قرين قارون !


 

 بسم الله الرحمن الرحيم

التاريخ غالبا يُخَلِّد أسمَاء المُتمَيِّزين! سَواء كان تَمَيّزهم في الخَير أو في الشَّر! فَيُسَطِّر التاريخ أسمَاء العُظَماء، الذين دَخَلوا مِن أوسَع بَوّابات التاريخ.. عُلَماء عامِلِين، وقَادَة فاتِحِين.. وأمَرَاء عَادِلِين، وعُبَّاد مُتَهَجِّدِين مُجتَهِدِين.. وكُرَمَاء حُلَمَاء.. أو فُرسَان أتقِيَاء.. ويُدَوِّن أسمَاء آخَرِين.. بَرَزُوا في الشَّر، واجتَهَدُوا في الفَسَاد والإفسَاد، حتى أصبَحُوا أئمة يُقَتَدى بهم في الشَّر! {وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَدعُونَ إِلَى النَّارِ}.. ولله في إيجادِهم حِكمَة.. ومِن هؤلاء قائد التٌّجَّار الفُجَّار إلى النار.. صاحِب الخزائن التي يَعَجَز الرِّجَال عن حَمل مَفَاتيحها.. فكيف بِمَا فيها؟! صَاحِب الحُلَّة الفَارِهة واللبَاس الفَاخِر.. إذ كان يَنظُر في عِطفَيه.. ويَجُرّ إزاره مُختالا فَخورا.. مُتَبَختِرًا مُتَكَبِّرا.. خَرَج على قَومِه في زِينَتِه..

خَرَج يَخطُر بِمِشيَتِه.. يَهُزّ أكتَافَه.. قد أعجَبَته نَفسه.. سَرَّح شَعرَه.. وتَبَاهَى بِزِينَتِه.. حتى أخَذَت زِينتُه بالأبصَار لأوَّل وَهلَة.. {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدٌّنيَا يَا لَيتَ لَنَا مِثلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ, عَظِيمٍ,}إلاَّ أن أهل العِلم والإيمان يَنظُرُون بِبَصَائرهم قبل أبصارِهم {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ وَيلَكُم ثَوَابُ اللَّهِ خَيرٌ}

فكانت عاقِبَة البَغي والكِبر {فَخَسَفنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ, يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ}.. عند ذلك بَان لأهل الدنيا ما كَان فيه قَارُون مِن غُرور: {وَأَصبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوا مَكَانَهُ بِالأَمسِ يَقُولُونَ وَيكَأَنَّ اللَّهَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَيَقدِرُ لَولا أَن مَنَّ اللَّهُ عَلَينَا لَخَسَفَ بِنَا وَيكَأَنَّهُ لا يُفلِحُ الكَافِرُونَ}..

 

وفيما أخبر به نَبِيٌّـنَا - صلى الله عليه وسلم -: بَينَمَا رَجُلٌ يَمشِي قَد أَعجَبَتهُ جُمَّتُهُ وَبُردَاهُ إِذ خُسِفَ بِهِ الأَرضُ، فَهُوَ يَتَجَلجَلُ فِي الأَرضِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. رواه البخاري ومسلم. وفي رواية: بَينَمَا رَجُلٌ يَتَبَختَرُ يَمشِي فِي بُردَيهِ قَد أَعجَبَتهُ نَفسُهُ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الأَرضَ فَهُوَ يَتَجَلجَلُ فِيهَا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ. وَرَوَى الطَّبَرِيٌّ فِي التَّارِيخ مِن طَرِيق سَعِيد بن أَبِي عَرُوبَة عَن قَتَادَة قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُخسَف بِقَارُون كُلّ يَوم قَامَة، وَأَنَّهُ يَتَجَلجَل فِيهَا لا يَبلُغ قَعرهَا إِلَى يَوم القِيَامَة. ذَكَره ابن حجر.

ما يَنفَعُه أن خُلِّد ذِكره بالسٌّوء؟! وما يُجدِي عنه أن لا يَبلَى جَسَدُه.. وهو فيما هو فيه مِن العَذَاب؟! ما أغنَى عنه مَالُه وما كَسَب!

لا المَال أغنى أو نَفَع.. ولا الجَاه أجدَى أو شَفَع.. ولا الوَلَد أو الخَدَم والحَرَس دَفَع.. فإنَّ الخَسف لَم يَكن بِشَخصِه.. بل بِـه وبِدَارِه.. قَارُون في ظِلّ طُغيَان المَال.. لَم يَستَمِع إلى نُصح النَّاصِحِين.. ولَم يَلتَفِت إلى شَفَقَة الخائفِين.. {إِذ قَالَ لَهُ قَومُهُ لَا تَفرَح إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبٌّ الفَرِحِينَ }لا يُحِب الأشِرِين البَطِرِين.. الذين يَدفَعُهم الفَرَح إلى مُجاوزة الحُدود.. ويُخرِجهم الأشَر إلى العُدوَان.. ويَحمِلهم البَطَر إلى ازدِراء الخَلق.. أمَا إنَّ النَّاصِحِين لَم يُطالِبُوا قَارُون بالتَّخَلِّي عن دُنيَاه.. ولا إنفَاق كُنُوزِه.. بل طَلَبُوه أن يُوازِن بَين الدَّارَين.. {وَابتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدٌّنيَا} ثم ذَكَّرُوه بِأصل هَذه الـنِّعَم، فقالوا: {وَأَحسِن كَمَا أَحسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ}.. والمَعنَى: قَابِل الإحسَان بإحسَان.. وبعد أن رَغَّبُوه.. حَذَّرُوه مِن مَغَبَّـة عَمَلِه.. فقالوا: {وَلَا تَبغِ الفَسَادَ فِي الأَرضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبٌّ المُفسِدِينَ}

فما كان جواب المُتَكبِّر المُتَجبِّر الباغي؟! {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلمٍ, عِندِي}! قال أبو سليمان الداراني: أرَاد العِلم بِالتَّجَارب ووُجُوه تَثمِير المَال، فكأنه قال أُوتِيته بِإدرَاكِي وبِسَعيِي! وقال ابن عطية: ادَّعَى أنَّ عِنده عِلمًا استَوجَب به أن يَكُون صَاحِب ذَلك المَال وتِلك النِّعمَة. اهـ.

.. ولئن مَات قارُون فقد أبقَى ذِكره السيئ! فلا يُذكَر بِخير! ولئن ذَهَب قارُون فقد بَقِي لَه وَرَثَة! حمَلُوا غَطرسَته.. وتَبَنَّوا أفكَاره! أعتَدٌّوا بِذواتِهم! وتَاهُوا على الوَرَى بِما أُوتُوا.. مِمَّا لم يَكن لهم في كثير مِنه حَول ولا قُوَّة! فلا هُم اختَارُوا آباءهم.. ولا أوجَدُوا أنفسهم مِن عَدَم.. بل خَلَقَهم الله مِن ضَعف.. وهُم خَلقٌ لا يَتَمَاسَك.. فما يَلبَث أن يُرَدّ إلى ضَعف.. ووَرَثَة قارُون بَاقُون على مَرّ الأزمَان.. ! وهكذا هو الإنسان بِطَبعَه الكَنُود الجَحُود.. {فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرُّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلنَاهُ نِعمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلمٍ, بَل هِيَ فِتنَةٌ وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لَا يَعلَمُونَ}، وإذا كان الأمر كذلك فـ {قَد قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَمَا أَغنَى عَنهُم مَّا كَانُوا يَكسِبُونَ}.. بل {فَأَصَابَهُم سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِن هَؤُلَاء سَيُصِيبُهُم سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعجِزِينَ}\" فَبَسط الرِّزق على الكَافِر لا يَدُلّ على كَرَامَتِه \" {أَوَلَم يَعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ, لِّقَومٍ, يُؤمِنُونَ}، وذلك لأنَّ الدنيا دَار امتِحان. ومِن وَرَثَة قارُون مَن إذا وُسِّع له في رِزقَه حَمَله ذلك على التَّمادي في المعاصي! زاعِمًا أنه إنما أُوتي ما أُوتِي لِكَرَامَته على الله {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابتَلَاهُ رَبٌّهُ فَأَكرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكرَمَنِ}.. هذا مغرُور.. ويُقابِله جَاحِد {وَأَمَّا إِذَا مَا ابتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}.. وليس الأمر كَما ظَنٌّوا، فقد نَفَى الله ذلك بِقَولِه: (كَلاَّ) قال ابن القيم: \" فَرَدَّ اللهُ - سبحانه - على مَن ظّن أنَّ سَعَة الرِّزق إكرام، وأنَّ الفَقر إهَانة، فقال: لَم أبتَلِ عبدي بالغِنى لِكَرَامَتِه عَلَيَّ، ولم أبتَلِه بالفَقر لِهَوانِه عليَّ \". والمعنى \" ليس كُلّ مَن وَسَّعتُ عليه وأعطَيته أكُون قد أكرَمته، ولا كُلّ مَن ضَيَّقتُ عليه أكُون قد أهَنتهº فالإكرام أن يُكرِم اللهُ العَبدَ بِطَاعته والإيمان به ومَحَبته ومَعرفته، والإهانة أن يَسلُبه ذلك \" كما قال ابن القيم. ومِن وَرَثَة قارُون مَن إذا عَلَّمه الله عِلمًا.. وشَبّ وترَعرَع على نِعَم الله.. كَفَرها.. وجَحَدها وقال: أنا عِصَامِيّ.. صنعتُ نفسي بنفسي! وقديما قال أحد هؤلاء:

وإني وإن كُنت الأخِير زَمانه*** لآتٍ, بما لم تَستطعه الأوائل

 

فأراه الله ضعفه وعَجزه على يَديّ طِفل صغير.. قال له: لقد أتَتِ الأوائل بثمانية وعشرين حَرفًا، فَأتِ أنتَ بِحَرف واحِد! فبُهِتَ الذي تَكَبَّر! وانقَطَع الذي تَجَبَّر!

وربما ارتَقَى الإنسان مُرتَقًى صَعبًا! فادَّعى مَا ليس لأحَدٍ, مِن البَشَر، كَقول الشاعر:

أوجَدت نَفسي مِن اللاشي والانعِدَام !

 

ولا يُوجِد مِن العَدَم إلاَّ الله تبارك وتعالى. فإن كان الشاعر صَادقًا أنه أوجَد نفسَه مِن عَدَم.. فَليَمنَع عنها المَوت.. أو لِيَدفَع عنها البلاء! وقد يَدَّعِي الإنسَان ذلك في غيره، كَقَول الشاعر في مَمدُوحِه:

يصَيِّر مِن الإصرار مَا لا يصِير!

عَجِبت.. وطال عَجَبِي! أن يُقال هذا في حَقّ مَخلُوق لا يَملك لِنَفسه فَضلاً عَن غيره نَفعًا ولا ضَرًّا.. ولا مَوتًا ولا حَياةً ولا نُشُورًا.. فإنَّ الإنسان عموما لو تسلَّطَت عليه بعوضة! لَمَا استَطاع الخَلاص مِنها! كَم مرَّة آذته حتى تَورَّم جِلدُه؟! وكم مرّة تسلَّط عليه \" فَيرُوس \" لا يُرَى بالعين المُجرَّدَة.. فطَرَحَه أرضًا.. وألزَمَه فِراشه؟! وهو أي الإنسان مع ذلك يَمشي على الأرض وهي تَشتَكِي ظُلمَه وجَورَه! بَصَقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَومًا فِي كَفِّهِ، فَوَضَعَ عَلَيهَا أُصبُعَهُ ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ: ابنَ آدَمَ! أَنَّى تُعجِزُنِي وَقَد خَلَقتُكَ مِن مِثلِ هَذِهِ؟ حَتَّى إِذَا سَوَّيتُكَ وَعَدَلتُكَ، مَشَيتَ بَينَ بُردَينِ وَلِلأَرضِ مِنكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعتَ وَمَنَعتَ.. رواه الإمام أحمد.

وإذا كان ذلك حال قارون.. وحَال ورَثَتِه.. فَحَال المؤمن الـنَّظَر إلى أنَّ مَا بِه مِن نِعمَة فَمِن الله وَحده.. يَرى أنه لا َحول له ولا طَول.. فَيَبرأ مِن حَولِه وقُوّته، فهو يُردِّد: لا حول ولا قوّة إلا بالله.. المؤمن لا يَتعاظَم في نفسه.. ولا يَختَال في مِشيَتِه.. قال عُتبَة بن غزوان - رضي الله عنه -: وإني أعُوذ بالله أن أكُون في نفسي عَظيما، وعِند الله صَغيرا. رواه مسلم.

 المؤمِن يَرى أنه إذا أَنعَم عليه مَولاه.. فَبِمَحضِ جُودِه وكَرَمِه.. وإن قُدِر عليه رِزقه.. فذلك بِذَنبِه.. ولِحِكمَة يَعلَمها الله.. فهو على عِلم \" أنَّ الله - تعالى -نَحَّى أولياءَه عن الاغتِرار بالدٌّنيا وفَرط المَيل إليها \" كما قال القرطبي. والله - سبحانه وتعالى - \" مَاضٍ, في عَبدِه حُكمُه، عَدل فيه قَضاؤه، له الملك وله الحمد، لا يَخرُج في تَصَرّفه في عباده عن العَدل والفَضلº إن أعطَى وأكرَم وهَدَى ووَفَّق، فَبِفَضلِه ورَحمته، وإن مَنَع وأهَان وأضَلّ وخَذَل وشَقِي فَبِعَدلِه وحِكمَتِه \" كما يقول ابن القيم. فَحَذَار حَذَار مِن الاغتِرار..وحَذَار مِن حَمل شيء مِن مِيرَاث قَارُون!

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply