المسلم بعد الحج


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

سلف لنا حديثُ في الجمعة الماضية عن ما بعد الحج على مستوى الأمة، ذكرنا فيه ما ينبغي أن يكون قد أثّر في الأمة من المحبة والأخوة، وما فاض فيها من الشفقة والرحمة، وما دفعت إليه من الخدمة والإعانة، وما شاع بينها أو قام بينها من التعاون والإصلاح، ذلك أن تلك الفريضة العظيمة لها الأثر التغيري الجذري القوي، ونحن اليوم نقف مع ذلك على مستوى الفرد المؤمن الذي أدرك هذه الفريضة، أو الذي عايش إدراك المسلمين لها.

 

لننظر أيضاً إلى الجوانب المؤثرة المغيّرة ذات الأثر الكبير، والتغيّر الظاهر في حياة الفرد الذي يستحضر معاني العبادة، ويؤديها بكمال أركانها وسننها وواجباتها، ويخلص إلى لبّها وجوهرها وروحها، وينفعل بآثارها ويستفيد بما تفيض عليه في قلبه ونفسه وجوارحه من الآثار الحميدة.

ننظر إلى الفرد في الجوانب الرئيسية المهمة التي تسوغ حياته، وتشكّل فكره، وتحدد ملامح سلوكه، وتبين معالم فكره لما يكون فيه خيره في دنياه ونجاته بإذن الله - عز وجل - في أخراه.

 

أولاَ: الإيمان المتحرك:

إن الحج في حقيقته هو تجديد وتأكيد وتجسيد لحقيقة الإيمان في قلوب أصحابه، وإنه في حقيقة الأمر زيادةٌ ورفعٌ وتعميقٌ لهذا الإيمان في نفس وقلب المؤمن.

إن قضية الإيمان ينبغي أن يظهر أعظم تأثيرٍ, لها في الواقع العملي المتحرك، إنه ليس الإيمان النظري الذي يقرر المسائل، ويسرد الأدلة، ويتلفظ بالشهادتين دون أن يكون ذلك له حظه القوي في أعماق نفسه وأغوار قلبه، ثم ذلك في جوارحه وحركاته وسكناته وألفاظه وسكتاتهº لأن الإيمان هو الصياغة الكاملة الجديدة الجذرية لحياة الإنسان المسلم، حتى تكون موافقةَ لأمر الله - سبحانه وتعالى - في دقائق الأمور وكبارها.

هذا الحج يحرّك في نفس الإنسان المؤمن إيمان الطاعة والإستجابة: {يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون}.

 

إن أهم دلائل الإيمان، وأعظم آثاره، وأظهر وأبرز معالمه هو تلك الاستجابة الدائمة التي لا تتخلف في عسرٍ, ولا يسرٍ, ولا منشطٍ, ولا مكرهº لأن الإيمان الحق هو الذي يدفع صاحبه إلى أن يخضع ويستجيب ويطيع لله - سبحانه وتعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءِ فردوه إلى الله و الرسول}.

هذا المعنى يتجسد جلياً في الحجº لأنه ما جاء الحاج وترك أهله ودياره، ولا جاء إلى هذه البقاع المقدسة، ولا يقوم بهذه المناسك المختلفة المتنوعة إلا استجابةً لله - عز وجل - وطاعةً لأمره، واقتداءً برسوله - صلى الله عليه وسلم -.

 

إن أهم حقائق الإيمان هو أيضاً: التقديم والتسليمº إيمان التقديم لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - والتسليم لحكم الله - سبحانه وتعالى -، وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - دون حرجٍ, في الصدر، ودون منازعةٍ, في النفس، ودون مغالبةٍ, لرأي العقل، ودون أن يكون هناك ذاك التلكؤ أو الإبطاء في إنفاذ الأمر الرباني والهدي النبوي، والله - جل وعلا - يقول: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}.

فلا إيمان كامل إذا لم يكن هناك تسليمٌ مطلقٌ، ورضاءٌ تام، وقبولُ عام لكل ما يأتينا عن الله، وعن رسوله، فهل تحقق ذلك في الحج عندما غالب المرء أهوائه، وعارض شهواته، وأقلق راحته، وبذل ماله؟، كل ذلك وهو بنفسٍ, راضيةٍ,، بل بمحبة ورغبةٍ, صادقةٍ,º ليدلل على أن حقيقة الإيمان هي ذلك التسليم المطلق، والتقديم الدائم لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله}..لا تقديم ولا فكر ولا حكم ولا رأي إذا وجد الأمر في آيات القرآن أو الهدي في سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -..{وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ, إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمره}.

 

فهل نرى للناس في الحج اختياراً أم إنهم كلهم على نسقٍ, واحدٍ, يتابعون ويوافقون ويحرصون على دقةٍ, في الاستجابة، وعلى مسارعةِ في الطاعة رغم ما يكون فيها من عناءِ ومشقة، إلا أن النفوس بها راضية، والقلوب بها متعلقة، بل عليها مقبلة، وذلك هو حقيقة التأثير النفسي القلبي للإيمان عند الإنسان المؤمن، عندما تخلص العبادات لتأسس أو لتعمق وتزيد إيمانه التصديقي النظري التي قامت عليه الأدلة لتجعله مشاعر في النفس، وخفقاتِ في القلب، ثم لتظهره سلوكاً في واقع الحياة.

وإيمان المتابعة والإقتداء الدقيق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هنا يرمي سبعاً في يومٍ, واحدٍ,، وبعد ذلك يرمي ثلاثاً في أيامِ متتابعة، وهنا يطوف كذا، وهنا يذهب في ذلك اليوم إلى مكان وهنا كذا وهنا كذا لما ذلك؟.

(خذوا عني مناسككم).. كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر وذكر الله كثيراً}.. {من يطع الرسول فقد أطاع الله}.. {يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}.. {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}...

 

هكذا هذه الحقائق من دلائل الإيمان وآثاره، تتجسد لمن تدبر وتفكر في نفس الإنسان المؤمن، وفي قلبه وفي عمله وسلوكه، كأنما هي تربيةٌ وتذكيرٌ وتعميقٌ لحقيقة الإيمان المتحرك في النفس.

إن الإيمان في الحج يظهر جلياً خالصاً لله - سبحانه وتعالى - إيمان بلا شرك.. (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك).

ويقين بلا شك، لأنه يكون حينئذِ متابعاً وموافقاً لأبي المسلمين والمؤمنين إبراهيم الخليل - عليه السلام - لذي استيقن بالرؤيا، رآها أنه حق ووحي من الله فمضى في إنفاذها من غير ترددٍ, ولا شكٍ, ولا تأخرٍ, ولا تلكؤٍ,º لأن قضية الإيمان هي هذه القضية اليقينية التي تستولي على القلب والنفس، والفكر والجوارح فتنقاد لها باختيارِ دون أن تكون هناك منازعةٌ أو مغالبة: {يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إن كذلك نجزي المحسنين}.

 

هكذا يكون الإيمان في الحج، إيمانٌ يغلب الشهوات التي تقعد الإنسان عن الطاعات.. مشاغلُ بالأهل والأبناء، وعوارضُ بالصفق بالأسواق وأمور تميل إليها النفوس، وتهفوا إليها القلوب، تشد الناس وتقعدهم عن طاعة الله، فإذا وجد الإيمان الغالب القاهر لهذه كلها، فمعناه أنه الإيمان الصادق المستولي على القلب والنفس: {قل إن كان آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالُ اقترفتموها وتجارةُ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادِ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره}.

 

إن كانت هذه كلها تكون عندكم أقرب وأنفق وأعظم وأكثر أهميةَ من أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - فذلك دليلٌ على أن استيلائها على قلوبكم، وتمكنها من نفوسكم قد بلغ مبلغاً ينافس الإيمان، بل قد يغالبه ويصارعه.. {يا أيها الذين أمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}.

والحج مدرسةٌ يخلف فيها الإنسان أهله، ويترك دياره، ويبذل ماله، ويرهق جسمه كل ذلك لله - سبحانه وتعالى -، فكأنه يعلن أن عنده من الإيمان قوةً تدحر ذلك كله، وهو أيضاً إيمانُ يدحر الشيطان.. (ما رؤي الشيطان أدحر ولا أحقر أصغر منه في يوم عرفة لما يرى من رحمة الله - عز وجل - بعباده).

تأمل كيف يكون هذا الإيمان هو الذي يدحر الشيطان بأي شيء؟ بالتعبد الكامل، والانسياق والانقياد التام لله - سبحانه وتعالى -.

 

إنها معركةُ يرجم فيها الإنسان حصياتِ، يستحضر فيها إيمانه، ويستعين بربه لينبذ شيطانه ويرجمه، لئلا يعارضه عن أمر ربه في استحضارٍ, لقصة الخليل إبراهيم - عليه السلام - لئلا يجعل للشيطان منفذاً يضعف فيه طريقه ومضيه إلى مرضاة الله بشيءِ من خوفِ في القلب، أو بشيءِ من ميلِ في النفس، أو بشيءِ من تفكيرِ في العقل أو نحو ذلك، وهكذا نرى أن الحاج ينبغي في حقيقة الأمر أن يخرج من حجه بإيمانٍ, متحرك متألق متدفقٍ, يغوص ويكون في أعماق قلبه، ويحرّك كل مشاعره وتفاعله في هذه الحياة.

 

وأمرُ ثانٍ, وهو: التعبد المتعمق:

فإن الإيمان زاده هو العبادة والحج عبادةُ شاملةُ عظيمةُ فيها قلب خاشع وطرفُ دامعُ ولسان ذاكرُ وجسدُ شاكرُ ويدُ باذله وجبهةُ ساجدة.. فيه قصد وتوجه وتحرك يسبقه تشوقُ وتعلق ويعقبه لذة وسعادة.

إن الحجيج الذين وفدوا إلى هذه الديار المقدسة قد طاف القدوم إليها بخواطرهم، وداعب مشاعرهم، ودخل إلى شغاف قلوبهم سنواتٍ, طوال وهم يفكرون ويأملون، وتتشوق نفوسهم، وتتوق قلوبهم ثم حينئذٍ, تتحرك هذه المشاعر بعد بذلٍ, مادي، وجهدٍ, واستعداد عملي تتحرك بكليتها لطاعة الله - سبحانه وتعالى - ثم تعاني وتتعب، وتتحمل المشقة فمع ذلك تجد في نفسها سكينةً، وفي قلوبها طمأنينةً، وفي أرواحها لذةً، وتجد عند أولئك القوم الذين جاءوا من كل فجاج الأرض والبقاع البعيدة، متحملين العناء والمشقة العظيمة، تجد كل واحدٍ, منهم وقد ارتسم على شفتيه ابتسامةُ عريضةٌ، وقد رقص قلبه فرحاً، ويكاد يطير من سعادته لماذا؟..

لأنها لذة الطاعة وحلاوة المناجاة، وسعادة العيش في مرضاة الله - سبحانه وتعالى - تلك التي لا يعادلها شيء، ولا يساويها شيءٌ من لذائذ الحياة ومن متعهاº لأنها تفيض على النفوس والقلوبº ولأنها هي اللذة الحقيقية التي أخبر سلف الأمة - رضوان الله عليهم - فقال أحدهم: \" لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه - أي من لذة الطاعة وحلاوة المناجاة - ثم لم يجدوا إلا أن يجالدون عليه بالسيوف لفعلوا \".

وكما قال الأخر: \" مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا ألذ ما فيها وهي لذة الطاعة والعبادة \".

إن الحج هو العبادة التي تستعمل فيها الجوارح كلها، فاللسان لا يفتر ما بين تلبيةٍ, وتكبيرٍ,، والأيدي والأموال تنفق ما بين نفقةِ في الحج، وما بين هدي وأضحيةِ، وما بين صدقةِ وغير ذلك، وإذا بنا نجد الحج كأنما يجمع كثيراً من العباداتº صلوات ودعوات.. صدقات وأضحيات.. تلبية وتكبير.. طواف وسعي.. حلق ورمي.. كل ذلك في صياغة العبادة.

فالصلاة في الحج، والصيام أيضاً لمن أراد أن يصوم، أو لمن أراد أن يفتدي بالهدي، ولمن لم يحجº فإنه يصوم سنةً تقرباً لله - سبحانه وتعالى -، والمال يبذل، فهي عبادةُ كما قالوا: \" وماليةٌ بدنيةٌ وقتيةٌ \".. يبذل فيها من ماله، ومن جهده، ومن وقته، وهي أطول العبادات المفردة، إذ تكون في هذا الوقت كاملةً مشتملةً على جميع أنواع هذه العبادات، وذلك ليخرج العبد المؤمن والحاج المسلم من هذا الحج وهو يدرك أهمية العبادة، ويعرف أثرها تتشوق إليها نفسه، وتسعى إليها أقدامه، ويسخر لأجلها ماله ليجد بعد ذلك برد اليقين، وحلاوة الطاعة في نفسه وما أعظم ذلك عندما كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يقول: (جعلت قرة عيني في الصلاة). أي منتهى السعادة وغاية اللذة في هذه العبادة، وعندما كان ينادي بلالاً فيقول: (أرحنا بها يا بلال، أرحنا بها يا بلال). أي بهذه الصلاة، وعندما يخاطبنا الحق - سبحانه وتعالى - ويعلّمنا أن العبادة زادٌ نتزود به في هذه الحياة: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة}.

ويبين الله - جل وعلا - في الحج أنه المصدر العظيم من مصادر التزود بالتقوى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}.

 

وثالث الأمور المهمة وهو: الخلق المتميز:

الذي ينبغي أن يخرج به الحاج إذ ضبط في هذه الفريضة وتلك الشعيرة بضوابطº لتهذيب خلقه، وتقويم سلوكه، وتغير طبعه، وتهذيب نفسه، بما لعله يخرج منه إن فقه العبادة حق فقهها، وإن أداها على وجهها، أن يخرج بخلقٍ, يتابع فيه ما اشتهر، وما عظم ما مدح به رسول الله صلى الله علي وسلم - في قول الله - جل وعلا -: {وإنك لعلى خلقِ عظيم}.

إن الصدق مع الله - عز وجل - هو أحد الملامح والشعارات الظاهرة في الحج الذي يصدق فيه المرء مع ربه - سبحانه وتعالى - ويصدق في حاله، ويصدق في مقاله، ويصدق في أعماله، فيخرجه ذلك مسلماً صادقاً مع الله، وينعكس ذلك بأن يكون صادقاً مع الناس، وأن يكون كما أمر الله - جل وعلا -: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}.

 

الانضباط والدقة في المواعيد والأوقات خلقُ يعلمنا عليه الحج في أمرٍ, واضحٍ, جليٍ, كثيراً ما يفقده ولا يلتفت إليه الحجاج.

ألا ترى أن تدفع من منى إلى عرفات في وقتِ معين، وأنك تنتظر الخروج من عرفات حتى تغرب الشمس، فلا تخرج منها قبل ذلك ولو بدقيقةٍ, أو ثانية.. ألا ترى أن الرمي منضبط بالزوال، ألا ترى الدقة في أن يكون هنا سبعٌ، وأن توضع في موضعِ معين، ألا ترى كثيراً من الأمور التي تعلمنا كيف نزن الأمور، وكيف نكون فيها دقيقين فينبغي أن تكون حينئذِ مواعيدنا مضبوطة، وأوقاتنا مستغلة وأن نجعل سائر أيامنا بليلها ونهارها منضبطة انضباطاً دقيقاً متعلق بالعبادات، وهذه مزيةٌ للإسلام في فرائضه ومشاعره، فالصلاة المقسمة على الأوقات الخمسة في اليوم هي عامل من عوامل الضبط والدقة ومراعاة الأوقات واختلافها في اليوم الواحد، والنظر والتأمل في عظمة خلق الله - عز وجل - من قبل طلوع الشمس، وعند زوالها، أو قرب تضيفها للغروب وبعد غروبها، وبعد انتهاء الغروب وزوال الشفق حتى يكون المرء متعلقاً في كل الأوقات بطاعة الله - سبحانه وتعالى -.

 

فلا ينبغي أن يكون التأخير الذي نراه بين الناس في مواعيدهم، والتأجيل لأعمالهم، لا يصلح أن يؤجل الإنسان يوم عرفة عن التاسع إلى العاشر، أو يقول لعلي اليوم لم افرغ أو لعل اليوم بعض العناء والزحام فأؤجل! لأنه التعليم والتعويد على أن يؤدى العمل في وقته، وأن تنجز المهمة في أوانهاº حتى لا يكون هناك ما نراه في حال الأمة وفي كثيرٍ, من مجتمعاتها حتى غدا ذلك سمةً للمسلمين تغلب عليهم فيقال لك: \" مواعيد المسلمين غير منضبطة، ومهماتهم غير منجزة، ولماذا العجلة يا ذا العمل يمكن أن يؤدى غداً، وهذه المهمة تؤجل للأسبوع الذي بعده، وإذا جاء المراجع يقال له في وقت كذا وكذا \".

والعمل والحج يعلمنا أنه لا بد أن يؤدى كل عملِ في وقته، وأن ينضبط إنضباطاً دقيقاً، فينبغي أن نخرج بمثل هذا السلوك.

 

ودرس رابع وهو: خلق الزهد والتخفف من الدنيا:

درسُ عظيمُ في الحج، ينبغي أن يخرج الحاج وقد خلصت من نفسه تلك الآثار التي عمقّت بصمات الدنيا في قلبه ونفسه، فلم يعد تعلقٌ إلا بها، ولا تفكير إلا فيها، ولا سعيٌ إلا لها، ولا بذلٌ إلا لأجلها، فإذا ذهب إلى الحج، ورأى وعاش الحياة الخفيفة السريعة التي يتغير فيها كثيرٌ من أمور الحياة المادية لماذا؟.. قال: \" لأنها فترةٌ عابرة، ومدةٌ قصيرة، ووراء ذلك ارتحال وعودٌ إلى المضارب الأولى، وإلى المواطن الأصلية، فكأن ذلك يبين له حقيقة الدنيا ويعرفه بها، كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).. (ما لي ولدنيا إنما أنا كرجلٍ, نام تحت ظل شجرةٍ, ثم قام وتركها). هكذا يعبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.

 

ودرس خامس وهو: الكرم والجود:

خلقُ نراه في الحج فيما ينفق من الأضحيات، وما يقدم من الهدي، وما يتسابق الناس إليه من الصدقات، وذلك أيضاً حتى يرتبط الإنسان بأن هذا الموسم موسم كرمٍ, وجودٍ, إلهي على العباد، ينبغي أن ينعكس كرمه وجوده على غيره من إخوانه، وعلى الناس من حوله.

وكذا نرى الخلق في الجد والاجتهاد، والبذل والعمل، وترك التواني والكسلº فإن الحج ليس فيه تراخٍ, بل هو عملٌ متواصلٌ في طاعة الله - عز وجل - ما بين أن يسعى وما بين أن يطوف، وما بين أن يرمي، وما بين أن يذهب إلى منى أو هرع من عرفات، أو يبيت في مزدلفة حتى تكون حياتنا جداً وعملاً.. {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله}.

ينبغي أن نتعود على ذلكº لأن كثيراً من أبناء الأمة قد استرخى استرخاءً عظيماً، وكسل كسلاً فظيعاً حتى صار الناس لا ينجزون الأعمال ولا يتحركون لها، وهذه أخلاقٌ ينبغي أن نكتسبها من الحج ومنها التواضع والإخبات لله - عز وجل -، والتواضع لخلقه، هذا الذي ينبغي أن يشيع بين المسلمين فكأنما الحج كما قلنا: \" صياغةٌ تحرّك الإيمان وتظهر العبادة وتخرج السلوك إلى الواقع \".

 

الخطبة الثانية:

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

ولعلنا - ونحن نستكمل صيغة الحاج بعد حجه - أن نضيف إلى ذلك الفكر المتألقº لأن الحج يجعل الفرد جزءاً من الأمة في صورةٍ, عمليةٍ, فلا يفكر في نفسه وحده، ولا يظن أنه شيءٌ قائمٌ بذاته، بل هو جزء من الأمة، وفرد من المسلمين يجعله ذلك ينظر إلى حقيقته بهذه الصورة فيعرف ما ينبغي عليه.

ينظر إلى الأمة التي يراها من حوله في الحج فيدرك أنها أمةٌ متميزةٌ، وأنها ذات رسالةٍ, خالدة، وأيضاً يزيدنا هذا أمراً مهماً وهو أنه إذا كان قد استوعب وفقه وتفاعل، يحمل هموم الأمة يرى مشكلاتها يرى جهل الجاهلين، ويرى ضعف الضعفاء وفقر الفقراء، ويرى اختلافاً بين المسلمين، ويرى كثيراً من صور الضعف هنا وهناك، ويرى أيضاً من الإيجابيات كثرة هذه الأمة، واختلاف أصقاعها، واختلاف ثقافات أبناءهم ولغاتهم وديارهم، فيرى أن عنده من أسباب القوة لو تلافت المشكلات وتجاوزت المعضلات أنه ستعود إلى قيادة الأمم وإلى نهضتها.

وينبغي أن ننعكس من الحج أن لا يكون عنده سذاجة بل قيادة، وأن لا يكون عنده طيش وخفة، بل عقل وحكمة وأن لا يكون عنده نزوةٌ وشهوة بل قوة وقدوة.

ينبغي أن يدرك أهمية معرفة الواقع للأمة، وأن يعرف المستجدات التي تجد فيها، وأن يدرك المخططات التي تعد لها، وأن ينظر إلى سعي العداء في مقاومتها. كل ذلك يتجسد بصورةٍ, قويةٍ, في الحج لمن تأمله وتدبر ما فيه، فيخرج الحاج وهو فردٌ لكنه يخرج بصياغة أمة.. يخرج وفي عقله همّ الأمة.. يخرج وفي قلبه أمنيات الأمة.. يخرج وفي أعصابه وفي قواه دأبٌ لكي يعمل شيئاً ينفع به أمته، ويعلي به رايتها، ويحقق به رسالتها.

 

إن هذه الصياغة صياغة مهمة إن رجع الحاج مرةً أخرى فنكفئ على نفسه لا يفكر إلا في طعامه وشرابه، ولا يدبر إلا أمر زوجته وأبناءه، ولا يعطي شيئاً من فضول أوقاته ولا جهده ولا أمواله لأمة الإسلام، لا يتفاعل مع مشكلاتهم، ولا يرى معاناتهم، ولا يتأمل في أحوالهم، ولا يشارك في مآسيهم. فأي مسلمِ هذا الذي انسلخ عن أمته وعاش في دائريته وانحصر في أنانيته، وانكفئ على ذاتيته، إنه ليس المسلم الذي تحدثنا عنه فيما أخبر به النبي - عليه الصلاة والسلام -: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا).. (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد).

أين هذه المعاني؟ إذا لم يكن هذا الذي يخرج به أن يكون معه، وإن كان مرتاحاً شيء من القلق على المسلمين، وأن يكون عنده شيءُ من الحزن على أحوالهم، وإن كان هو في أمنِ وأمان، وأن يكون مشاركاً لهم ولو بمشاعره ودعواته، وإن كان هو في سلامةٍ, وإسلام أن يكون عنده تلك المشاركة التي كانت مع أسلافنا، ومع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كان كل واحدِ منهم يشعر أنه المسؤول الوحيد عن الأمة كما قال أبو بكرِ في يوم الردة: \" والله لو منعوني عقال بعيرِ كانوا يؤدونه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه ولو كنت وحدي، أينتقض الدين وأنا حي \". ويوم قال عمر - رضي الله عنه -: \" لو عثرة بغلةٌ في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها \".

روح المسؤولية والتضامن مع الأمة، روح ينبغي أن يخرج بها الحاج من حجه وفكرٌ ينبغي أن يخرج به الحاج من حجه حتى يكون هناك ذلك التأثر، وأن يكون هناك ذلك الهم والعبء:

كلا رويدك يا طبيب **** وقد سألت أم استراح

هل يستريح الحر يوقر **** صدره العبء الرزاح

إنما يطمأن ويضحك ويسترخي ذلك الذي لم يحمل هم الأمة ولم يشعر أنه جزء منها.

 

وأخيراَ ينعكس ذلك كله بإيمان المرء وعبادته وخلقه وفكره أن يتحول ذلك منصهراً في العمل المتدفق الذي يخرج إلى حيز الوجود بذلاً في كل مصالح الأمة، وسعياً إلى خيرها ومسابقةً إلى البر والإحسان، ومواكبةً ومرابطةً على ثغور الإسلام لئلا ينفذ إلى الإسلام شيءٌ يضره من قِبَله، ولو في نفسه ولو في أسرته أن يكون دائماً على روح الأهبة والاستعداد كما قال الله - عز وجل -: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله}.. {اعملوا على مكانتكم إني عامل}.

وأن يستحضر عمل الأعداء الذين يتواصون: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيءُ يراد}.

 

لا بد أن يكون الهمٌّ المؤثر ينتج عملاً مغيراً، ولا بد أن يعيش الإنسان ومعه هذا الهمّ بين عينيه والعمل الدائم في وقته، وفي حياته وأن يستشعر ما كان في نفوس الصحابة - رضوان الله عليهم - الذين أرادوا البذل والتضحية، والعمل لأجل الله - عز وجل - وفي سبيله، ثم لنصرة هذه الأمة وإعلان رايتها.

يوم جاء النفر البكاءون من صحابة النبي - عليه الصلاة والسلام - في يوم غزوة تبوك يريدون من النبي - وهم أهل فقرِ لا شيء عندهم - أن يحملهم، وأن يهيأ لهم الدواب التي يركبونها ليخرجوا مع الجيش المجاهد في سبيل الله - عز وجل -فيعتذر لهم النبي - عليه الصلاة والسلام - بأنه لا يجد ما يحملهم عليه فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألماً على أن لم تتح لهم فرصة العمل والبذل والجهاد لخدمة ونصرة الأمة.. {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون}.

أولئك الذين تحرقوا شوقاً للعمل لنصرة هذا الدين.. الذين كان في نفوسهم هذا الإيمان المتحرك، وكان في حياتهم تلك العبادة المؤثرة، وكان في سلوكهم ذلك الخلق المعبر إن عكس ذلك كله لكي يبذلوا في سبيل الله - غز وجل -.

(والحج جهاد من لا شوكة لها). كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -.

 

والحج ضرب من الجهاد والتضحية والبذل لوجه الله - عز وجل - يعود الإنسان علة أن يبذل، وأن يضحي في سبيل الله، وفي سبيل نصرة دين الله - سبحانه وتعالى -، كان النبي - عليه الصلاة والسلام - مضرب مثل في ذلك حتى في أموره المعتاد، كان إذا خطب كأنه منذر شيء يقول: \" صبحكم ومساكم \" من شدة اهتمامه خاطبه الله - عز وجل - فقال: {فلعلك باخعُ نفسك على أثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}.

أي لعلك يا محمد سوف تهلك نفسك، وأنت تتبع أثار القوم وتدعوهم وتنصحهم كأن الله العزيز يقول له: لِمَ تتعب نفسك.

والنبي - عليه السلام - يبذل ويبذل ويعمل ويدعو في كل الأوقات والأحوال حتى أخر لحظة من لحظات حياته كما أمر بقوله - جل وعلا -: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}.

ونحن أمة العمل التي ينبغي أن لا تركن إلى الكسل.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply