بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
عباد الله، حديثنا اليوم وإياكم عن الإخلاص، وهو سرُّ بين العبد وربه، لا يطّلع عليه مَلَك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده. والإخلاص مِسك القلب وماء حياته، ومدار الفلاح كله عليه، يقول المولى- تبارك وتعالى -: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ [البينة: 5].
وتذكروا ـ أيها المؤمنون ـ أن سيدنا رسول الله بيّن لنا أن الأمة الإسلامية تُحفَظ وتُنصَر بإخلاص رجالها، وقد بشّر المخلصين بالسَّناء والرّفعة والتمكين في الأرض، فقال: ((بشّر هذه الأمة بالسَّناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب)).
والإخلاص ـ يا عباد الله ـ سبب من أسباب غفران الذنوب، ويجعل الأعمال مقبولة عند مقلب القلوب، فقد ورد عن أبي أمامة جاء رجل إلى النبي فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فقال رسول الله: ((لا شيء له))، ثم قال: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتُغِي به وجه الله)).
قال أهل العلم: العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جِرابه رملاً ينقله ولا ينفعه. وقيل لأحد الصالحين: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟! قال: لأنهم تكلموا لعزّ الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعزّ النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق. فأهل العلم إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغِلوا، فإذا شُغِلوا فُقِدوا، فإن فُقِدوا طُلِبوا، فإن طُلِبوا هَرَبوا.
ومن هنا فقد نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا: أن تكون الحركة والسكون في السرّ والعلانية لله - تعالى -، لا يمازجه شيء، لا نفس، ولا هوى، ولا دنيا.
ومن صور الإخلاص ـ يا عباد الله ـ
الإخلاص في الصلاة وقول كلمة التوحيد بقلب خالص، لقوله: ((ما قال عبد: لا إله إلا الله مخلصًا إلا فُتِحت له أبواب السماء، حتى تُفضِي إلى العرش، ما اجتُنِبت الكبائر)).
وكذلك أوصانا رسولنا أن نُخلِص الدعاء إذا دعونا للميّت وصلّينا عليه، فقال: ((إذا صلّيتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)). فأين نحن من هذا يا عباد الله؟! نصلي على الأموات وقلوبنا ساهية لاهية، لا نقف بخضوع وخشوع، ولا نتذكّر أننا سنموت يومًا من الأيام. نسأل الله - تعالى -أن يجعلنا وإياكم ممن خشعت قلوبهم ولانت أفئدتهم وتذكّروا آخرتهم.
عباد الله، قال الفُضَيل بن عِياض - رحمه الله - في قوله تعال: ( لِيَبلُوَكُم أَيٌّكُم أَحسَنُ عَمَلاً ) [الملك: 2]: هو أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. ثم تلا قوله - تعالى -: ( فَمَن كَانَ يَرجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) [الكهف: 110].
واستمعوا ـ يا عباد الله ـ لهذه القصة الدالّة على صدق النية وحسن الإخلاص: الإمام الجليل العالم المجاهد عبد الله بن المبارك كان في سفر لغزو الروم ومعه صاحب له، فتصَنّع صاحبه بالنوم عندما حلّ عليهما الظلام ليرى ماذا سيصنع ابن المبارك في ليلته. قال: فظنّ أني قد نمت، فقام فأخذ في صلاته، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، ثم أيقظني، وظن أني نائم، فقلت: إني لم أنم، قال: فلما سمعها مني ما رأيته بعد ذلك يكلمني، لا ينبسط إليّ في شيء من غزاته كلها، كأنه لم يعجبه ذلك مني، فلم أزل أعرفها فيه حتى مات، ولم أر رجلاً أسَرّ بالخير منه.
إنه الإخلاص لله في العبادة، لا رياء ولا سمعه ولا شهرة كاذبة. هكذا كان علماء الأمة في معاملتهم مع الله، لا تأخذهم في الله لومة لائم، لا غش ولا خداع، ولا مظاهر براقة، كانوا لا يلتفتون إلى الدنيا وزخارفها.
عباد الله، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، أين الآباء الذين يراقبون أولادهم وبناتهم والمحافظة عليهم من الفساد؟! إن سبب انحطاط الأخلاق تبرّج النساء والتعرّي وإظهار المفاتن، وما يُبثّ على شاشات التلفزة من مظاهر العُهر والظلام والرقص المعيب، وما تنشره كتب الفسق، وما يُشاهَد من الصور الخليعة، لا سيما اجتماع النساء والرجال في الحفلات والأعراس، فهذ كله حرّمه الإسلام.
فيا أيها المسلمون، صونوا أعراضكم، وكفّوا عن مظاهر الفساد نساءكم، وأمروهنّ بالحِشمة في اللباس وبالتستّر الكامل، وانهوهنّ عن لبس البناطيل المجسّمة وعن تضييق الثياب ولبس الشفاف، واحجبوهنّ عن مجتمعات اللهو وشهود التمثيل الداعِر والآلات اللاقطة، حرصًا على كمال الأخلاق، وصونًا للفضائل والكمالات، ومن هنا نهيب بالتجار أن لا يجلبوا الملابس الخليعة وبيعها في أسواقنا، وخاصة أننا أقبلنا على فصل الصيف.
عباد الله، فسادٌ بدأ يدبّ في مجتمعنا، ألا وهو ما يُعرف بالزواج العُرفي، تتعرّف الفتاة على شابّ، ثم يتزوجان من غير موافقة وليّ أمرها، وما ذلك إلا لفساد البيت والتربية، وقد بدأ ينتشر هذا النوع من الزواج الباطل والفاسد بين فئة قليلة من أبناء شعبنا وخاصة الطالبات في المدارس والجامعات، ومن هنا فإننا نحذر من هذا الفساد، نحذر من هذا النوع من الزواج، حيث فساده كما ذكرنا، ثم عدم الاعتراف بهذا الزواج رسميًّا، فتابعوا أحوال أولادكم وبناتكم في أوقات خروجهم من البيوت، وإياكم ثم إياكم والتهاون في هذا الأمر، وعندئذ ولات ساعة مندم.
عباد الله، إن المجتمع لا يكون صالحًا إلا بصلاح أولي الأمر من العلماء والأمراء والحكام والوزراء، فإذا صلح هؤلاء صلح المجتمع، وإذا فسدوا فسد المجتمع. وأنتم ـ أيها العلماء ـ كونوا كسلفكم من أبناء هذه الأمة، كونوا مخلصين صادقين مع الله، قوموا بواجبكم في حماية المجتمع من مظاهر الفساد والإفساد، تخلّوا وابتعدوا عن صفات الرياء والنفاق لحكامكم تفلحوا عند ربكم، وتنالوا المكانة السامية لدى أمتكم، انظروا إلى هذا المشهد الذي يضع العالم في مكانته السليمة بين الأمة: لما قدم هارون الرشيد الرقّة ورد ابن المبارك فانجَفَل الناس إليه، فأشرفت زوجة الرشيد من برج القصر، فلما رأت الناس وكثرتهم قالت: ما هذا؟ قالوا: عالم خراسان، فقالت: والله هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس إليه بالسواط والعصا والأعوان.
فبالله عليكم أيها المؤمنون، هل يوجد بالأمّة اليوم مثل ابن المبارك في علمه وإخلاصه وزهده وجهاده وعبادته؟! فالعالم ـ يا عباد الله ـ إذا أراد بعلمه وجه الله - تعالى -هابه كل شيء، وإذا أراد أن يُكثر به الكنوز والأموال هاب من كل شيء.
فالإخلاص الإخلاص أيها المؤمنون، فالإخلاص يجعلك تحب مولاك، وإذا أحببته أحبك، والمحبة شجرة تُغرس في الفؤاد، وتُسقى بماء الود، أصلها ثابت وثمرها لطائف الأنس، تؤتي أكلها دائمًا بإذن ربها. والمحبّ دائمًا عديم القرار فقيد الاصطبار، لا يسكن أنينُه، ولا يهدأ حنينُه، نهاره ليل، وليله نهار.
فيا أيها المسلم، أما آن لك أن تستعد بزاد التقوى؟! أما آن لك أن تمحو قبيح أفعالك؟! فإن القبيح مكتوب، أتضحك ملء فمك وعليك ذنوب؟! عُد إلى رشدك، وابتعد عن هواك، وأخلص العمل تنل جنة مولاك.
عباد الله، القدس في خطر كبير، وإسرائيل تستغلّ حالة الهُدنة أو التهدئة فتواصل إقامة الجدار العُنصري، وتصادر الممتلكات، وتعمل على توسيع المستوطنات في القدس والضفة الغربية، وهذا هو منهجهم منذ زمن بعيد: في ثورة 1936م والإضراب المشهور عملوا على تكثيف الاستيطان والهجرة اليهودية لأرض فلسطين، وفي عام 1948م استغلت الهدنة وهدمت القرى وهجرت أهلها وهددت المنطقة بأسرها، وفي عام 1967م صادرت الأراضي وهدمت القرى وأقامت المستوطنات وأبعدت من أبعدت. هذا هو سبيلهم، المزيد من الاستيطان والتوسّع، والواجب على أمة الإسلام في كل مكان أن يقفوا وقفة صادقة مع شعبنا المرابط حتى يصمد أمام مخططات المستعمرين الحاقدين.
أيها المسلمون، أيها المرابطون في هذه الرحاب الطاهرة، يا من شرفكم الله بشرف الرباط على ثغر من ثغور الإسلام إلى يوم الدين، لقد أفشلتم بوقفتكم الشجاعة ووحدتكم الإيمانية المخلصة وإرادتكم الصلبة أطماع الحاقدين من تحقيق مآربهم، لقد أثبتم أنكم أهل للدفاع عن مسجدكم المقدس، فكنتم حُماة الديار نيابة عن أمة الإسلام في كل مكان، وبالمقابل فقد أثبت زعماؤكم أنهم أمة مغلوب على أمرها، يأتمرون بأمر الغرب، ويتباكون على السلام المزعوم، ويستعجلون التطبيع والانفتاح، وقد ضنّوا عليكم مجرد الشّجب والاستنكار! فلا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المؤمنون، ورغم وقفتكم المشرّفة المباركة إلا أن الخطر ما زال قائمًا، ومحاولات الحاقدين المتربصين لن تتوقف، ونحن ـ وبتوفيق الله ـ أمة صابرة، أمة مرابطة، فعلينا أن نكون على قدر المسؤولية، وأن نعمر مسجدنا دائمًا وفي كل الأوقات، وليس في المناسبات فقط، فالخطر لن يتوقف ما دام الاحتلال جاثمًا على صدورنا.
عباد الله، إن أي تقصير سيمهّد الطريق أمام المتطرّفين لتحقيق مآربهم وتحقيق أهدافهم، حذارِ من العملاء الذين يحاولون الإساءة إلى قدسية هذا المكان الطاهر، أو إعطاء الفرصة لإحداث أمور تسيء إلى مسجدنا. فلا تعطوا الفرصة للنيل من صمودكم وتدنيس مسجدكم، فإن الأنباء تتحدث عن عزم المستوطنين إعادة الكرّة في الشهر القادم، فالرباط الرباط يا عباد الله، فهو أفضل عبادتكم عند الله - تعالى -، فقد روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله قال: ((رباط يوم في سبيل الله خير عند الله من الدنيا وما فيها))، وفي صحيح مسلم عن سلمان قال: سمعت رسول الله يقول: ((رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجرِي عليه رزقه، وأمِن الفتان))، والفتان هو الشيطان، وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت. والرباط يضاعف أجره إلى يوم القيامة، وصاحبه يبعث يوم القيامة آمنًا من الفزع.
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن انتظار الصلاة بعد الصلاة رباط، فقد يحصل لمنتظر الصلوات ذلك الفضل إن شاء الله، فها هو نبينا يقول للجالسين في المساجد ينتظرون الصلوات: ((أبشروا معشر المسلمين، هذا ربكم قد فتح بابًا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة يقول: يا ملائكتي، انظروا إلى عبادي هؤلاء، قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى)).
أيها المسلمون، تواجدوا للصلاة في مسجدكم، وعمّروه بوجودكم، علّموا أولادكم الصلاة فيه، وجنّبوه الأذى واللعب في ساحاته، جنّبوه اللعب والبيع والشراء ورفع الأصوات والتشويش واللغط، لقول رسولنا الأكرم: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد الأقصى فقولوا له: لا أربح الله تجارتك)).
ومن هنا نهيب بمن يجمع التبرعات في ساحات المسجد الأقصى أن يكفوا عن ذلك، وأن يجمعوا خارج أبواب المسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى ليس مكانًا لأمثال هذه الأمور، وإنما هو لعبادة الله، ومن أراد أن يتبرع عليه التوجّه إلى لجان الزكاة المختصة من أجل ضمان وصول المال إلى الجهات المعنيّة.
فهنيئًا لكم ـ يا أهل فلسطين ـ برباطكم، هنيئًا لكم بهذا الشرف العظيم، فقد استأثره الله لكم دون غيركم، فعاهدوا الله على المحافظة عليه، ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد