بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
ما دمنا في رحاب الصلاة وما يتعلق بها، فقد أحببت أن أتحدّث إليكم اليوم عن صلاة لنا فيها حاجة عظيمة ومنفعة جسيمة، ولها فوائد وثمار غزيرة في الدين والدنيا، وحسبها أنها رمز للتوحيد، وحرب على الشرك والشعوذة، إنها صلاة الاستخارة.
فما معنى الاستخارة؟ ولماذا شرعت؟ وما كيفيتها وأحكامها وأخطاء الناس فيها؟ ثم ما فوائدها وثمارها؟
اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الإنسان مهما نضج عقله فإنه ضعيف الفكر، قاصر النظر، لا يعلم الغيب، بل الغيب من خصوصيات علم الله - تعالى -، \"قُل لاَّ يَعلَمُ مَن فِي السَّمَـاواتِ والأرضِ الغَيبَ إِلاَّ اللَّهُ\" [النمل: 65]، وقد يُطلع بعض رسله من الملائكة والبشر على بعض الغيب لحكمة ومصلحة يعلمها - سبحانه -، \"عَـالِمُ الغَيبِ فَلاَ يُظهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتَضَى مِن رَّسُولٍ,\" [الجن: 26، 27].
والعبد إن رأى بعضَ ما يحيط به وعرفه فإنه لا يعرف ما ينفعه ويضره في الحقيقة، وقد يرى الخير فتكون عاقبة أمره سوءًا وشراً، وربما كان العكس كذلك، \"وَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَّكُم وَعَسَى أَن تُحِبٌّوا شَيئًا وَهُوَ شَرُّ لَّكُم وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لاَ تَعلَمُونَ\" [البقرة: 216].
رُبّ أمـرٍ, تتَّـقيـه ** جرّ أمراً ترتضيه
خفي المحبوب منه ** وبدا المكروه فيه
وخذ مثلاً قصة موسى - عليه السلام - مع الخضر، كيف كان في خرقه السفينة نجاتُه وسلامتها، وكيف أنَّ قتل الولد كانت فيه نجاته ونجاة والديه من النار، وتجارب كلِّ واحد منا خير شاهد على ما نقول.
ولكن للأسف الشديد، فإن الناس لقصورهم عن معرفة الغيب وإدراك الخير من الشر، يلجؤون بجهل أو بعلم إلى أساليب يزعمون أنها تنبِّئهم بالغيب، وتوفقهم إلى الخير والصواب.
فمنهم من يلجأ إلى العراف وهو الذي يدّعي معرفة الغيب، وقد يطلق اسم العراف على الكاهن والمنجّم والرمّال، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) [رواه مسلم]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -)) [أخرجه أبو داود عن أبي هريرة].
ومنهم من يلجأ إلى المنجّمين الذين يدَّعون علم أحوال النجوم وطبقاتها وسيرها، قال – صلى الله عليه وسلم -: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد)).
ومن الناس من يلقي النرد أو يطلق الطير، فإن طارت يمينا استبشروا خيراً وفعلوا ذلك الأمر، وإذا طارت شمالاً تشاءموا وتركوه، ورسولنا – صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا عدوى ولا طيرة))، ((الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك))، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((من ردّته الطيرة عن حاجته فقد أشرك))، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال – صلى الله عليه وسلم -: ((أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك)) [رواه أحمد].
ومن الناس من يقرأ الكفّ، ومنهم من يقرأ الفنجان...الخ.
\"وَرَبٌّكَ يَخلُقُ مَا يَشَاء وَيَختَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ\" [القصص: 68].
فالحمد الذي شرع لنا صلاة الاستخارة، ونزّه عقولنا عن كل هذه الترهات والسفاهات والشعوذات والشركيات، وربط قلوبَنا بربّ الأرض والسموات، العليم بمواطن الشر ومواطن الخيرات.
فالمؤمن إذا ألمّ به أمر، ولم يتبين له وجه الخير فيه، التجأ إلى ركن شديد وحصن مكين، فيرشد ويهتدي، ولعمرو الله، كم جرّبنا هذه الاستخارة فوجدنا فيها الخير الذي قد لا يدركه العقل، وهدينا بفضل الله - تعالى -إلى خير الأمور، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
والاستخارة طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما.
روى الجماعة إلا مسلماً عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: ((إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال: عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال: في عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني)) قال: ويسمي حاجته.
في الأمور كلها حتى في شسع نعله، فربّ أمر تستخفه يكون في الإقدام عليه ضرر كبير، وفي تركه شر مستطير، وفواته خير كبير.
((إذا همّ)): أي عزم العزم المقارن للعمل.
((فليركع ركعتين من غير الفريضة)) راتبة كانت أو سنة وضوء أو تحية مسجد أو نفلاً مطلقا.
((ثم ليقل)) قال شيخ الإسلام: أي قبل السلام وبعد التشهد، لكن الأظهر قول من قال من العلماء: بعد السلامº لأن (ثم) تفيد الترتيب مع التراخي، (... وثم للترتيب بانفصال).
ولكن الإشكال الذي يرد على أكثر الناس: كيف أعرفُ ما اختاره لي ربي؟ والجواب عن هذا السؤال إن شاء الله بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
بعد قراءة دعاء الاستخارة من حفظه أو من ورقة بصدق وإخلاص، فهل يرسل الله إليه رسولاً؟ فإن الرسالات قد ختمت. هل يوحي إليه؟ الوحي قد انقطع. هل يرى رؤيا؟ لا دليل على ذلك، ثم إن الرؤيا ثلاث: حديث نفس وتخويف من الشيطان وبشرى من الله. هل يفتح المصحف، فإن وقع على آية رحمة سعى في شأنه، وإن وقع على آية عذاب أعرض عن الأمر كما يزعم بعضهم؟!
قال العزّ بن عبد السلام: يفعل ما اتفق.
فيمضي في الأمر، فإن تيسر له وسهل فهو مختار له، وإلا صرف عنه إلى غيره والله أعلم.
وأما ثمار الاستخارة فتحقيق التوحيد، ونبذ الشرك والخرافة.
وهي عبادة في نفسها، فهي صلاة ودعاء، والنبي – صلى الله عليه وسلم - يقول: ((واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة))، وقال: ((الدعاء هو العبادة)).
ومن ثمارها أيضا الإقرار بأسماء الله وصفاته ودعاؤه بها من علم وقدرة وفضل عظيم...
والاستخارة سبيل التوكل وتفويض الأمر إلى الله.
وفيها راحة النفس وحصول السعادة، وغيرها من الفوائد، ومن جرب عرف.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد