شهور العام والأشهر الحرم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

 أما بعد: عباد الله: يقول الله - تعالى -: \"إِنَّ عِدَّةَ الشٌّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثنَا عَشَرَ شَهراً فِي كِتَـابِ اللَّهِ يَومَ خَلَقَ السَّماوات وَالأرضَ مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدّينُ القَيّمُ فَلاَ تَظلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُم\" [التوبة: 36].

 

والأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب شهر الله رجب الفرد، فهذه الأربعة الحرم ثلاثة سرد وواحد فرد.

 

وقد كان مشركو العرب يتلاعبون بحرمة هذه الأشهر، فيؤخرون حرمة شهر الله المحرم إلى صفر إذا أرادوا فيه قتالاً ويسمونه النسيء، وقد أبطل الله نسيئهم هذا، وبين أنه إمعان في الكفر وإيغال في الضلالة بقوله - سبحانه -: \"إِنَّمَا النَّسِىء زِيَادَةٌ فِى الكُفرِ يُضَلٌّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلٌّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ\" [التوبة: 37]. أي ليبقوا على عدد الأشهر الحرم أربعة فيرحلوا حرمة المحرم إلى صفر، ويقولون شهر بشهر، ويحلون المحرم عاماً، ويحرمونه عاماً \"فَيُحِلٌّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيّنَ لَهُم سُوء أَعمَـالِهِم وَاللَّهُ لاَ يَهدِي القَومَ الكَـافِرِينَ\" [التوبة: 37].

 

وإن أقبح الأعمال من أحل ما حرم الله والله لا يهدي القوم الكافرين \"قُل أَرَأَيتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مّن رّزقٍ, فَجَعَلتُم مّنهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُل ءاللَّهُ أَذِنَ لَكُم أَم عَلَى اللَّهِ تَفتَرُونَ\" [يونس: 59]. \"وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَـاذَا حَلَـالٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لّتَفتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفلِحُونَ\" [النحل: 116].

 

وقد بلغ تلاعب المشركين بالأشهر مبلغاً غيرها عن هيئتها الأولى يوم خلق الله السماوات والأرض، ولو استمرت على تلاعبهم لما كان يقين في صوم ولا حج، ولكن الله بفضله وكرمه جعل حجة النبي في السنة العاشرة من الهجرة منطلقاً لضبط الأشهر، فوقوفه بعرفة واقع موقعه في اليوم التاسع من ذي الحجة وعيده في اليوم العاشر منه، وأعلنها - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)) فأبطل بإعلانه هذا كل نسيء نسأه المشركون، وضبط التاريخ بوقوفه بعرفة وكل تقديم يوم أو تأخير يوم في شهر من الشهور يعود الهلال فيضبطه.

 

والشهر القمري إما ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون يوماً كما صح ذلك عن النبي: ((فصومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وحجكم يوم تحجون، وأضحاكم يوم تضحون)).

 

والنذور والعدد وسائر الأحكام الشرعية هي بهذه الأشهر القمرية لا بغيرها \"يَسـئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ قُل هِي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجّ\" [البقرة: 189].

 

ومن تمام نعمته - تعالى -علينا أن ردها على هيئتها يوم خلق السماوات والأرض ثم ضبطها أهل الإسلام أتباع سيد ولد آدم فلتهننا هذه الثقة بميقات حجنا وصومنا وفطرنا وأضحانا وأشهرنا الحرم، ولنشكر الله على ما هدانا وإن كنا من قبله لمن الضالين.

 

وأخيراً: ننبه على أمر شاع كثيراً، وهو سب الدهر، فمن سب الدهر أو شيئاً منه شهراً أو يوماً أو سنة أو ساعة فكأنما اعتقد أنما هو مسبب وخالق الضر الذي حل به، ولذا نهى النبي عن سب الدهر وقال: ((لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر يقلب ليله ونهاره)) أي إنما نسبتموه إلى الدهر وإنما وقع بقضاء الله وقدره، والله خالقه، فمن سب الدهر بسبب ما وقع فيه من أقدار ضارة له فكأنما سب الله مقدر الأقدار كلها ومقلب الليل والنهار، ولذا فإذا غضبت من شخص فلا يجوز أن تلعن الساعة التي قد عرفتك به أو جمعتك به، وإذا غضبت من امرأتك فلا تلعن الساعة التي تزوجتها فيها أو غضبت من شريك لك في تجارة فلا تلعن الساعة التي قد اشتركت معه فيها ونحو ذلك، لأن هذا كله من سب الدهر.

 

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 عباد الله: إن الذي جعل لنا من الأشهر أربعة حرماً نهانا أن نظلم فيهن أنفسنا بقوله: \"مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدّينُ القَيّمُ فَلاَ تَظلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُم\" [التوبة: 36]. ولئن كان ظلم النفس محرماً في كل حين فهو في الأشهر الحرم أشد حرمة، ولئن كان المراد بظلم المنهي عنه فعل النسيء الذي كان يفعله المشركون أو ظلمها بالمقاتلة في الأشهر الحرم التي حرم الله القتال فيها إلا أن ظلم النفس أعم مدلولاً وأشمل معنى، إن ظلماً لأنفسكم يا عباد الله أن لا تسألوا عن أحكام دينكم والله - سبحانه - يقول: \"فَاسأَلُوا أَهلَ الذّكرِ إِن كُنتُم لاَ تَعلَمُونَ\" [النحل: 34]. ويقول: \"وَلَو رَدٌّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِى الامرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم\" [النساء: 83]. والنبي – صلى الله عليه وسلم - يقول: ((هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال)).

 

إن ظلماً لأنفسكم يا عباد الله أن توردوها موارد الهلاك في الدنيا والآخرة بالإعراض عما علمتموه من دين ربكم، فتعرفون الحرام وترتكبونه، والواجب فلا تفعلونه. إن ظلماً لأنفسنا يا عباد الله أن نعيش رائحين وغادين لا نحمل همّ ديننا لا ندعو به ولا ندعو إليه ولا ندعو له ولأنصاره، إن ظلماً لأنفسنا يا عباد الله أن تمر بنا مواسم والنفحات فلا نستغلها إلا في جمع الدرهم والدينار، ونحن في غفلة عن حقيقة موازين حسناتنا يوم القيامة، إن ظلماً لأنفسنا يا عباد الله أن نقابل نعم الله علينا بالنكران لا بالشكران، فنعمة البصر سخرناها في النظر إلى ما حرم الله، ونعمة السمع سخرناها في سماع ما حرم الله علينا، ونعمة النطق سخرناها في قالة السوء من غيبة ونميمة وكذب وسوء وبهتان وزور وغيرها من آفات اللسان.

 

تأمل معي يا عبد الله كم لله عليك من نعمة ثم انظر هل سخرت كل نعمه فيما يرضيه فكنت من الشاكرين أم أنك استعنت بنعمه على معاصيه، والله - سبحانه - يقول: \"هَل جَزَاء الإحسَـانِ إِلاَّ الإحسَـانُ\" [الرحمن: 60].ويقول: \"وَمَا بِكُم مّن نّعمَةٍ, فَمِنَ اللَّهِ\" [النحل: 53].ويقول: \"وَإِن تَعُدٌّوا نِعمَةَ اللَّهِ لاَ تُحصُوهَا\" [إبراهيم:34].وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply