استقبال رمضان بالتوبة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله - سبحانه -.

ثم أما بعد: فيقول المولى - سبحانه -: {يأَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوبَةً نَّصُوحاً}. ويقول - جل في علاه -: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيٌّهَ المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ} [النور: 31]. ويقول - سبحانه -: {نَبّئ عِبَادِى أَنّى أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر: 49-50]. ويقول أيضاً رب العزة والجلال في حديث قدسي: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم).

إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد:

نستقبل في هذه الساعات القادمة ضيفا كريما، وشهرا عظيما، لم يبق بيننا وبينه إلا ساعات معدودة، فماذا أعددنا لهذا الضيف؟ وكيف سنستقبل هذا الشهر العظيم؟ {شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـاتٍ, مِّنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ} [البقرة: 185].

إن كثيراً من الناس يستعدون لشهر رمضان المبارك بتوفير ما يحتاجونه من مستلزمات الحياة من طعام وشراب، وكأن شهر رمضان أصبح شهراً للطعام وللأكل والشراب والنوم والخمول والكسل، لا شهراً للطاعة والعبادة والجهاد والعمل، هذا هو حالنا في هذه الأيام إلا من - رحمه الله -، أما صحابة محمد وسلف هذه الأمة الصالح فكانوا يستقبلون رمضان ويستعدون له ويتهيئون لقدومه قبل أن يأتي بستة أشهر يقولون: \"اللهم بلغنا رمضان\"، فإذا جاء رمضان أجهدوا أنفسهم في طاعة الرحمن، وفي التقرب إلى الله الواحد الديان، فإذا انقضى الشهر الكريم ودعوه بقية العام يقولون: \"اللهم تقبل منا رمضان\"، فكان عامهم كله رمضان، وكانت حياتهم كلها رمضان. فرضي الله عنكم يا أيها السلف يوم علمتم أن الحياة بسنينها وأعوامها ينبغي أن تصرف في مرضاة الله، ويوم علمتم أن الحياة ليست حياة الأكل والشرب والشهوة إنما هي حياة الطاعة والعبودية والاتصال بالله الواحد جل في علاه.

يا متعب الجسـم كم تشقى لراحته  ***  أتعبت جسمك فيما فيه خسران

أقبل على الروح واستكمل فضائلها ***  فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

يا عامـراً لخراب الـدار مجتهداً   ***  بالله هل لخراب الدين عمران

فـزاد الـروح أرواح المعانـي  ***  وليس بأن طعمت ولا شربت

فأكثر ذكـره فـي الأرض دأبـاً  ***  لتذكر في السـماء إذا ذكرت

ونـادِ إذا سـجدت لـه اعترافـاً  *** بما ناداه ذو النون ابن متـى

معاشر الأحبة: إن علينا أن نستقبل شهر رمضان بتوبة صادقة خالصة نصوحٍ,، نقلع فيها عن كل معصية، ونندم على ما مضى من أعمارنا في معصية الله، ونعاهد الله ألا نعود لمعصية.

قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وربّه ولا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات، والعزم على عدم العودة إلى الذنب أبداً، وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فيضاف شرط رابع لهذه الشروط الثلاثة وهو أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً رده إليه، وإن كانت غيبة استحله منها ونحو ذلك.

يا نفـس توبي قبـل أن ***   لا تستطيعي أن تتوبي  

واستغفري لذنوبك    ***  الرحمن  غفــار الذنـوب

إن المنايا كالرياح   ***    عليـك دائمــة الهبـوب

 

كلنا ذوو خطأ يا عباد الله، وكلنا ذاك المذنب، والخطأ من طبيعة البشر والمعصوم من عصمه الله - سبحانه وتعالى -، والكمال لصاحب الكمال - سبحانه وتعالى -، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وأرضاه عن النبي أنه قال: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم).

فلا بد من الخطأ والتقصير، فكلنا ذو خطأ، وكلنا ذاك المذنب.

ومـن الـذي مـا ساء قـط   ***  ومــن لـه الحسـنى فقـط

تريـد مبـرأ لا عيـب فيـه  ***   وهـل نـار تفوح بلا دخـان

ومن الذي ترضى سجاياه كلها ****  كفـى المرء نبلاً أن تعد معايبه

ولكن المصيبة يا عباد الله أن نبقى على الخطأ، وأن ندوم على الذنب، وأن نصر على المعصية التي هي والله شؤم، وهي والله وحشة وعذاب من الله الواحد الديان.

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها  ***  من الحرام ويبقى الإثم والعار

تبقى عواقب سوء من مغبتها   ***   لا خير في لذة من بعدها النار

المعصية يا عباد الله قد تكون سبباً في أن يحبس الله - سبحانه وتعالى - عن الأمة الخير، ولو كانت من فرد واحد من الأمة لم يؤمر ولم ينه نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.

ها هم بنو إسرائيل يلحق بهم قحط شديد على عهد موسى - عليه السلام -، فيجتمعون إلى نبي الله موسى - عليه السلام - فيقولون: يا نبي الله ادع لنا ربك أن يغيثنا الغيث، فقام معهم وقد خرجوا إلى الصحراء وعددهم سبعون ألفاً أو يزيدون، فقال موسى - عليه السلام -: إلهنا اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والشيوخ الركع. فما زادت السماء إلا تقشعاً، والشمس إلا حرارة، فتعجب نبي الله موسى من ذلك وسأل الله عن ذلك، فأوحى الله إليه أن فيكم عبداً يبارزني بالمعاصي منذ أربعين سنة، فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم.

فقال موسى: إلهي وسيدي، أنا عبد ضعيف وصوتي ضعيف، فأين يصل صوتي ويظهر وهم سبعون ألفاً أو يزيدون، فأوحى الله إلى موسى أن منك النداء ومنا البلاغ، فقام نبي الله موسى - عليه السلام - منادياً في الناس قائلاً: يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله بالمعاصي منذ أربعين سنة اخرج من بين أظهرنا، منك ومن ذنوبك منعنا القطر من السماء، فقام العبد العاصي ونظر ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحداً خرج فعلم أنه المقصود، فقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن قعدت معهم منعوا القطر من السماء بشؤمي وشوم ذنبي ومعصيتي، فما كان من هذا العبد العاصي إلا أن أدخل رأسه في ثيابه نادماً ومتأسفاً على فعاله ثم قال: يا إلهي ويا سيدي، عصيتك أربعين سنة وأمهلتني، وقد أتيتك طائعاً تائباً نادماً فاقبلني ولا تفضحني يا كريم، فما أكمل كلامه حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأمثال القرب حتى ارتوت الأرض وسالت الأودية، فقال موسى - عليه السلام -: إلهي وسيدي، سقيتنا ولم يخرج من بين أظهرنا أحد، فقال الله: يا موسى أسقيتكم بالذي به منعتكم، فقال موسى: إلهي أرني هذا العبد الطائع التائب، فقال الله: يا موسى لم أفضحه وهو يعصيني أأفضحه وهو يطيعني؟!!

فلا إله إلا الله ما أعظم شأن التوبة، ولا إله إلا الله ما أعظم رحمة الله بعباده، وحلمه - سبحانه وتعالى -.

فيا أيها المذنب وكلنا ذاك المذنب، ويا من زل وأخطأ وأذنب، ويا من بارز الله بالمعصية وبكره الله، تب إلى الله وعد إلى رحابه قبل أن تفضح في يوم الفضائح، وتندم حين لا ينفع الندم {يَومَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَن أَتَى للَّهَ بِقَلبٍ, سَلِيمٍ, }[الشعراء: 88-89].

من أعظم الأمور المعينة على التوبة يا عباد الله أن يستحضر العبد سعة رحمة الله - سبحانه وتعالى - فهو القائل: {قُل يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لاَ تَقنَطُوا مِن رَّحمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذٌّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. وهو القائل جل في علاه في حديث قدسي أخرجه الترمذي يقول - سبحانه -: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لآتيتك بقرابها مغفرة).

وهو القائل - سبحانه وتعالى -: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذٌّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَم يُصِرٌّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُم يَعلَمُونَ} [آل عمران: 135].

وفي الصحيحين أن رجلاً أسرف على نفسه في الخطايا فلما حضرته الوفاة قال لأبنائه: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً ثم احرقوني بالنار ثم اسحقوني وذروني مع الريح، فلما توفي هذا الرجل وفعل أولاده بوصيته قال له الله: يا عبدي، ما الذي حملك على ما فعلت؟ قال: يا رب، خفتك وخشيت ذنوبي، فقال الله: يا ملائكتي، أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة.

وفي صحيح البخاري أن سبياً جاء إلى الرسول، وإذا بامرأة من نساء السبي جاءت تبحث عن صبي لها فقدته، فأخذت تقلب الأطفال واحداً واحدا، ثم وجدت طفلها بعد مشقة وعناء، فألصقته في بطنها وأخذت ترضعه، والرسول وصحابته يرقبون الموقف ويرقبون المرأة وهي تذرف الدموع رحمة بوليدها، فيقول الرسول لأصحابه: (أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟)، قالوا: لا يا رسول الله، فقال: (لله أرحم بعباده من هذه بولدها).

فلا إله إلا الله ما أعظم رحمة الله، وما أوسع رحمة الله، رحمته - سبحانه وتعالى - وسعت كل شيء، ورحمته - جل وعلا - سبقت غضبه، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، له - سبحانه - مائة رحمة، أنزل لنا في هذه الدنيا رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق كلهم، صغيرهم وكبيرهم، مؤمنهم وكافرهم، ناطقهم وأعجمهم، حتى إن الدابة لترفع رجلها ليرضع منها وليدها ثم يذهب بهذه الرحمة، فإذا كان يوم القيامة رفع الله هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة، حتى إن إبليس ليتطاول في ذلك اليوم، ويظن أن رحمة الله ستشمله.

فيا من رحمتك وسعت كل شيء ارحمنا برحمتك.

يا كثير العفو عمن* * *  كثر الذنب لديه

جاءك المذنب يرجو ***  الصفح عن جرمٍ, لديه

أنـا ضـيف وجـزاء الضـ ***  يف إحســــان إليـــــــــــه

يروى أن رجلاً من بني إسرائيل أطاع الله أربعين سنة، ثم عصى الله أربعين سنة، فلما نظر في المرآة رأى الشيب في لحيته فقال: يا رب، أطعتك أربعين سنة، وعصيتك أربعين سنة، فهل تقبلني؟ فقيل له: أطعت ربك فقبلك، وعصيته فأمهلك، وإن عدت إليه قبلك.

إن الملوك إذا شابت عبيدهـم    ***   فـي رقهـم عتقوهـم عتق أبـرار

وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً   ***  قـد شبت في الرق فاعتقني من النار

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {مَّن عَمِلَ صَـالِحاً فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاء فَعَلَيهَا وَمَا رَبٌّكَ بِظَلَّـامٍ, لّلعَبِيدِ} [فصلت: 46].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

إن الحمد لله..

أما بعد:

فمن أعظم أسباب التوبة عباد الله تذكر الموت والقدوم إلى الله والوقوف بين يديه - سبحانه وتعالى -.

 

ذكر ابن قدامة في كتاب التوابين أن امرأة بغيا زانية كانت بارعة الجمال ولا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، رآها عابد ما عصى الله، فلما رآها أعجبته وفتنت قلبه وسلبت لبه، فذهب وعمل وكدَّ حتى جمع المائة الدينار، ثم جاء إليها في بيتها وقال لها: لقد أعجبتيني فاشتغلت واجتهدت في العمل حتى جمعت لك المائة الدينار، وها أنا ذا جئت بها، فقالت له: ادخل، وأخذت منه المائة الدينار، فدخل إلى غرفتها وكان لها سرير من ذهب، فجلست على سريرها ثم قالت له: هلم إليّ، فتذكر ذاك العابد مقامه بين يدي الله وقدومه إلى الله فأخذته رعدة ورعشة، وقال لها: اتركيني لأخرج ولك المائة الدينار، فقالت له البغي: عجباً لك زعمت أنك تكد وتكدح لتجمع هذه المائة الدينار، فلما قدرت عليّ فعلت ما فعلت!! قال: فعلته والله خوفاً من الله ومن مقامي بين يديه، فرق قلب تلك المرأة وخافت وارتعدت وتذكرت القدوم على الله، فقالت له: لا أدعك حتى آخذ عليك عهداً أن تتزوجني، فأعطاها العهد، وأعطاها مكانه وهو يريد الخلاص منها، فخرج من عندها نادماً على ما فعل، وهو لم يقارف الفاحشة، وتابت تلك المرأة وكان سبباً في توبتها، ولا زال في نفس تلك المرأة أن تتزوج بمن كان سبباً في توبتها، فذهبت وبحثت عن مكان ذلك الرجل، فلما وصلت إلى بيته طرقت عليه الباب وفتح لها الباب ذلك الرجل، فلما رآها تذكر ذلك اليوم الذي كاد أن يقدم فيه على عمل الفاحشة بهذه المرأة، وتذكر موقفه أمام الله وقدومه على الله فشهق شهقة عظيمة ومات، فحزنت عليه هذه المرأة التائبة حزناً عظيماً، وقالت: أما هذا فقد فاتني، فهل له من قريب أتزوجه؟ فقالوا لها: له أخ فقير تقي، فقالت: أتزوجه إن رضي حباً لأخيه، فتزوجته فكان من نسله ونسلها سبعة من الصالحين العابدين الزاهدين.

وها هو شاب في الثلاثين من عمره في أوج شبابه وشهوته وقوته لكنه يخاف الله، واسمه الربيع بن خثيم، وكان في بلده فساق وفجار يتواصون على إفساد الناس، وهم في كل مكان وزمان يصدون عن سبيل الله، أتوا بزانية وقالوا لها: هذه ألف دينار، قالت: علام؟ قالوا: على قبلة من الربيع، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني، فذهبت إليه وتعرضت له في ساعة خلوة، وأبدت له مفاتنها فلما رآها صرخ فيها قائلاً: يا أمة الله كيف بك لو نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟ أم كيف بك يوم تقفين بين يدي الرب العظيم؟ أم كيف بك إن لم تتوبي يوم ترمين في الجحيم؟ فصرخت وولت هاربة تائبة عابدة عائدة إلى الله، قائمة لليل صائمة للنهار، حتى لقبت بعابدة الكوفة.

معاشر المسلمين:

إن من أعظم فرص الحياة أن بلغنا الله هذه الساعات التي نتهيأ فيها لاستقبال شهر رمضان، ونسأله - سبحانه - أن يبلغنا هذا الشهر العظيم، فكم نعرف من الأهل والإخوان والأقارب والجيران صاموا معنا في العام الماضي، وهم الآن تحت الجنادل والتراب وحدهم، أتاهم الموت، أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات وآخذ البنين والبنات، فاختطفهم من بين أيدينا، أسكتهم والله فما نطقوا، وأرداهم فما تكلموا، كأنهم والله ما ضحكوا مع من ضحك، ولا أكلوا مع من أكل، ولا شربوا مع من شرب.

كم كنت تعرف ممن صام في سلف  ***  من بين أهـل وجيـران وإخوان

أفناهـم المـوت واستبقاك بعدهمو   ***   حياً فما أقرب القاصي من الداني

الموت - يا عباد الله - يقصم الظهور ويخرج الناس من الدور، وينزلهم من القصور ويسكنهم القبور.

الموت لا يستأذن شاباً ولا شيخاً ولا طفلاً، ولا يستأذن غنياً ولا أميراً ولا ملكاً ولا وزيراً ولا سلطاناً.

أتيت القبـور فنـاديتهـا  ***  أيـن المعظـم والمحتقـر

تفانـوا جميـعاً فما مخبرٌ  ***   وماتوا جميعاً ومات الخبر

فيا سائلي عن أناس مضوا  ***  أما لك فيما مضـى معتبر

تروح وتغدوا بنات الثرى  ***   فتمحو محاسن تلك الصور

 

الموت يا عباد الله أسرع وأقرب إلينا من شراك النعل، وما أسرعه هذه الأيام، وما أسهله، والحياة قصيرة - والله - جد قصيرة، إذا ولد الإنسان أذن في أذنه اليمنى أذان بلا صلاة، فإذا مات الإنسان صليت عليه صلاة الجنازة بلا أذان، فكأن حياة الإنسان قصيرة قصيرة، وكأنها كالوقت الذي بين الأذان والإقامة.

أذان الطفل في الميلاد دوماً   ***  وتأخير الصلاة إلى الممات

دليـلاً أنّ محيـاه قليــلٌ  ***    كمـا بين الإقامـة والصلاة

فهل من تائب إلى الله؟ وهل من عائد إلى رحاب الله؟ وهل من توبة صادقة؟ وهل من عودة حميدة؟

يا شيخاً كبيراً احدودب ظهره، ودنا أجله، ماذا أعددت للقاء الله؟ وماذا بقي لك في هذه الدنيا؟ يقول سفيان الثوري: \"إذا بلغ العبد ستين سنة فليشتر كفناً وليهاجر إلى الله\".

ويا شاباً غره شبابه وطول الأمل، ماذا أعددت للقاء الله؟ متى تستفيق إن لم تستفق اليوم؟ ومتى تتوب إن لم تتب في هذه الساعات؟ ومتى تعمل إن لم تعمل في هذه اللحظات؟

يا نفس توبي قبل أن ***  لا تستطيعي أن تتوبي

 واستغفري لذنوبك  ***  الرحمن غفار الذنوب

إن المنايا كالرياح  ***  عليك دائمة الهبوب

يا من يرى مد البعوض جناحها  ***  في ظلمة الليل البهيم الأليل

ويرى مناط عروقها في مخهـا  ***  والمخ في تلك العظام النحل

اغفر لجميع من تاب من زلاتـه   ***  ما كان منه في الزمان الأول

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply