بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم ومخافته، وأحذّركم ونفسي من عصيان أمره ومخالفته، حيث يقول - سبحانه -: فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ, خَيرًا يَرَه وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ, شَرًّا يَرَه [الزلزلة: 7، 8].
أيها الناس، في خِضَمّ هذا الزَّخَم الإعلامي الكبير والذي يجتاح العالم عامّة وعالمنا الإسلامي خاصة تتبدّل بعض الحقائق، وتَتَزَعزَعُ بعض الأصول، ويضطرب الأمر على المسلم، فيخفى عليه الحقّ مرّات ومرّات، بل إن الأمر الجَلَل ـ عباد الله ـ أن يصل ذلك التأثيرُ للإعلام إلى موازين المؤمن، لتنقلب لديه الأمور، فيرى الحق باطلاً، ويرى الباطل حقًّا، والعياذ بالله.
ولذا نقف ـ أيها الأحبة ـ وقفة في هذا اليوم المبارك مع أُنموذج من ذلك، نبرهن به على صحة ما نقول، وليقوم الجميع بعد ذلك بالحذر والتحذير من مغَبّة هذا الطرح الإعلامي على أخلاقنا وسلوكياتنا، بَلهَ على عقائدنا وتصوّراتنا وموازيننا، وليتّضح الحقٌّ لكل صادق، وليظهر النور لكل ذي عينين، وليتبيّن الأمر لبعض أصحاب النفوس الطيبة منا، الذين لا يزالون يُنيطون ذلك الإعلام أنواط الشرف، ويقلّدونه أوسمة الفِخَار على رؤوس بيوتهم.
وهذا المثال ـ عباد الله ـ والذي يبرهن على ما يُقال في هذا اليوم هو مصطلحٌ عظيم طالما كان دافعًا للعَلياء، ورمزًا للقدوة في الخير والفداء، وطالما أذكى ـ وخاصّة في نفوس الأجيال الصاعدة ـ روح الخيرية وبذل الغالي والنفيس لإرضاء ربهم، ولصالح دينهم ورِفعة أمتهم، فلهذا المصطلح دور عظيم في الإصلاح والترشيد ورفع أفراد المجتمع، بل الأمة إلى مصافّ الأمم الفعّالة المنتجة، ألا وهو مصطلح البطولة.
وأما مع انعكاس الأمور بهذا الطرح في هذه الأعوام فقد استحال الغَربُ شَنًّا، وعادت الصَّبا دَبُورًا، فأصبح مصطلح البطولة رمزًا للهو، والنجومية سبيلٌ لسفاسِف الأمور وطرحٌ لمعاليها، ليصبح بعد ذلك هَمٌّ الأجيالِ المسلمة تلك القدوات الضالة، والتي لُبّسَ عليها بأنها هي صور النجومية والبطولة.
ونعرض الآن إلى صورتين متقابلتين من نماذج الأبطالº ليرى المسلم أي القدوات هي التي تؤثر التأثير الإيجابي، وأيها عكس ذلك.
فالصورة الأولى: هي وقفة مع سيرة بطل عظيم من أبطال هذه الأمة، اشتُهِر بأنه أسد الله ورسوله، إنه عمّ الحبيب، إنه حمزة بن عبد المطلب رضي الله - تعالى -عنه وأرضاه. وإنني واقفٌ مع سيرته وقفات، وذاكرٌ من سيرته عجبًا.
أيها الأحبة، بعدما أخذت دعوة الحبيب صلوات الله وسلامه عليه تصل إلى مسامع الناس في مكة، وباتت البيوتات تتحدّث بشأن هذا الرجل الصادق الأمين الذي لم يعهدوا عليه ولو كَذبةً واحدة، كان من الناس من آمن بالله ورسوله سرًّاº خوفًا من بطش طغاةِ مكةَ وعُتاتِها، ومنهم من أحبّ هذه الدعوة ودخلت قلبه، لكنه لم يؤمن بعد، من هؤلاء ذلك الحمزة أسد الله ورسوله. وبالرغم من كونه عمًّا لرسول الله إلا أنه كان قريبًا منه في السِّن، فهو يعرفه صديقًا في الصغر معرفةً حقّة، ولم يعهد عليه الكذب أبدًا، وكان أيضًا يتوارد لسمع حمزة البطل ما يقول كبراءُ قريشٍ, عن ابن أخيه، وكان يفكّر دائمًا فيما يقال، فقد كان شجاعًا جسورًا بطلاً ذا عقل راجح حكيم.
حتى جاء اليوم الموعود، وخرج حمزة كعادته ليمارس هواية الصيد، ويقضي جزءًا من نهاره ليعود إلى مكة متوجّهًا للكعبةِ يطوفُ بها كعادته قبل أن يعود إلى بيته، وفي يومه ذلك وعند عودته تلقّته أَمَةٌ لعبد الله بن جدعان يبدو الذٌّعرُ من عينيها، لتخبره بما لقي ابنُ أخيه الحبيب من أبي الحكم بن هشام أبي جهل فرعون هذه الأمة من أنه سبّ الحبيبَ نبينَا وشتمه وبلغ منه ما يكره. ومضت تشرح له وتفصّل ما صنع أبو جهل لعنه الله برسول الله وحمزة يسمع منها صامتًا، ونار الغضب تضطرم في فؤاده، ثم صمت حمزة بُرهة، وثبّت قوسه بيمينه فوق كتِفه، وهمَّ إلى الكعبة يبحث عن أبي جهلº ليصنع أمرًا هامًّا طالما فكّر فيه حمزة رضي الله - تعالى -عنه.
نعم، وجد أبا جهل متوسّطًا قومه في ساحة الكعبة، فتقدّم نحوه بخطوات ثابتة مِلؤها الجُرأةُ والشجاعةº لأنه البطل، واستَلّ قوسه من على كتفه، وهوى مباشرةً على أبي جهلٍ, فضربه ضربة قوية أنزفه الدم من رأسه، وزأر به: (أتشتم محمدًا وأنا على دينه أقول ما يقول؟! ألا فرُدَّ ذلك عليّ إن استطعت)، وإنما صعق القوم ليس بتلك الضربة على رأس سيدهم، بل صعقهم قول هذا الفتى أنه على دين محمد، وهو أقوى فتيانِ مكةَ، ومن خيرةِ شبابِها، ليعلن اعتناقه للدين الجديد، ذلك الخطر الذي يهدّد أصنام قريش. فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل سيدَهم، فقال أبو جهل بخبثه ودهائه: دعوا أبا عمارة، فإني ـ والله ـ قد سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا.
أيها المسلمون، هذا هو أسد الله يعلن انتماءه لدين الإسلام، لتبدأ مرحلةٌ جديدةٌ من حياته يذود فيها عن حِمَى الدين، وينشر الدعوة بما هو ميسّر له وبما يستطيعº لأن مفهوم الإسلام تَبَلوَر في أذهانهم على نقاء، فأيقنوا أن الانتماء للإسلام معناه حمل همومه والدفاع عن حياضه ومعايشة آماله وآلامه، لا أن إسلامه فقط تأدية الشعائر الظاهرة بالجوارح فحسب، ثم لا ولاء ولا براء ولا تفكير في هذا الدين ولا حِملانًا لهمومه أو سعيًا جادًّا لرفعة أهله والنهوض بهم مهما كانوا من أي قطرٍ, أو لون. فقد أعز الله الإسلام بحمزة وأصبح متنفّسًا للضعفاء، وشعر المسلمون بأن هناك قوة ستحميهم بعد الله - تعالى -، فاندفعوا نحو الإسلام.
وبدأت ثمار تلك البطولة لحمزة تظهر، فأصبح يشقّ طريق الدعوة. وانظر معي ماذا يثمر معنى البطولة الحقّة في نفوس البشر: فأول سرية خرج فيها المسلمون للقاء العدو كان أميرها حمزة، وأول رايةٍ, عقدها رسول الله لأحد من المسلمين كانت لحمزة، ويوم التقى الجمعان في غزوة بدر كان الدور كبيرًا لحمزة. يذكر ابنُ هشامٍ, طرفًا من أحداث ذلك البطلِ في بدرٍ, فيقول: ثم خرج بعده عتبةُ بنُ ربيعة، بين أخيه شيبةُ بنُ ربيعة وأبيه الوليدُ بن عتبة، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتيةٌ من الأنصار ثلاثة، وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمّهما عَفراء ورجل آخر يقال: هو عبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله: قم يا عُبيدةَ بنَ الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي، فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: من أنتم؟ فعرّف كل واحد بنفسه، قال عبيدةُ: عبيدة ـ يعني أنا عبيدة ـ، وقال حمزةُ: حمزة، وقال عليُ: علي، فقالوا: نعم، أكفاء كرام. فبارز عبيدةُ ـ وكان أسنَّ القوم ـ عتبةَ بنَ ربيعة، وبارز حمزةُ شيبةَ بنَ ربيعة، وبارز عليٌ الوليدَ بن عتبة. فأما حمزةُ فلم يمهل شيبةَ أن قتله، وأما عليٌ فلم يمهل الوليدَ أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، وكلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزةُ وعليٌ بأسيافهما على عتبة فقضيا عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه جريحًا. ثم انطلق ذلك البطل يَفري في صفوف القوم في بدر، يدافع عن الله ورسوله، حتى لا يكاد يصادف من الكفار صِنديدًا إلا فَلَقَ هامته.
أيها المسلمون، إن الشهادة منحة عظيمة من الله، وشرف رفيع لا يناله إلا الصادقون الأبطال، وهذا أوان موعدها مع بطلنا.
لولا المشقَّةُ سادَ الناسُ كلٌّهُمُ *** الجودُ يُفقِرُ والإقدَامُ قَتّالُ
لم تهدأ بالٌ لزعماءِ قريش وهم يخطّطون للنيل من رسول الله، وثانيًا ذلك الأسد الذي أوقع فيهم الكثير من الخسائر في بدر. نعم، ذلك الأسد الذي تهابه الكلاب الضالة. فبدأ كفار قريش يرسمون دورًا لأحد عبيدها وهو وحشي، ووعدوه بالحرية مقابلَ قتل حمزة، ومهما كانت نتيجة المعركة القادمة معركة أحد فعليك أن تقتل فقط حمزة. وبدأت من طرفها هندُ بن عتبة تحرّض وحشي، وتعده بالذهب إن هو فعل، فقد علمت أنه قتل أباها وأخاها وعمّها وابنَها.
وحان وقت معركة أحد، تلك المعركة التي خالف فيها الرماةُ أمرَ رسول الله، وتركوا الجبل ونزلوا للغنائم يجمعونها، ففوجئوا بالفرسان من خلفهم، ليُثخِنوا فيهم الجراح. وبدأ يهتزّ ميزان المعركة، فبعد أن كان لصالح المسلمين مال لصالح قريشٍ, وزعمائها. وهذا وحشي قاتل حمزة ندعه يصف لنا بنفسه حالة حمزة رضي الله - تعالى -عنه في تلك المعركة العظيمة فيقول: كنت رجلاً حبشيًا أقذف بالحربة قذف الحبشة، فَقَلّما أخطئ بها شيئًا، فلما التقى الناسُ خرجتُ أنظرُ حمزةَ وأتَبَصّرُه حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأَورَق يهدٌّ الناس بسيفه هدًّا، ما يقف أمامه شيء. ثم يتابع وحشيٌ حديثه فيقول: فوالله، إني لأتهيأ له أريده، وأستتر منه بشجرة لأتَقَحّمه أو ليدنو مني، إذ تقدّمني إليه سباع بن عبد العُزّى، فلما رآه حمزةُ صاح به: هلمّ إليّ، ثم ضربه ضربةً فما أخطأ رأسه، نعم.
تلك المكارم لا قَعبـان من لَبَنٍ, *** وهكذا السيفُ لا سيفَ ابنِ ذي يَزنِ
وهكذا يفعل الأبطال إن غضبوا *** وهـكذا يَعصِـفُ التوحيـدُ بالوَثَنِ
ثم تقدم وحشي وهزّ حربته، ثم أطلقها لتستقرّ في أحشاء البطل وتنفذ من خلفه، فصرخ حمزة، ورأى وحشيًا، وهمّ به، فانخلع قلب وحشي، ولكنّ المنيّة عاجلت البطل فسقط شهيدًا - رحمه الله - برحمته الواسعة.
وهذا شاهد آخر للحَدَث، وهو جابر بن عبد الله حيث يقول: فَقَدَ رسولُ الله حمزة حين فاء الناس من القتال، فقال رجل: رأيته عند تلك الشجرات وهو يقول: أنا أسد الله وأسد رسوله، اللهم أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ـ يعني أبا سفيان وأصحابه ـ وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم، فحنا رسول الله نحوه، فلما رأى جنبه بكى بأبي هو وأمي، ولما رأى ما مُثّل به شهق، ثم قال: ((ألا كُفِّن؟!))، فقام رجل من الأنصار فرمى بثوب عليه، ثم قام آخر فرمى بثوب عليه، فقال: ((يا جابر، هذا الثوب لأبيك، وهذا لعمي حمزة))، ثم جيء بحمزة فصلّى عليه، ثم يجاء بالشهداء فتوضع إلى جانب حمزة فيصلي، ثم ترفع ويترك حمزة، حتى صلّى على الشهداء كلهم. أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: \"صحيح الإسناد ولم يخرجاه\".
فوقع الخبر على الحبيب ـ كما ترى ـ كالصاعقة، وحزن لذلك حزنًا شديدًا على صديقه وعمه ورفيق دَربه وأخيه من الرضاعة وأسد الله ورسوله رضي الله - تعالى -عنه وأرضاه، فأقسم ـ وهو في ذلك الحزن العميق ـ أن ينتقم من فُلُول قريش فيُمثّل بسبعين منهم إن أقدره الله عليهم، فنزل قول الله - تعالى -: لَيسَ لَكَ مِن الأَمرِ شَيءٌ [آل عمران: 128].
ويعود نبينا الحبيب إلى المدينة حزينًا أسيفًا كَسِيفًا، فيرى نساءَ الأنصار يبكون قتلاهم في أحد، فتتقاطر الدموعُ على وجنَتيه الشريفتين بأبي هو وأمي، ويقول: ((ولكنّ حمزة لا بواكي له، ولكنّ حمزة لا بواكي له))، فطَفِقن نساءُ الأنصار يقلن: نحن نبكيه ونندبه يا رسول الله، نحن نبكيه ونندبه يا رسول الله، فنهاهن عن ذلك وأبى النياحة.
نعم، هكذا تنتهي حياة الأبطال.
فإمّا حياةٌ تسرّ الصديقَ *** وإمّا مماتٌ يغيظُ العِدَا
ويعمّ الحزنُ صحابةَ رسول الله كذلك، فتنطلق قرائحُ شعرائهم، إذ يقول حسان:
دع عنك دارًا قد عَفَا رسمُها *** وابكِ على حَمزة ذي النائِلِ
مـالَ شهيدًا بين أسيـافكم *** شُـلّت يدا وحشيِّ من قاتلِ
وقال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - :
بكت عينيّ وحُقَّ لها بكاها *** وما يُغنِي البكاءُ ولا العَوِيلُ
على أسدِ الإله غداةَ قالوا *** أحمزة ذاكـم الرجل القَتِيلُ
أُصيب المسلمون به جميعًا *** هناك وقد أُصِيب به الرسولُ
اللهم صلِّ وسلّم على رسولك ونبيك محمد.
روى الحاكم والطبراني في الكبير والأوسط والضياء في المختارة من حديث علي وابن عباس وجابر - رضي الله عنهم - مرفوعًا: ((سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله)) ومال الألباني إلى تصحيحه.
نعم أيها المسلمون، إن فقدان الأبطال وقت حاجتهم مُصابٌ عظيم، وإنما تُعرف قيمتُهم بعد فقدانهم، وتُعرف قيمة الدعاة والمصلحين والصالحين والمجاهدين بعد فقدانهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: عباد الله، وقفنا معًا على صورة صادقة من صور البطولة، وقد أحس كل مؤمن اليوم بذلك الأثر في قلبه عندما سمع أحداثَ ذلك البطل، ونَمَى عنده ـ بلا ريب ـ حسٌّ الفداء والتضحية من أجل رِفعة دينه وعلوّ أمّته. فكيف لو توالى على النفس ذكرُ مثل هذه النماذج عبر وسائل الإعلام وقنوات التربية ومجالس الآباء والأبناء والأمهات والبنات؟! لكان المجتمع غير المجتمع، ولكان حال القوم غير ما نرى. ومن هنا علمنا من أين أتت أمّتنا. نعم، إنه بقطع ذلك الحبل الوثيق بين سلف هذه الأمة وخلفها، بين مصادر التمكين وذخائر الغَلَبَة وبين القُدُرات والطاقات، لتُهدَر بعد ذلك فيما سيأتي بيانه.
وإن الصور البطولية لسلف أمتنا واسعة حيوية شاملة، تشمل خيري الدنيا والآخرة، وليست في مجال واحد فقط كما يُنعت به أتباع ذلك السلف فيقال زُورًا وبُهتانًا: آحادي الاتجاه، وقد رأينا دعوة الحوار والتعددية واضحة جلية في أزمة الدَّمج الماضية، وهل تشكّل رأي الحَفنة أم رأي الغَلَبة، والله المستعان على ما يصفون. بل ما ذُكر اليوم هو أُنموذجٌ لها في مجال واحد فقط.
أيها المسلمون،
ومـا فتـئ الزمـانُ يدور حـتى *** مضى بالمجد قـومٌ آخـرونَا
وأصبح لا يُرى في الرَّكب قومـي *** وقد عـاشوا أئمتَّـهُ سِنينـا
وآلـمـنـي وآلـمَ كـلَّ حُـرِّ *** سؤالُ الدهرِ: أين المسلمونا؟!
وها هي الصورة المقابلة للبطولة، وها هو المسخ العجيب الذي أفرزته لنا وسائل الإعلام من تصوير الأبطال والنجوم، إنهم كل ساقطٍ, وساقطة، ديدنهم الحب والخنا، وشعارهم الرذيلة، ودِثارُهم حرب الفضيلة. فيقولون: بطل الفلم فلانة، وبطل الأغنية فلان، وضاعت الأمة بين أبطال الفلم ونجوم الأغنية، ورحمة الله على حمزة. ولو طلبت من أحد أشبالنا أو حتى من أحدنا أن يعدّ لك عشرة من الأبطال فقد يَتَلَعثَم، ولكن أبطال الزور الإعلامي لا يعجز الكثير عن عدِّ أسمائهم اللامِعَة.
فالخطر ـ عباد الله ـ أن تكون هذه الأمة تنافس الأمم، وتدخل في معتركها بأمثال هؤلاء الأبطال. والخطر كل الخطر على أجيالنا أن ندعها على تلك الوسائل التي تُحسّن القبيح وتُقبّح الحسن، حتى تمسخ معنى البطولة والقدوة في أذهانهم. وعُد إلى بعض أشبالنا اليوم واسألهم عن ذلك.
ولمّا قامت مشكورةً تلك الوسائل بعرض أحداث أبطالنا من الصحابة والتابعين لم تنس مبدأها، أن البطولة هي العشق الغرام، فصورت أحداث الصحابة مطعَّمة بألوان العشق والهيامº لتُجهِز بذلك على البقية الباقية، على معاني البطولة الحقّة في الأذهان، وتنقلب معاني القدوة في النفوس. وها هي المسلسلات الرمضانية للصحابة والتابعين خير شاهد على ما يقال.
إن الوصية ـ عباد الله ـ بعد كل ذلك أن نتقي الله في أبصارنا وعقولنا وأوقاتنا، وأيضًا في فَلَذَات أكبادنا، فلا نجعلهم عرضة لهذه الوسائل الإعلامية التي تمسخ عقولهم، وتثنيهم عن المعالي، وتدمّر عواطفهمº لتشعلها نارًا لا يستطيع تفريغها في مثل مجتمعنا، وحتى في المجتمعات المُنحَلّة ما أظن أن قوّة الإثارة العاطفية والتي يتلقّاها المراهق ـ خاصة وهو في الغالب عَزب ـ تُشبعها ولا مجتمعات الانحلال، فكيف بمجتمعنا المحافظ عمومًا؟! وأظن أن ذلك مراد القوم.
إنها رسالة إلى الآباء والمربّين وساسة الإعلام ومنظّري البرامج وواضعي المناهج وكل من حمّله الله مسؤولية هذه الأمة، أن يتقوا الله في الأمة، ولا يضلّلوها عن مصادر عزّتها، ويقطعوا عليها حبل كرامتها بين أمم الأرض، فها هي تسير على أيديهم في آخر الرَّكب. وليتق الله الذين جعلوا مثل هذه الدعوات للأمة بالرجوع إلى سالف عزتها فأسموها بغير اسمها زورًا وتضليلاًº بدعوة للرجوع للقديم والتخلّف عن رَكب الحضارة، ولا أدري أي حضارة يريدون؟! أحضارة المَوَاخِير أم حضارة الصواريخ؟! ولعمرو الله، لقد تركوا الثانية وتشبّثوا بالأولى، ولعمرو الله، ما جاءت شريعة السماء بمثل هذا، وإنه لطعن في الرسول والمُرسِل.
واسمع من شواهد ذلك إلى ما يقول مدير البرامج بإحدى القنوات الفضائية في مقابلة صحفية: \"نطمح أن تكون برامج رمضان لهذا العام مليئة بالجاذبية والإثارة والتنوّع، نريد أن نستغلّ هذا الشهر ـ واسمع الاستغلال ـ نريد أن نستغلّ هذا الشهر الذي يرتفع فيه مُعدّل المشاهدين بمقدار كبير لتقديم رسالتنا الإعلامية برؤية عصرية تناسب مرحلة العولمة الإعلامية والثقافية التي نشهدها\".
عباد الله، هذا خبر القوم، فهل من غَيرة تَأنفُ من هذا؟! وهل من عقول تعي القول؟! إنني أنادي من على هذا المنبر إلى مقاطعة ذلك التضليل الذي يُمارَس على أمّتنا عبر تلك القنوات الضالة التي شحنت كل وسائلها من جرائد ومجلات وقنوات وغيرها بالدعاية لها، فلنتق الله، ولنصحو من رقدتنا.
وهذه ـ عباد الله ـ بعض وصايا، لعل الله أن يجعل فيها تداركًا وإصلاحًا:
أولاً: نبذ ومقاطعة كل مصدر يُصوّر لنا أنّ البطولة والمعالي هي سَفَاسِف الأمور، من الحبّ والخَنَا والسرقة والاغتصاب وسائر ألوان العصيان.
ثانيًا: إيجاد البدائل النقيّة الأهداف التي تعيد للأمة التصور الصادق لمعنى القدوات، وترفع من معاني البطولة الحقّة، من البذل والتضحية والإنتاج الفعّال النافع للأمة.
ثالثًا: التركيز في المناهج التعليمية للناشئة على إيضاح الصورتين من القدوات: القدوات الصادقة العالية، وكذا القدوات المضللة الهابطة. وذلك بالطرق المحببة المناسبة لهم، كالقصة والمثال ونحوها.
رابعًا: إحياء ذكر القدوات المعاصرة، من العلماء والمصلحين وكل شخص نافع للأمة، وليس في مجال واحد فقط، بل في سائر المجالات التي ترفع الأمة إلى مقام يرضى عنه ربها، وتحقق الاستخلاف الحق الرباني على هذه الأرض.
خامسًا: قيام الآباء والأمهات وسائر المربين وأئمة المساجد والخطباء بعرض صور الأبطال الصادقة للناشئة عبر الوسائل الممكنة والتركيز على ذلك.
سادسًا: قيام وسائل الإعلام بكافة ألوانها بعرض القدوات الصحيحة النافعة عبر وسائلها، بدلاً من تلك القدوات الهابطة، وذلك وفق الطرائق الشرعية السليمة، وعلى جميع المستويات، عبر قصة أو مقال أو تمثيل ونحوها.
سابعًا: على كل من وهبه الله قدرة التأليف أن يسخر طاقته في التأليف في هذا المجال، من إبراز القدوات الصالحة للمسلمين. وعلى الآباء والمربين زيارة المكتبات وانتقاء ما يناسب الناشئة من تلك الكتب التي تتحدث عن القدوات الصالحة، وحثهم وتشجيعهم على قراءتها، ككتاب صور من حياة الصحابة، وكذلك صور من حياة الصحابيات، جزى الله مؤلفها خيرًا.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز في أهل طاعتك...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد