موالاة المشركين ومشاركة العلمانيين


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيقول الله - تبارك وتعالى -: \" لاَّ يَتَّخِذِ المُؤمِنُونَ الكَافِرِينَ أَولِيَاء مِن دُونِ المُؤمِنِينَ وَمَن يَفعَل ذَلِكَ فَلَيسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيءٍ, إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنهُم تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفسَهُ وَإِلَى اللّهِ المَصِيرُ \" [آل عمران: 28].

هذه الآية تنهى المؤمنين عن موالاة الكافرين، والمؤمن مطالب في نصوص كثيرة بموالاة المؤمن ومعاداة الكافر، وهذا ما يُعرف بعقيدة الولاء والبراء.

 

فالولاء والوِلاية والوَلاية: النصرة، والموالاة ضد المعاداة. والبراء: التنزه والتخلص والعداوة والبعد. وعلاقة الولاء والمحبة والبراء والبغضاء علاقة ملازمة، فالولاء لازم المحبة، والبراء لازم البغض.

هذه العقيدة من الأهمية بمكانٍ, في ديننا الحنيف، ومما يدلل على ذلك:

1- أنَّ الإيمان لا يتحقق إلا بها، قال - تعالى -: \"وَلَو كَانُوا يُؤمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَولِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنهُم فَاسِقُونَ\" [المائدة: 81]، قال شيخ الإسلام: \"وهذه جملة شرطية إذا وُجد الشرط وُجد المشروط... ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء، فمن اتخذهم أولياء ما فعل الإيمان الواجب\"[1].

 

2- تحقيقها أوثق عُرى الإيمان، سأل النبي أبا ذر: ((أتدري أي عرى الإيمان أوثق؟)) قال: الله ورسوله أعلم، قال: ((الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله - عز وجل -)) رواه الطبراني وصححه الألباني، وقال: ((مَن أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبغَضَ لِلَّهِ وَأَعطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَد استَكمَلَ الإِيمَانَ)) رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني. إذًا فدين الإسلام دين حب وبغض، دين ولاء وعداء، دين رحمة وسيف.

 

3- يجد الإنسان إذا حققها حلاوة الإيمان، عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ, عَن النَّبِيِّ قَالَ: ((ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَن يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَن يُحِبَّ المَرءَ لا يُحِبٌّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَن يَكرَهَ أَن يَعُودَ فِي الكُفرِ كَمَا يَكرَهُ أَن يُقذَفَ فِي النَّارِ)) أخرجاه في الصحيحين. فالحب والبغض من المعاني التي تجري على كل أحد، لكنَّ الموفَّق من أخضعها للشَّرعº فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، وما يُلقَّاها إلا ذو حظٍّ, عظيم.

 

4- وبايع النبي جرير بن عبد الله فقال له: ((أُبَايِعُكَ عَلَى أَن تَعبُدَ اللَّهَ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤتِيَ الزَّكَاةَ وَتُنَاصِحَ المُسلِمِينَ وَتُفَارِقَ المُشرِكِينَ)) رواه أحمد والنسائي.

 

معاشر المؤمنين، لقد أعلمنا القرآن الكريم أن التبرؤ من الكافرين دأب الأنبياء عليهم الصلاة والتسليم، ونحن مأمورون بالسير على طريقهم.

 

فهذا أبو الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - يقول الله - تعالى - عنه: \"قَالَ أَفَرَأَيتُم مَّا كُنتُم تَعبُدُونَ أَنتُم وَآبَاؤُكُمُ الأَقدَمُونَ فَإِنَّهُم عَدُوُّ لِّي إِلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ \"[الشعراء: 75-77]، \"وقال: وَإِذ قَالَ إِبرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَومِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ\" [الزخرف: 26-28]. ومع شدة بره بأبيه الذي يلمسه كل من قرأ سورة مريم أظهر التبرؤ منه لما وضح له أنه من أعداء رب العالمين ومات على ملة المشركين، \"وَمَا كَانَ استِغفَارُ إِبرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوعِدَةٍ, وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوُّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنهُ إِنَّ إِبرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ\" [التوبة: 114]، وتبين له ذلك لما مات على الكفر.

 

وهذا هود - عليه السلام - قال الله - تعالى - عنه: \"قَالَ إِنِّي أُشهِدُ اللّهِ وَاشهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ, إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ, مٌّستَقِيمٍ,\" [هود: 54-56]. وقد جمع بين إظهار هذه العقيدة وبين القوة والحزم في ذلك، وقد ذُكر لنا سرٌّ قوته هذه في قوله: \"إِنِّي تَوَكَّلتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم\" [هود: 56]، فصدق التوكل على الله سبب حفظه ورعايته، \"وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ\" [الطلاق: 3].

 

وقد سلك نبينا طريقهم واهتدى بهديهم كما أمره الله في قوله: \"أُولَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقتَدِه \"[الأنعام: 90]. فقد أظهر هذا البراء من المشركين ولم يداهنهم، قال - تعالى -: \"وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُم لَتَشهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخرَى قُل لاَّ أَشهَدُ قُل إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشرِكُونَ\" [الأنعام: 19]. وأعلن للمشركين براءته الصريحة التي لا لَبسَ يكتنفها من دينهم وطريقهم بأفصح عبارة وأدل لفظ: \"قُل يَا أَيٌّهَا الكَافِرُونَ لا أَعبُدُ مَا تَعبُدُونَ وَلا أَنتُم عَابِدُونَ مَا أَعبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتٌّم وَلا أَنتُم عَابِدُونَ مَا أَعبُدُ لَكُم دِينُكُم وَلِيَ دِينِ\" [سورة الكافرون].

 

ومما يدل على اعتنائه بترسيخ هذه العقيدة في نفوس أصحابه أنهم ضربوا في تطبيقها أروع الأمثلة في غزوة بدر، وغزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، فهذا دليل على أن إرساء عقيدة الموالاة والمعاداة في نفوسهم كان من أولويات دعوته، قال - تعالى -: \"لا تَجِدُ قَومًا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَادٌّونَ مَن حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءهُم أَو أَبنَاءهُم أَو إِخوَانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ, مِّنهُ وَيُدخِلُهُم جَنَّاتٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا - رضي الله عنهم - وَرَضُوا عَنهُ أُولَئِكَ حِزبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزبَ اللَّهِ هُمُ المُفلِحُونَ\" [المجادلة: 22]. آبَاءهُم نزلت في أبي عبيدة عامر بن الجراح قتل أباه يوم بدر وكان على الإشراك، أَبنَاءهُم نزلت في الصدِّيق همَّ بقتل ابنه يوم بدر ولم يُقدَّر له ذلك، إِخوَانَهُم نزلت في مصعب بن عمير قتل أخاه عُبيد بن عمير فيها، عَشِيرَتَهُم نزلت في حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، وفي عمر بن الخطاب قتل خاله يوم بدر.

ولما قبل النبي الفداء من المشركين يوم بدر كان رأي عمر بن الخطاب أن يُمكن كل أحد من قريبه فيضرب عنقهº ليعلم الكفار أنه لا محبة عند المؤمنين لهم، نزل القرآن الكريم مؤيدًا لرأي عمر: \"مَا كَانَ لِنَبِيٍّ, أَن يَكُونَ لَهُ أَسرَى حَتَّى يُثخِنَ فِي الأَرضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدٌّنيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّولاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُم فِيمَا أَخَذتُم عَذَابٌ عَظِيمٌ\" [الأنفال: 67، 68]، والكتاب الذي سبق: \"فَإِمَّا مَنًّا بَعدُ وَإِمَّا فِدَاءً\" [محمد: 4].

 

عباد الله، إن نصوص عقيدة الولاء والبراء طافحة في القرآن الكريم، وهذا مما يدل على أهميتها في ديننا الحنيف، وهذه جملة من النصوص تنهى عن موالاة الكافرين، وتتوعد من ألمَّ بشيء من ذلك من المسلمين: قال - تعالى -: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاء تُلقُونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَد كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الحَقِّ يُخرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُم أَن تُؤمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُم إِن كُنتُم خَرَجتُم جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابتِغَاء مَرضَاتِي تُسِرٌّونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعلَمُ بِمَا أَخفَيتُم وَمَا أَعلَنتُم وَمَن يَفعَلهُ مِنكُم فَقَد ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ إِن يَثقَفُوكُم يَكُونُوا لَكُم أَعدَاء وَيَبسُطُوا إِلَيكُم أَيدِيَهُم وَأَلسِنَتَهُم بِالسٌّوءِ وَوَدٌّوا لَو تَكفُرُونَ\" [الممتحنة: 1، 2].

 

إن فئامًا من الناس يريدون أن يجعلوا قول الله - تعالى -:\" إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنهُم تُقَاةً \"[آل عمران: 28] سترًا يواري خبث فعالهم وسوء صنيعهم، فتراهم يسارعون في الكافرين بكل سبيل، فإذا ما اتجه إليهم صوتُ لومٍ, ونصحٍ, قالوا: ألم يقل الله: إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنهُم تُقَاةً؟! فيضربون القرآن بعضه ببعض، وإلى هؤلاء: لماذا لم يعذر الله - سبحانه - حاطب بن أبي بلتعة لما ظاهر المشركين وأعانهم؟! أما كان حاطب متأوِّلاً؟! ألم يرد حماية أهله وماله؟! أوليس الذي عاتبه وطرح عذره هو الذي قال: إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنهُم تُقَاةً؟!

 

أيها المؤمنون، لئلا يغتر أحد بمقالتهم هذه أُفسح المجال لشيخ المفسرين وإمامهم أبي جعفر الطبري ليجلي لنا تفسيرها ويوضح معانيها، يقول الإمام الطبري مفسرًا قوله - تعالى -: إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنهُم تُقَاةً: \"إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل\"[2]. أين هذا من السعي لتأصيل مبدأ الأخوة بين المؤمن والكافر؟! أين هذا من السخرية بمن يدعو لإقامة عقيدة الولاء والبراء؟! أين هذا من التلاعب بقول الله - تعالى -:\" لا يَنهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَم يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَم يُخرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُم أَن تَبَرٌّوهُم وَتُقسِطُوا إِلَيهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ المُقسِطِينَ \"[الممتحنة: 8]؟!

 

ولو كان كل خوف من المشركين عذرًا لموالاتهم وإظهار التقية لأبطلنا كثيرًا من النصوصº لأن عداءهم وكيدهم وحربهم للإسلام وأهله مستمر لا ينقطع، \"وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم حَتَّىَ يَرُدٌّوكُم عَن دِينِكُم إِنِ استَطَاعُوا\" [البقرة: 217].

 

إن موالاة أعداء الله بأعذار واهية وليّ أعناق النصوص سمة من أبرز سمات المنافقين، \"فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ\" [المائدة: 52].

 

ومن النصوص التي تزجر عن موالاة الكافرين والمشركين: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الكَافِرِينَ أَولِيَاء مِن دُونِ المُؤمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجعَلُوا لِلّهِ عَلَيكُم سُلطَانًا مٌّبِينًا \"[النساء: 144]، والسلطان الحجة، فإذا فعلتم ذلك استوجبتم غضب الله.

 

ومنها: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءكُم وَإِخوَانَكُم أَولِيَاء إَنِ استَحَبٌّوا الكُفرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُم فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُل إِن كَانَ آبَاؤُكُم وَأَبنَآؤُكُم وَإِخوَانُكُم وَأَزوَاجُكُم وَعَشِيرَتُكُم وَأَموَالٌ اقتَرَفتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ, فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتِيَ اللّهُ بِأَمرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ\" [التوبة: 23، 24]. فإذا كان هذا فيمن والى أباه أو أخاه ومقتضى ذلك مركوز في النفوس فكيف بغيرهم؟!

 

ومن التحذيرات القرآنية كذلك: \"بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُم عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَولِيَاء مِن دُونِ المُؤمِنِينَ أَيَبتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا \"[النساء: 138، 139].

 

وفي القرآن عدد من الآيات التي تدل على أن موالاة المشركين من علامات المنافقين ومنها: \"لاَّ يَتَّخِذِ المُؤمِنُونَ الكَافِرِينَ أَولِيَاء مِن دُونِ المُؤمِنِينَ وَمَن يَفعَل ذَلِكَ فَلَيسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيءٍ, إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنهُم تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفسَهُ وَإِلَى اللّهِ المَصِيرُ\" [آل عمران: 28]، فأي وعيد فوق هذا الوعيد؟!

ولعلَّي أتحدث عن الفرق بين الموالاة والتولّي في الجمعة القادمة إن شاء الله.

أيها المؤمنون، إن الناس في باب الولاء والبراء منقسمون إلى ثلاثة أقسام:

الأول: الكُمَّل من المؤمنين، كالأنبياء والصديقين والشهداء والأولياء الصالحين، فهؤلاء يواليهم المؤمن ولاء مطلقًا، ويتقرب إلى الله - تعالى - بحبِّهم.

 

الثاني: أهل الكفر والإشراك، ومنهم أهل النفاق والكتاب وهؤلاء يُبغضون بإطلاق، ولا يُكِنٌّ لهم المسلم إلا العداوة والبغضاء، فالمؤمن ذليل للمؤمن محبّ له، عزيز على الكافر مبغض له، قال - تعالى -: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتِي اللّهُ بِقَومٍ, يُحِبٌّهُم وَيُحِبٌّونَهُ أَذِلَّةٍ, عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ, عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَومَةَ لآئِمٍ, ذَلِكَ فَضلُ اللّهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ \"[المائدة: 54]، وقال: \"مٌّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاء بَينَهُم \"[الفتح: 29].

 

الثالث: أهل المعاصي من المؤمنين، وهؤلاء نحبهم لإيمانهم، ونبغضهم بقدر معصيتهم، فالزاني مبغوض، والمشرك مبغوض، وفرق بين البغضَين، وشارب الخمر يُبغض، وبذيء اللسان يُبغض، وفرق بين البغضين.

 

ولذا ثبت أن النبي تبرأ من بعض المؤمنين من أهل المعاصي، فقد تبرأ من الصالقة التي ترفع صوتها بالبكاء عند المصيبة، والحالقة التي تحلق رأسها عندها، والشاقة التي تشق ثيابها عندها، ولكن ليست هذه البراءة كبراءته الواردة في قول الله - تعالى -: \"وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَومَ الحَجِّ الأَكبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشرِكِينَ وَرَسُولُهُ\" [التوبة: 3].

 

ولما أمر الله بقتال الفئة الباغية ـ وهذا من معاني ومظاهر البراء من المعصية وأهلها ـ بقوله: \"وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا فَإِن بَغَت إِحدَاهُمَا عَلَى الأُخرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمرِ اللَّهِ فَإِن فَاءت فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا بِالعَدلِ وَأَقسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ المُقسِطِينَ إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ\" [الحجرات: 9، 10]، فأمر بقتالهم وأثبت أخوتهم وإيمانهم.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: \"وليعلم أنَّ المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليكº فإن الله - سبحانه - بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه، وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذاº كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة\"[3].

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.

 

----------------------------------------

[1] كتاب الإيمان (ص14).

[2] جامع البيان (3/228).

[3] مجموع الفتاوى (28/209).

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فإن من أقبح الآثام أن يضع المؤمن يده على يد الأحزاب العلمانية والحركات اليسارية، وقد دلت كثير من آي القرآن الكريم على تحريم ذلك وتجريم أهله، فمن ذلك قوله - تعالى -: \"وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ \"[المائدة: 2]. وكل من وقف على دعوات هؤلاء ومبادئهم لا يشك في أن التعاون معهم تعاون على الإثم والعدوان.

ومن أدلة التحريم جميع الأدلة التي تنادي بعقيدة البراء من الكفر وأهله، ومنها: \"وَقَد نَزَّلَ عَلَيكُم فِي الكِتَابِ أَن إِذَا سَمِعتُم آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُستَهزَأُ بِهَا فَلاَ تَقعُدُوا مَعَهُم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ, غَيرِهِ إِنَّكُم إِذًا مِّثلُهُم إِنَّ اللّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا\" [النساء: 140]، فالآية تحرم الجلوس في المكان الذي يُكفر فيه بآيات الله ويستهزأ بها، وإذا لم تكن مجالس الأحزاب العلمانية مُتناوَلة بهذه الآية فأي المجالس هي التي حُذرنا منها؟! والآية المُشار إليها في هذه الآية هي: وَإِذَا رَأَيتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعرِض عَنهُم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ, غَيرِهِ [الأنعام: 68].

وقد توعد رسول الله كل من ظاهر مبطلاً بقوله: ((من أعان ظالمًا ليدحض بباطله حقًا فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله)) رواه الحاكم والطبراني وصححه الألباني. وممن لعنهم النبي من آوى محدثًا كما في صحيح مسلم، فكيف بمن عاونه؟!

هذا، ولا يُغتر بطرحهم لبعض البرامج التثقيفية أو الإنسانية الخيرية أو غير ذلك مما يصدق عليه: باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذابº لأنهم يريدون بها التدليس والتلبيس على الناس.

نسأل الله أن يبرم لنا أمرًا رشدًا يُعز فيه الطائعون..

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply