بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد: أيها المسلمون، حجَّاج بيت الله الحرام، أوصيكم ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فبالتقوى تُستَجلب النعم، وتدفَع النقم، وتصلح الأعمالُ والنفوس، وتغفَر الذنوب والخطايا، ( يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَولاً سَدِيداً يُصلِح لَكُم أَعمَـالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظِيماً )[الأحزاب: 70، 71].
حجاجَ بيت الله العتيق، ضيوفَ الرحمن، ها أنتم في آخر أيام التشريق، قد أحرمتم ولبَّيتم، ووقفتم بعرفاتِ الله وازدلفتم، وبتٌّم ورميتم الجمارَ وطفتم بيتَ الله العتيق، وسعيتم بين الصفا والمروة، سائحين في الشعائر والمشاعر، متعرِّضين من المولى للنفحات والرحمات.
الله أكبر، كم سُكبَت مِن عبرات، وكم قُضيت من حاجات، واستُجيبت دعوات، وغُفرت زلات. نسأل الله - تعالى -لنا ولكم القبول.
ألا وإنَّ قضاءَ النسك لنعمة عظيمةٌ تستحقّ الشكرَ لمسديها - جل وعلا -، فللهِ الحمد على ما أسبغ علينا من نعمه الظاهرة والباطنة.
ثم لتعلموا ـ غفر الله لي ولكم ـ أن حقيقةَ الحمد والشكر لله ربّ العالمين أن يطاعَ أمرُه وتجتَنب معاصيه، مع الحرص على مداومة شكر المنعِم، والخوف من حلول النقم، يصاحب ذلك حياءُ العبد من ربّه كلّما تذكّر إحسانَه. والشكرُ يبدو على اللسان اعترافاً وثناء، وعلى القلب محبَّة وخضوعا، وعلى الجوارح انقيادا وطاعة، وهو واجبٌ في كلّ حين ومكان، ويتأكَّد في هذه الأيام، فهي أيّام إظهارِ الشكر والذكر، ( وَاشكُرُوا نِعمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ ) [النحل: 114].
ألا وإنَّ أعظمَ أوامر الله - تعالى -التوحيدُ، وأعظم ما نهى عنه الشرك، ولقد امتنَّ الله - سبحانه - علينا بالإيجاد والإمداد، فكيف يُشكر غيرُه وتصرَف العبادة لمن سواه؟! وفي القرآن المجيد: ( ياأَيٌّهَا النَّاسُ اذكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم هَل مِن خَـالِقٍ, غَيرُ اللَّهِ يَرزُقُكُم مّنَ السَّمَاء وَالأرضِ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ ) [فاطر: 3].
والحجٌّ مدرسةٌ، وأعظمُ دروسِه التوحيدُ، بل مقصدُه وثمرتُه تحقيقُ التوحيد لله - سبحانه - وإفراده بالعبادة، حتى قال جابر - رضي الله عنه -: ثم أهل رسول الله بالتوحيد. رواه مسلم[1].
فالتلبيةُ كلٌّها توحيد لله - تعالى -، والتجرّد من غير ملابس الإحرام يعني التجرّدَ من كلّ شيء في القصد إلا قصد الواحدِ الأحد، وأعمالُ الحج كلّها توحيد، ( لّيَشهَدُوا مَنَـافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ, مَّعلُومَـاتٍ,) [الحج: 28]، وعند الترمذي أن النبي قال: ((خيرُ الدعاء دعاء يومِ عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير))[2]، وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي قال: ((إنما جُعل رميُ الجمار والسعيُ بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله)) قال الترمذي: \"حديث حسن صحيح\"[3]. بل لقد أُسِّست الكعبة على التوحيد، ( وَإِذ بَوَّأنَا لإِبراهِيمَ مَكَانَ البَيتِ أَن لاَّ تُشرِك بِي شَيئاً ) [الحج: 26].
وفي الحجّ يجتمع الناسُ أجناسُ البشر على اختلاف ألسنتِهم وألوانِهم ومقاماتِهم في هيئة واحدة ونسكٍ, واحد ليعلنوا جميعاً أن ذلك لمقصدٍ, أسمى وهو تحقيقُ العبادة وإخلاصُها لله الواحد الحق الذي تصمد إليه الخلائقُ وتتَّجه إليه في كلِّ حالاتها، والبراءة من الشرك والمشركين نداءٌ أزليّ صرَّح به القرآن في الحج ولا زال يتردَّد: ( وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَومَ الحَجّ الأكبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ المُشرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) [التوبة: 3].
أيها المسلمون في كلّ مكان، حجاجَ بيت الله الحرام، ما أحوجَ الأمَّة في مثلِ هذه المواقف إلى مراجعةِ دينها وتفقٌّد علاقتِها بربّها ومحاسبةِ نفسِها ومعرفةِ الخللِ لإصلاحِه، خصوصاً في مثلِ هذه الظروف التي تحيط بالأمة.
لقد خلق الله الخلقَ لعبادتِه وحدَه، وأسبغَ عليهم نعمَه ليصرفوا جميعَ أنواعِ العبادة إليه، ( وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ ) [الذاريات: 56]. وهذه هي قضيةُ القضايا وأصلُ الدين، ولما رانَ على الناسِ الشركُ وأطبقت على الأرض الجاهليةُ بعث الله من هذه البقاعِ الطاهرة نبيَّه محمداً بكلمة التوحيد: يا أيها الناس، قولوا: \"لا إله إلا الله\" تفلحوا. وهذه الكلمة على قصَرها لها مدلولاتُها ومقتضياتها، فاستجاب له من أجاب، فإذا الغمَّة تنكشف عن هذه الأمة، وإذا رعاةُ الغنم قادةُ أمم، وأشرقَ نورُ التوحيد، ورفرفت رايةُ الإيمان والسلام على أرجاء المعمورة، إلا أنَّ إبليسَ الرجيم قد صدَّق ظنّه على فئام من الخلق بعد أن أقسمَ على إضلالهم، إنَّه لم يقنَع من النصارى بتأليه عيسى - عليه السلام - فحملهم على أن يتوجَّهوا بالإرادة والقصد والدعاء إلى مريم، بل وإلى من اعتقدوا أنَّهم مقرّبون إلى الله من القديسين، بل زيَّن لهم إلى أن أساؤوا الظنَّ بالله - تعالى -، فاعتقدوا أنَّه مثل ملوك الدنيا، لا تُقضى الحاجات إلا بوسائطَ تشفع لهم عنده وتقرِّبهم إليه زلفى، إلا أنَّ الله - تعالى -رحِم أمةَ محمَّد بالقرآن، فأوضح بما لا مزيد عليه من الإيضاح أنَّ الله قرِيب من عباده، يسمع دعاءَهم ويعلَم أحوالَهم، ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ )[البقرة: 186]، بل قد سمّى الله - تعالى -الدعاءَ عبادةً: ( وَقَالَ رَبٌّكُـم ادعوني أَستَجِب لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عبادتي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر: 60]، وكرَّر القرآنُ العظيم التأكيدَ على أن إخلاصَ الدعاء له توحيد، وأن دعاء غيرِه شرك وقال لنبيه: ( قُل إِنَّمَا أَدعُو رَبّى وَلاَ أُشرِكُ بِهِ أَحَداً قُل إني لاَ أَملِكُ لَكُم ضَرّاً وَلاَ رَشَداً ) [الجن: 20، 21]، وقال: ( وَلاَ تَدعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرٌّكَ فَإِن فَعَلتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّـالِمِينَ وَإِن يَمسَسكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدكَ بِخَيرٍ, فَلاَ رَادَّ لِفَضلِهِ ) [يونس: 106، 107]، ( قُلِ ادعُوا الَّذِينَ زَعَمتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَملِكُونَ كَشفَ الضٌّرّ عَنكُم وَلاَ تَحوِيلاً ) [الإسراء: 56]، ( إِن تَدعُوهُم لاَ يَسمَعُوا دُعَاءكُم وَلَو سَمِعُوا مَا استَجَابُوا لَكُم وَيَومَ القِيَـامَةِ يَكفُرُونَ بِشِركِـكُم وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثلُ خَبِيرٍ, ) [فاطر: 14].
وبالرّغم من صراحة الآياتِ فإنّك تأسَف لحالِ بعضِ جهَّال المسلمين وقد وقَعوا في مثلِ هذه البلايا، فتديَّنوا بأنواعٍ, من البدَع والضلالات، وتعلَّقوا بالأحجارِ والبنايات، وتوجَّهوا إلى المقبورين في طلبِ الحاجات ودفعِ الكربات، حتَّى عمّت الفتنةُ كثيراً من بلاد المسلمين، وأصبح فيها قبورٌ ومقامات يقصدُها الآلاف، يطلبون من أصحابها ما لا يُطلب إلا مِن الله، ويسوقون إليها الهديَ، ويقدِّمون النذورَ، ويطلبون جلبَ النفع ودفعَ الشرور.
يا أيها المسلم، يا من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يا مَن تؤمن بالله واليوم الآخر، إنَّ أهمَّ ما يجب أن تهتمَّ به هو أن تعرضَ تصوٌّراتك وأعمالَك على القرآن لتبرَأ من كلّ تصوّرٍ, أو عملٍ, ينافي مقتضَى شهادةِ التوحيد.
ويا أيها العلماء، يا ورثةَ الأنبياء، إذا عُذِر عوامٌّ المسلمين عند ربّهم بسبَب جهلهم وعدم من يبصرّهم فما عذرُكم أمام ربّكم إذا قصَّرتُم في بيان الحق وتهاونتُم في حملِ الناسِ على أهمّ أساسٍ, وهو التوحيد.
ألا وإنَّ مرضَ الأمَّة الذي أوهنَها وداءَها الذي أنهكَها وسلّط عليها أعداءَها هو تفريطُها في دينها وفي أصله وهو التوحيد، وإنَّ آخِر هذه الأمة لن يُصلحه إلا ما أصلَح أوَّلها، وهو ما قاله عمر الفاروق - رضي الله عنه -: (نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزَّة بغيره أذلَّنا الله)[4]. وإذا فرَّطت الأمَّة في مصدر قوَّتها وتوجَّهت لغير خالِقها وحدى بالإبل غيرُ حادِيها ضاعَت عند ذلك، بل وأصبحَت الموازينُ بشريَّة، وصارت الغلبةُ للأقوى عدَّةً وعتاداً كما هو واقعُ اليوم.
والمتأمِّل في تاريخ هذه الأمَّة يجدُ أنَّ ميزانَ القوَّة ومعيارَه لم يكن أبداً هو بكثرة العدَد والقوَّة، بل لم يذكرِ التاريخ أنَّ المسلمين كانوا أكثرَ عدداً وعتاداً من غيرهم في أيِّ معركةٍ, انتصروا فيها إلا في حنين، ومع ذلك هُزِموا حين أعجتهم كثرتُهم ليذكِّرَهم الله - تعالى -بالميزان الذي يجِب أن يعدِل المسلمون به كفَّتهم ويقيسوا به أنفسَهم، ألا وهو الإيمان والتمسّك بهذا الدين، وإخلاصُ التوحيد لله - سبحانه -، وبذل الحياة له، أمَّا العدَّة والعتاد فيكفي بذلُ المستَطاع، ( وَأَعِدٌّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم ) [الأنفال: 60]، والله - تعالى -يكفيكُم، ( يَـا أَيٌّهَا النبي حَسبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤمِنِينَ ) [الأنفال: 64].
أمةَ الإسلام، إنَّ الله - تعالى -لا يغيِّر ما بقوم حتَّى يغيِّروا ما بأنفسهم، ولقد بقي بنو إسرائيل في التِّيه أربعين سنة، حتى اتَّصفوا بما استحقّوا به النصر ودخولَ الأرض المقدَّسة، أفما آن لهذه الأمة أن تخرجَ من تيهها، وهي الأمة المرحومة المنصورة؟! ألم يكفِها ما نزل بها من المصائبِ أن تراجعَ دينَ ربِّها؟!
أيّها المسلمون، إنَّ الرحمةَ والنصرَ لا يكون إلا إذا حُقّقت أسبابُه، والله - تعالى -خالقُ الأسباب وشارعها، وعالمٌ بالحوادث ومقدِّرها، فعودوا إلى الله ربِّكم، وصحّحوا إيمانَكم، وليتفقَّد كلُّ منَّا نفسَه وأهلَه ومَن حولَه، لنسير جميعاً كما أمرَنا الله، فإنَّ الجماعةَ لا تصلح إلا بصلاح أفرادها، ولا أقلّ من أن تكفيَ الأمةَ نفسَك، وعند تحقيق ذلك أبشِروا بنصر الله وثقوا بموعوده.
ألا وإنَّ من خلَل العقيدة الذي بُليت به طائفةٌ من الأمّة ضعفَ الثقة بالله - تعالى -وضعفَ اليقين، والتوكلَ على غير الله، والخوفَ مما سواه، والتمسّح بدعاوى جاهليّة، والانتساب إلى غير رابطة الإسلام، بل وصل الأمرُ ببعض المنهزمين إلى طلبِ إعادةِ النظر في الثوابت في مسائل شتَّى ناسين قولَ الله - تعالى -: ( وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإسلَـامِ دِينًا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الخَـاسِرِينَ ) [آل عمران: 85].
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، وأنيبوا إليه واستغفروه، وصحِّحوا سيرَكم إليه، وراجعوا دينَكم، وانهَلوا من معين الوحي الصافي، فإنَّ بين أيديكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلّوا أبداº كتاب الله وسنة رسوله.
فتفقّهوا في دين الله، والتزموا شِرعةَ الله، وسدّدوا وقاربوا، وأبشروا وأمِّلوا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ( ءامَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّـالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الذي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدّلَنَّهُم مّن بَعدِ خَوفِهِم أَمناً يعبدونني لاَ يُشرِكُونَ بِى شَيئاً ) [النور: 55].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله - تعالى -لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو أهلُ التقوى وأهل المغفرة.
----------------------------------------
[1] أخرجه مسلم في الحج (1218).
[2] أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة (3585) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، وقال: \"حديث غريب\"، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة. قال الألباني في الصحيحة (1503): \"وجملة القول أن الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم\".
[3] أخرجه الترمذي في الحج (902)، وهو أيضا عند أحمد (6/64، 75، 138)، وأبي داود في المناسك (1888)، وصححه ابن الجارود (457)، وابن خزيمة (2738)، والحاكم (1685)، وأورده الألباني في ضعيف أبي داود (410).
[4] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/10، 93)، وهناد في الزهد (817) بنحوه، وصححه الحاكم (207، 208).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي استأثرَ بالخلق والتدبير، له ملك السموات والأرض وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم البعث والنشور.
أما بعد: يقول الحق- تبارك وتعالى -عن ذاته العليَّة: (وَلَهُ مَا سَكَنَ في الليل وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) [الأنعام: 13]، ويقول - سبحانه -: ( وَهُوَ القَاهِرُ فَوقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) [الأنعام: 18]، ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيبِ لاَ يَعلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعلَمُ مَا في البَرّ وَالبَحرِ وَمَا تَسقُطُ مِن وَرَقَةٍ, إِلاَّ يَعلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ, في ظُلُمَـاتِ الأرضِ وَلاَ رَطبٍ, وَلاَ يَابِسٍ, إِلاَّ في كِتَـابٍ, مٌّبِينٍ, ) [الأنعام: 59]، ( أَلاَ لَهُ الخَلقُ وَالأمرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبٌّ العَـالَمِينَ ) [الأعراف: 54].
وكتابُ الله - تعالى -مليءٌ بالآيات التي تقرِّر هذا المعنى وتُظهر هذه الحقيقةَ الواجبة، وهي أنَّه لا يقع في هذا الكون حادثٌ صغير ولا كبير إلا بقدَر سابقٍ, سطَّره القلمُ في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض، مطابقاً لعلم العليم الحكيم - سبحانه - الذي لا يعزب عنه مثقالُ ذرة في السموات ولا في الأرض، فلا يكون شيءٌ إلا بمقتضى ذلك، علمَ العبدُ أو جهل، رضيَ أو غضب.
ومن هنا كان كمالُ توحيد المؤمنين، فأخبَتَت قلوبُهم لأحكام القضاء، وهان عليهم الصبرُ على البلاء والشكرُ على السراء، وفوَّضوا أمرَهم إلى الله، وسألوه المغفرةَ والرحمَة.
أيها المسلمون، إنَّه لا يخرُج عن سنَّة الله الكونيّة أمّة ولا حال، مهما تقادمت الدهور أو تأخَّرت العصور، مهما طغى من طغى أو علا في الأرض وعتا عن أمر الله من عتا، وما الحضاراتُ المتعاقبة إلا قرونٌ أو قرًى تجري عليها سنّة الله التي لا تبديلَ فيها ولا تحويل، وإنَّك لتعجبُ مِن غياب هذه المعاني وغفلةِ كثيرٍ, من المسلمين عنها، ممَّا أدّى بعضَهم إلى الخوف مِن غير الله واليأس من رحمته، يلاحقون ما يقوله المرجِفون، ويتابِعون بيَأس وإحبَاطٍ, ما يفعله الكافرون المُرهبون لعباد الله.
ألا وإن الواجبَ في مثل هذه المواقفِ حسنُ الظن بالله الذي يوافقُه عودةٌ إليه ومحاسبةُ النفس ودعاءٌ وتضرّع، والله - تعالى -أكرمُ وألطف وأرحمُ بخلقه ممّا يظنّون.
أيها المسلمون، إنَّ الله - تعالى -سميعٌ لمن ناداه، قريبٌ ممّن ناجاه، أمر عبادَه بالدعاء وتعهَّد بالإجابة، وأمرَهم بالتَّوكّل عليه ووعدَ بالكفاية، ولقد ابتُليت الرّسل كما ابتُلي أتباعُهم بأنواعٍ, من الشدائد إلا أنَّ فرجَ الله - تعالى -قريبٌ ورحمته تأتي من حيث لا يحتسب الناس، ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِهِ وَلَـكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعلَمُونَ ) [يوسف: 21].
وهذه الأمةُ ليست كغيرِها من الأمم، بل هي أمَّة مصطفاة مرحومة منصورة مهما نزل بها من المصائب وحلّ بها من الضعف والهوان، عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((إنَّ الله زوى ليَ الأرضَ فرأيتُ مشارقَها ومغاربَها)) إلى أن قال: ((وإنَّ ربِّي قال: يا محمد، إنّي إذا قضيتُ قضاءً فإنّه لا يردّ، وإني أعطيتُك لأمّتك أن لا أُهلكهم بسنةٍ, عامّة، وأن لا أسلّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضَتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ـ أو قال: من بين أقطارها ـ حتى يكون بعضُهم يهلك بعضاً ويسبي بعضُهم بعضاً)) رواه مسلم[1].
والمقصودُ أنَّ أمةً جمع الله لها هذه الخصالَ لا يجوز لها أن تيأسَ بحالٍ, من الأحوال، ولا يَظنٌّ أنها ماتت وقُضي أمرُها إلا من كان من الظانين بالله ظنَّ السوء، مع أنَّ تاريخَها متفاوت في مدّ وجزر، إلا أنّ المعلمَ الثابتَ في كلّ الأحوال هو حسنُ العاقبة وخيرُ المآل.
وعليكم بالدعاء فإنّه السلاح الذي لا يُهزَم والسهام التي لا تخطي، ادعُوا رَبَّكُم تَضَرٌّعًا وَخُفيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبٌّ المُعتَدِينَ وَلاَ تُفسِدُوا فِى الأرضِ بَعدَ إِصلَـاحِهَا وَادعُوهُ خَوفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ المُحسِنِينَ [الأعراف: 55، 56]. والتعلقُ بالله والطمأنينة به من حقيقة التوحيد.
اللهم أعزّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداءَ الدين...
----------------------------------------
[1] أخرجه مسلم في الفتن (2889).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد