قواعد في دخول العلماء على الأمراء (1-2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

قد يخلد التاريخ بعض الأحداث وبعض الأعلام في ذاكرته فلا تنسى فتصبح أحداث الأمس دروس اليوم، وتصبح مواقف الأمم التي سبقتنا نماذج حية في واقعنا نتلمس منها العظات والعبر..

لكن المتأمل لمواقف العلماء تجاه قضية المجيء إلى السلاطين وغشيان مجالسهم تصيبه الدهشة بادئ الأمر، ويشعر بالتخبط في المنهج ويستريب من المواقف المتباينة من العلماء نحو الحكام... وما ذاك إلا لخفاء قواعد مهمة كان أهل العلم يترسمونها، صاغت هذه القواعد مواقفهم، وصقلت تجربتهم، فأبقتها الأيام، وسجلها التاريخ، وتقبلها الحكام.

قيل للإمام مالك - رحمه الله -: \" إنك تدخل على السلطان وهم يظلمون ويجورون؟ فقال: يرحمك الله، فأين المكلّم بالحق \"

 

والإمام مالك - رحمه الله - هو من قابل الرشيد بكلمته المشهورة (لا تكن أول من وضع العلم فيضعك الله) لما قدم هارون الرشيد المدينة، وجه البرمكي إلى مالك، وقال له: احمل إلىّ الكتاب الذي صنفته حتى أسمعه منك، فقال مالك للبرمكي: \" أقرئه السلام وقل له: إن العلم يُزار ولا يزور \" فرجع البرمكي إلى هارون الرشيد، فقال له: يا أمير المؤمنين أيبلغ أهل العراق إنك وجهت إلى مالك في أمر فخالفك! أعزم عليه حتى يأتيك، فأرسل إليه فقال: قل له يا أمير المؤمنين لا تكن أول من وضع فيضّيعك الله \" وهذا إن دل فإنه يدل على فقه عظيم تشبع به الإمام مالك - رحمه الله - في هذه المسألة حيث أنه ممن لا يرى حرجاً في الدخول على السلاطين إذا تحققت المصلحة في ذلك إحقاقاً للحق، لكن لما كان هذا الدخول دعوة من السلطان فيها إذلال للعلم وأهله، أراد الإمام مالك أن يعطي درساً ليس لهارون فحسب بل لكل إنسان تعمم بالعلم واحتمى بالسنة.

 

قد يخلد التاريخ بعض الأحداث وبعض الأعلام في ذاكرته فلا تنسى فتصبح أحداث الأمس دروس اليوم، وتصبح مواقف الأمم التي سبقتنا نماذج حية في واقعنا نتلمس منها العظات والعبر .

 

ولعل موقف البرمكي هنا يعد نموذجاً سياسياً خبيثاً لأساليب الزعامة الإسلامية التي تلتف حولها الأمة، فالبرمكي نظرية ثابتة في واقع الصراع بين التيار الإسلامي والتيارات المنحرفة سيحاول ممارستها مع كل محاولة إسلامية جديدة (برمكي) جديد يتلهف إلى لحظة يكون فيها الزعيم القائد، ونحن نذكر من هذا حاله بما ورد عند البخاري من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \" ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر، وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله \".

فالسؤال إذاً لما كان بعض السلف يدخلون على الحكام؟

 

باختصار شديد هم يدخلون رغبة منهم في إصلاح الحاكم مع عدم الإخلال بمبادئهم وعزتهم.. فتعلم الدخول منهم ثم ادخل!!

حضر القاضي عمر بن حبيب مجلس الرشيد فجَرت مسألة فتنازعها الخصوم، وعلت الأصوات فيها، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فدفع بعضٌ الحديث، وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: أبو هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، وانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث أن جاءني غلام فقال: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنط وتكفن. فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه فسلمني منه، وأدخلت على الرشيد، وهو جالس على كرسي حاسراً ذراعيه، بيده السيف، وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال: يا عمر بن حبيب، ما تلقاني أحد من الدفع والرد بمثل ما تلقيتني به وتجرأت علي، فقلت يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته ودافعت عنه، وملت إليه، وجادلت عنه ازدراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما جاء به، فإنه إذا كان أصحابه ورواة حديثه كذابين، فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصلاة والصيام والنكاح والطلاق والحدود، مردودة غير مقبولة. فالله الله يا أمير المؤمنين أن تظن ذلك، أو تصغي إليه، وأنت أولى أن تغار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الناس كلهم، فلما سمع كلامي رجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله، أحييتني أحياك الله، أحييتني أحياك الله \". (1)

 

ولعلي أذكر بعض الجوانب المهمة إزاء هذه القضية بشيء من السبر والتقسيم الاجتهادي سعياً منا في الإيضاح ولكي نضع النقاط على الحروف ونخدم الفكرة العامة لهذا الموضوع:

أولاً:

شاء الله أن يختص ذاته بالكمال، وأراد بحكمته أن يكون لدى الإنسان مثالب وجوانب قصور مهما بلغ! وجراء ذلك حدث بعض الاختلاف عند السلف في كيفية التعامل مع هذه القضية الحساسة.. فمنهم من اجتهد وأصاب فله أجران، ومنهم من اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.. فهم دائرون في فلك الاجتهاد.

لكن ينبغي أن يعلم أنه بالرغم من وجود هذه الاختلافات إلا أن هناك أصولاً وأساليب مشتركة اعتمدها العلماء في دعوتهم مع الحكام.

قال الحارث المحاسبي (عرف بذلك لكثرة محاسبته لنفسه):

\" الأصل الذي بنوا به طريقتهم، التزام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصدق، وتقديم العلم على حظوظ النفوس، والاستغناء بالله عن جميع خلقه \".

 

ثانياً:

\" من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن، وما ازداد أحد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً \".

 ليس المخاطب في النصوص والآثار الواردة في هذه المسألة العلماء فحسب، بل هو خطاب للعلماء يدخل فيه ضمناً المحتسب والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر فكلهم إخوة وإن كانوا لعلات، فالخطاب يشملهم والعادة تجمعهم، والنقص يغمرهم، وإن اختلفت منازلهم، وتباينت أحوالهم.

 

ثالثاً:

إن الدخول على السلاطين والإكثار منه هو في حد ذاته بلاء وابتلاء، وهنا يأتي دور المصالح والمفاسد.. وهنا تتمحص النوايا.. وهنا ينبغي أن يتأمل العالم والمحتسب النصوص والآثار المرهبة في الدخول على السلاطين، وكل ما ساقه الإمام السيوطي - رحمه الله - (ت: 911هـ) في كتابه: \" ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين \" يعتبر من هذا الباب.

فمن ذلك ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن، وما ازداد أحد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً \". (2)

 

قال ابن المبارك - رحمه الله -: \" من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما موت يذهب علمه، وإما ينسى، وإما يلزم السلطان فيذهب علمه \" (3)

وقال أبو حازم (سلمة بن دينار): \" إن خير الأمراء من أحب العلماء، وإن شر العلماء من أحب الأمراء \".

لكن هل كل السلاطين داخلون في هذا المعنى من التحذير والترهيب أم أن المراد بذلك هو السلطان الجائر الظالم الذي استباح بيضة المسلمين واستحل دمائهم ولم تعصم عنده أموالهم ؟

يقول ابن عبد البر- رحمه الله - مبيناً هذا المعنى ومجيباً لهذا التساؤل بعد أن أورد الأحاديث والآثار الواردة في النهي عن المجيء إلى السلاطين: \" معنى هذا كله في السلطان الجائر الفاسق، وأما العدل منهم الفاضل فمداخلته وعونه على الصلاح من أفضل أعمال البر، ألا ترى أن عمر بن عبد العزيز إنما كان يصحبه جلّة العلماء \" (4)

وقال علامة الأندلس ابن حزم وهو ينصح العالم في رسالته (مراتب العلوم): \" وإن ابتلي بصحبة سلطان فقد ابتلي بعظيم البلايا، وعرض للخطر الشنيع في ذهاب دينه وذهاب نفسه، وشغل باله، وترادف همومه.. \" (5)

 

وهذا كلام عالم من أفقه الناس بأخلاق الملوك وصفاتهم.

 

في القسم الثاني من المادة، سوف نستكمل بإذن الله - تعالى -، الجانبين الرابع والخامس في القضية محور البحث، مع تبيان اختلاف طبيعة الحاكم والبيئة المحيطة به.

 

------------

الهوامش

(1) تاريخ بغداد. 11 /197.

(2) أخرجه أحمد والبيهقي بسند صحيح، وذكره الألباني في (الأحاديث الصحيحة). ج / 3 ص: 276 برقم: 1272.

(3) سير أعلام النبلاء. 8 / 352- 353.

(4) جامع بيان العلم وفضله. 1 / 227.

(5) مجموعة رسائل ابن حزم الأندلسي. 4 / 76.

 

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply