بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد: عباد الله، إني أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، فهي وصية الله - تعالى -للأولين والآخرين: {وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّاكُم أَن اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].
ثم اعلموا ـ عباد الله ـ أنّكم مقبلون على موسم من خير المواسم، نَعَم إنه موسم الصيام والقيام والإكثار من قراءة القرآن، ونحن على أبواب شهر الصيام نسأل الله - تعالى - أن يبلغنا إياه، فإنه يجدر التنبيه على بعض الأمور التي ينبغي للمسلم فعلها والمسارعة إليها قبل دخول الشهر ليهيّئ نفسَه ويشوّقها للخير.
ومن تلكم الأمور الصيام والإكثار منه إقتداء برسول الله، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لم يكن النبي يصوم شهرًا أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله. متفق عليه. ومعنى قولها: \"كلّه\" أي: أكثرهُ، كما جاء عنها في رواية النسائي: لم يكن رسول الله لشهرٍ, أكثر صيامًا من شعبان، كان يصومهُ أو عامتهُ. صحيح سنن النسائي (2218). قال ابن حجر - رحمه الله -: \"كان صيامه في شعبان تطوعا أكثر من صيامه فيما سواه، وكان يصوم معظم شعبان\".
وها هو شهر شعبان قد أزف على الرحيل، ولم تبق منه إلا بقية، فتداركها ـ أخي ـ بالصيام، فما هي إلا أيام قليلة، واحذر من تعمٌّد الصيام من أجل الاحتياط لرمضان ومن صيام يوم الشك وهو يوم الثلاثين، فقد ورد النهي عن صيامه ما لم يكن يوافق صوما كنتَ تصومه كالاثنين والخميس وصيام يوم وفطر آخر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: (إذا بقي نصفٌ من شعبان فلا تصوموا) رواه الترمذي (738) وقال: \"حسن صحيح\"، قال الترمذي - رحمه الله -: \"ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن يكون الرجل مفطرًا فإذا بقي من شعبان شيءٌ أخذ في الصوم لحال شهر رمضان\". وقال: (لا تقدّموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوما فليصمه) رواه البخاري ومسلم.
ومما ينبغي للمسلم كذلك الإكثار من قراءة القرآن الكريم وتدبر معانيه والعمل به، قال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القرّاء، وكان عمرو بن قيس إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن.
والمسلم ـ عباد الله ـ مأمور بقراءة القرآن الكريم وتدبره في كل وقت وحين لما فيه من ذكر لله - تعالى - وتليين للقلب وتذكير له بالآخرة، ولما فيه من الهداية والبشارة بالجنة، قال - تعالى -: {إِنَّ هَذَا القُرآنَ يَهدِي لِلَّتِي هِيَ أَقوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤمِنِينَ الَّذِينَ يَعمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُم أَجرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].
ومما ينبغي أن نسابق ونسارع إليه التوبة والإنابة إلى الله - تعالى - والمبادرة إلى ذلك قبل فوات الأوان، والتوبة واجبة على المسلم في كلّ حين، قال - تعالى -: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيٌّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ} [النور: 31]، وقال - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبٌّكُم أَن يُكَفِّرَ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيُدخِلَكُم جَنَّاتٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ} [التحريم: 8].
والتوبة من صفات الأنبياء والصالحين، قال - تعالى - ممتدِحًا نبيه سليمان - عليه السلام -: {وَوَهَبنَا لِدَاوُودَ سُلَيمَانَ نِعمَ العَبدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] أي: رجّاع تواب إلى الله. والله - تعالى - يحبّ التائب من ذنوبه، قال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبٌّ المُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
فيا عبد الله، ها هو ربّك يناديك: {قُل يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذٌّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وها هو الله يفرح بتوبة التائب وندم النادم، قال: (لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم سقَط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة) رواه البخاري ومسلم، وهو - سبحانه - يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها. فبادر بالتوبة، ودع عنك \"لعل\" و\"سوف\"، ولا يغرنّك طول الأملº فإن الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل.
فالتوبةَ التوبةَ قبل أن تصِل إليك النّوبة، والإنابةَ الإنابة قبل أن يغلق بابَ الإجابة، ولا تغترّ بالدنيا فإنها خدّاعة مكارة، فإلى متى وأنت في طلبها؟! وإلى كم الاغترار بها؟! فالبِدارَ البدار قبل مفاجأة الأجل، فلو أنّ أحدًا يجد إلى البقاء نفقًا في الأرض أو سلّمًا في السماء دون أن يُقضى عليه بالموت لكان ذلك لسليمان بن داود - عليه السلام - الذي سخَّر الله له ملك الجنّ والإنس، {فَسَخَّرنَا لَهُ الرِّيحَ تَجرِي بِأَمرِهِ رُخَاءً حَيثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ, وَغَوَّاصٍ, وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصفَادِ} [ص: 36-38]، هذا مع نبوّته وعظيم زلفته، غيرَ أنه لما استوفى طُعمتَه واستكمل مُدّته رماه قوسُ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديارُ منه خالية، وورثها قوم آخرون.
فيا مؤخِّرًا توبتَه بمطل التسويف، لأيّ يوم أجّلتَ توبتك وأخَّرت أوبتك؟! ويحك أيها المقصّر، فلا تقنع في توبتك إلا بمكابدة حزن يعقوب عن البَين، أو بعَبرة داود ومناداة أيوب لربه في ظلمات ثلاث: {لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ أَنتَ سُبحَـانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ}، أو بصَبر يوسف عن الهوى، فإن لم تُطق ذلك فبذُلِّ إخوته يوم أن قالوا: {إِنَّا كُنَّا خَـاطِئِينَ}.
فلا تخجل من التوبة، ولا تستحِ من الإنابة، فلقد فعلها قبلك آدم وحواء حين قالا: {رَبَّنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّم تَغفِر لَنَا وَتَرحَمنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَـاسِرِينَ}، وفعلها قبلك إبراهيم حين قال: {وَالَّذِي أَطمَعُ أَن يَغفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَومَ الدِينِ}، وفعلها موسى حين قال: {رَبّ إِنّي ظَلَمتُ نَفسِي فَاغفِر لِي فَغَفَرَ لَهُ}.
فلا إله إلا الله، من يمنع المذنب من التوبة؟! ولا إله إلا الله، من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون؟! يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: (دعا الله إلى مغفرته من زعم أن عزيرًا ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول لهؤلاء جميعا: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَستَغفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74]).
فاللهمّ تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: معاشر المسلمين، وإن مما ينبغي للمسلم قبل حلول شهر الصيام تفريغ النفس من الشواغل والملهيات لتستقبل رمضان وهي متهيّئة للصيام بعيدة عن الشواغل وملذات الدنيا مقبلة على الآخرة، ولقد فهم السلف رضوان الله - تعالى - عليهم ذلك فكانوا يتهيّئون لرمضان من شهر رجب، وكانوا يتركون أعمالهم قبل رمضان ويكبّون على القرآن، بل كانوا حتى يتركون الجلوس للتعليم، كل ذلك تعظيما لرمضان وحِرصا على تهيئةِ النفوس لاستقباله، قال أبو بكر البلخي: \"شهر رجب شهر الزّرع، وشهر شعبان شهر سقي الزّرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع\"، وقال أيضا: \"مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثَل المطر، ومن لم يزرع ويغرس في رجَب ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟! \".
واعلم ـ أخي ـ أن من أهمّ ما يستقبل به الشهر دعاء الله - تعالى - بأن يبلّغك رمضان ويوفّقك فيه لطاعته ومرضاته، فقد روي أن النبي كان يقول: (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان) أخرجه أحمد والبزار والطبراني, والبيهقي في شعب الإيمان وضعّفه. وكان السلف - رضوان الله عليهم- كما نقِل عنهم يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبّله منهم.
اللهم بلغنا رمضان، ووفقنا فيه للقيام وتلاوة القرآن، ويسر لنا صيامه وقيامه، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الله - تعالى - أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد