى الله، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((أحبٌّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس، وأحبٌّ الأعمال إلى الله - عز وجل - سرور تدخلُه على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخٍ, في حاجة أحبّ إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا ـ أي: المسجد النبوي الذي الصلاة فيه بألف صلاة ـ، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظمَ غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزولُ الأقدام)) وصدق رسول الله.
وخيرُ عبادِ الله أنفعهم لهم *** رواه من الأصحاب كلٌّ فقيه
وإن إله العرش جلّ جلالُه *** يُعينُ الفتى ما دامَ عون أخيـه
فهنيئًا لمن يسارعُ في صنائع المعروف وقضاءِ حوائجِ الناس، وهنيئًا للموظف الذي يسعى لذلك ولو لم يكن من صميم عمله، وهنيئًا لمن توسّط في قبول طالبٍ, أو مساعدة محتاج أو تنفيس كربة مكروب مهموم، هنيئًا لمن شفع شفاعة حسنة له أجرها وبرّها في الدنيا والآخرة، قال حبيبنا: ((صنائعُ المعروف تقي مصارع السوء))، وقال: ((وكلٌّ معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة)).
والغبطة ـ أيها الأحبة ـ فيمن يسّر الله له خدمةَ الناس وأعانه على السعي في مصالحهم، فعن عبد الله بن مسعود قال قال النبي: ((لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)).
إن دروب الخير ـ أيها المسلمون ـ كثيرةٌ وحوائجُ الناس متنوعة: إطعامُ جائع وكِسوةُ عاري وعيادةُ مريض وتعليمُ جاهل وإنظارُ معسر وإعانةُ عاجز وإسعافُ منقطع، تطردُ عن أخيك همًا وتزيلُ عنه غمًا، تكفُل يتيمًا وتواسي أرملة، تُكرمُ عزيزَ قوم ذلّ وتشكرُ على الإحسان وتغفرُ الإساءة، تسعى في شفاعة حسنة تفكّ بها أسيرًا وتحقن به دمًا وتجُرٌّ بها معروفًا وإحسانًا، وشهادةُ حق تردٌّ وتحفظُ بها حقًا لمظلوم. كلٌّ ذلك تكافلٌ في المنافع وتضامنٌ في التخفيف من المتاعب، تنفيسٌ للكروب ودفعٌ للخطوب، وتصبيرٌ في المضائق وتأمينٌ عند المخاوف، وإصلاحٌ بين المتخاصمين، وهدايةٌ لابن السبيل، فإن كنتَ لا تملكُ هذا ولا هذا فادفع بكلمة طيبة وإلا فكفَّ أذاك عن الناس، فإنه صدقةٌ منك على نفسك.
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي قال: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرُكَ بالمعروف ونهيُكَ عن المنكر صدقة، وإرشادُكَ الرجلَ في أرضِ الضلال لكَ صدقة، وإماطتُكَ الحجرَ والشوكَ والعظمَ عن الطريق لك صدقة، وإفراغُكَ من دلوك في دلو أخيك صدقة)).
نعم أيها الإخوة، كلٌّ معروف صدقة، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، والصدقةُ تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيدُ في العمر، والمال إن لم تصنع به معروفًا أو تقضِ به حاجة أو تدّخر لك به أجرًا فما هو إلا لوارثٍ, أو لحادث، وصنائعُ البر والإحسان تستعبدُ بها القلوب.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهم *** فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
والشحيحُ البخيلُ كالحُ الوجه، يعيشُ في الدنيا عيشةَ الفقراء، ويحاسَبُ يوم القيامة حسابَ الأغنياء، فلا تكن ـ أيها الموسِرُ القادرُ ـ خازنًا لغيرك.
أيها الإخوة الأحباب، إن صفوَ العيش لا يدومُ، وإن متاعب الحياة وأرزاءَها ليست حِكرًا على قوم دون قوم، وإن حسابَ الآخرة لعسير، وخُذلانُ المسلم شيءٌ عظيم.
المسلمون اليوم هانوا أفرادًا وهانوا أُممًا، حين ضعفت فيهم أواصِرُ الأخوة، ووهت فيهم حبالُ المودة، استحكمت فيهم الأنانيات، وساد حب الذات، فوقعت الآفات، ومحقت البركات، ((وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)).
بل إن بعض غِلاظِ الأكباد وقُساةِ القلوب ينظرون إلى الضعيف والمحتاج وكأنه قذى في العين، يُزلقونه بأبصارهم في نظرات كلٌّها اشمئزازٌ واحتقار. ألا يعتبر هؤلاء بأقوام دار عليهم الزمان وعدت عليهم العوادي واجتاحتهم صروفُ الليالي فاستدارَ عزُهم ذلاً، وغِناهُم فقرًا، ونعيمُهم جحيمًا؟!
فاتقوا الله رحمكم الله، وأصلحوا ذات بينكم، ولتكنِ النفوسُ سخيةً والأيدي بالخير ندية، واستمسكوا بعرى السماحة، وسارعوا إلى سداد عَوَز المُعوزين، ومن بذَلَ اليوم قليلاً جناه غدًا كثيرًا. تجارةٌ مع الله رابحة، وقرضٌ لله حسن مردودٌ إليه أضعافًا مضاعفة، إنفاقٌ بالليل والنهار والسر والعلن، لاَ خَيرَ فِي كَثِيرٍ, مِن نَجوَاهُم إِلاَّ مَن أَمَرَ بِصَدَقَةٍ, أَو مَعرُوفٍ, أَو إِصلاحٍ, بَينَ النَّاسِ وَمَن يَفعَل ذَلِكَ ابتِغَاءَ مَرضَاةِ اللَّهِ فَسَوفَ نُؤتِيهِ أَجرًا عَظِيمًا [النساء: 114].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي رسوله الكريم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، له الملك وله الحمد، هو المتفضل وصاحب الفضل، هو الكريم وصاحب الكرم، خلق عباده وفضّل بعضهم على بعض، وجعل بعضهم فوق بعض درجات، يعزّ ويذل، يغني ويفقر، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، لا يُسأَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسأَلُونَ [الأنبياء: 23]، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، الذي وصفته زوجه خديجة - رضي الله عنها - لمّا بُعث: (كلا والله ما يخزيك الله أبدًاº إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) فكان المصطفى يفرج كرب المعدم ومن أصابته النوائب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فالمعروف أيمن زرع وأفضل كنز، ولا يتم المعروف إلا بثلاث: تعجيله وتصغيره وستره، فمن وفق لبذل المعروف والإحسان إلى الناس فليكن ذلك بنية صالحة ووجه طلق ومظهر بشوش، وليحرص على كتمان معروفه وإحسانه مراعاة للإخلاص وحفظًا لكرامة أخيه المسلم.
أيها الإخوة في الله، ويبلغ الأدب غايته حين يعلم باذل المعروف أن ما يقدمه من المعروف هو حق لمن قدمه لهم، ساقه الله على يديه، فلا ينتظر منهم جزاءً ولا شكورًا، بخلاف من يتبع معروفه بالمنّ والأذى، فإنه يمحق أجره ويُبطل ثوابه، ويُعرّض ما أنعم الله به عليه للزوال. فالمال والجاه والمنصب وغيرها كلّها من الله، هو واهبها، وهو القادر أن يسلبها من العبد في لحظة.
فيا من جعل الله حوائج الناس إليه، ابذل المعروف لهم، صدقة وإحسانًا، مساعدة وشفاعة، فقد كان السلف - رحمهم الله - يفرحون بقضاء حوائج الناس أيما فرح، يقول حكيم بن حزام: \"ما أصبحت وليس ببابي صاحب حاجة إلا علمت أنها من المصائب\".
وأنت أخي المحتاج، يا صاحب الحاجة، ويا أيها المكروب، لا يكن اعتمادك فقط على من هم مثلك من البشر، فربٌّ من تستشفع بهم هو القادر، وإلهُ من تسألُهم هو الناصر، والبشر لا يملك أحدهم لنفسه فضلاً عن غيره نفعًا ولا ضرًا، إلا أن يشاء الله. فلا تكن عن الله غافلاً أو معرضًا، ولا تكن على غيره معتمدًا أو متوكلاً، فربّما وكلك الله إلى نفسك أو إلى من سألتهم قضاء حاجتك فتخسر الدين والدنيا.
عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)) حديث صحيح، وعن علي - رضي الله عنه - قال: علّمني رسول الله إذا نزل بي كرب أن أقول: ((لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين)) رواه أحمد وهو صحيح. وكان نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - إذا كربه أمر يقول: ((يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث)).
فالله هو فارج الهمّ وكاشف الكرب وميسّر العسير ومسهّل الأمور، والناس ـ إلا من رحم الله ـ عن دعاء ربهم غافلون، وعن سؤاله والإلحاح عليه معرضون، وبغيره من البشر متعلّقون، وعليهم معتمدون، وهذا نقص في التوحيد وكماله، وخلل في التوكل وصدقه، قُل اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤتِي المُلكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزٌّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلٌّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ [آل عمران: 26].
أيها الإخوة المؤمنون، ليس للمعروف حدّ، بل لا يقتصر بذل المعروف على بني آدم، فحتى البهائم والحيوان في بذل المعروف لها أجر، فالرحمة في ديننا شملت البهائم حتى القطط والكلاب، قال رسول الله: ((دخلت امرأة النار في هرّةº حبستها لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض))، وفي صحيح مسلم: ((إن امرأة بغيًا رأت كلبًا في يوم حار يطيف في بئر قد أدلَعَ لسانه من العطش، فنزعت له موقها ـ أي: خفها ـ فسقته فغُفر لها)).
فيا عباد الله، إن كانت الرحمة وبذل المعروف لكلب من امرأةٍ, بغي أوجب لها ما أوجب، ألا تكون الرحمة وبذل المعروف والإحسان للمسلمين أعظم وأنفع؟! فالمعروف وصنائع المعروف تثمر حتى مع البهائم العجماوات.
يذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عند حديثه عن الإمام القدوة العالم الجليل شيخ الإسلام في زمانه سفيان الثوري - رحمه الله - قال: يقول أبو منصور: بات سفيان الثوري في هذا البيت، وكان هنا بُلبل لابني، فقال سفيان: ما بال هذا محبوسًا؟! لو خُلّي عنه، قال: فقلت: هو لابني وهو يهبه لك، قال سفيان: لا، ولكن أعطيه دينارًا، قال: فأعطاه دينارًا وأخذ البلبل وخلّى عنه. يقول أبو منصور: فكان البلبل يذهب يرعى فيجيء بالعشي ـ آخر النهار ـ فيكون في ناحية البيت، فلمّا مات سفيان الثوري تبع البلبل معنا جنازته ـ سبحان الله العظيم ـ فكان البلبل يضطرب على قبره، ثم اختلف بعد ليالٍ, إلى قبره، فكان ربما بات عند القبر، وربما رجع إلى البيت، ثم وجدوه ميتًا عند قبر سفيان الثوري - رحمه الله -، فدفن عنده.
هكذا يصنع المعروف مع الطير والبهائم فكيف مع بني الإنسان؟! كيف مع إخواننا المسلمين؟! إنه لأعظم أجرًا ومثوبة ونفعًا في الدنيا والآخرة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد