بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد: أيها المؤمنون، يقول الحق - سبحانه -: \"إِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبٌّكُم فَاعبُدُونِ \" [الأنبياء: 92]، ويقول الحق - سبحانه -: \" وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلبِ لاَنفَضٌّوا مِن حَولِكَ \" [آل عمران: 159].
إن من مقاصد هذه الآيات ـ أيها المؤمنون ـ أن تكون أمة لا الله إلا الله كمثل الجسد الواحد، أمة أصولها المحبة والأخوة والترابط والاعتصام.
إن من عظمة هذا الدين أن جمع بين الأعداء كما هو الحال في أول الإسلامº حيث كانت القبائل آنذاك تتقاتل وتقوم بينها الحروب والملاحم على أتفه الأسباب، فجاء الإسلام بأخوة الدين، وجعل الفرقة والدعوة للتحزب من الجاهلية.
وقال للذي عيّر رجلاً بأمه: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)).
وقال - تعالى -: وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلٌّ حِزبٍ, بِمَا لَدَيهِم فَرِحُونَ [الروم: 31-32].
وإن أصغر طالب في الابتدائي يعلم نظرية الأعداء: \"فرق تسد\"، وعدو الإسلام اليوم ـ أيها المؤمنون ـ ينخر جسد الأمة بشتى وسائل الكيد والمكر، ويجنّد شباب الأمة تحت كل دعوة ضالة بدون ما يشعرونº حيث يعمل بعض بني جلدتنا ممن يتكلمون بكلامنا ويعتقدون عقيدتنا، وقد انحرف بهم التيار، فصار مثلهم، كمثل الضفدعة، يقذفها السيل للهاوية وهي تزغد.
لقد نبتت في أبناء الأمة دعوات فاسدة، تزرع في الشباب الحقد والضغينة وكره المسلمين، وأصبح التنابز بالألقاب والمسميات والطعن في الناس، بل الطعن في دعاة الإسلام وأولياء الأمة أصبح رمزًا للتدين واتباع السلف، ونعوذ بالله من الكذب على صالحي سلف الأمة الذين فهموا الخلاف وأدب الخلاف، وما سمعنا ولا قرأنا في تاريخ أمتنا المجيدة عالمًا يفسّق غيره، أو يدعو لتفريق كلمة الأمة، بمسميات هي في الحقيقة كعنقاء مغرب، فترى الشاب الطريّ الغصن الفارغ من علم الشرع الفاشل في حرفة أو صناعة أو وظيفة يقعد ويُؤصِّل ويصنّف ويجرّح ويعدّل، ويقول في العمالقة من جهابذة الدنيا والإسلام قولاً عظيمًا وإفكًا مبينًا، ولعلك تلتمس عذرًا لهذا الجاهل المغرور، لكن الداهية الدهياء ممن ينتسبون للعلم والدعوة للإسلام زورًا وكذبًا، ينشرون الأشرطة والرسائل والكتب باسم الإسلام والدين والسلفية، يسلخون علماء الأمة وعبادها وأوليائها، يسلخونهم من كل وصف حسن مليح، على مسمياتهم الكاسدة الفاسدة.
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه *** فالناس أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها *** حسدًا وزورًا: إنه لدميم
أيها المؤمنون، اختلفت اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد فتفرقوا، فلما بعث محمد أنزل عليه: \"إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا لَّستَ مِنهُم فِي شَيء \" [الأنعام: 159].
قالت أم سلمة: ليتقينّ امرؤ أن لا يكون من رسول الله في شيء، ثم قرأت هذه الآية: \" إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا لَّستَ مِنهُم فِي شَيء \" [الأنعام: 159]. ألا إن الله ورسوله بريئان من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعًا.
وقال - تعالى -: \" وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَاء يقتل بعضكم بعضًا، ويأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا \" [آل عمران: 103]، فألف به بينكم، وجمع جمعكم عليه، وجعلكم عليه إخوانًا.
إِذ كُنتُم أَعدَاء، كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة حتى قام الإسلام، فأطفأ الله ذلك، وألف بينهم.
قال قتادة: \" وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَاء فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا \" إذ كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألف به بينكم.
أما ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ إن الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب.
قال رسول الله: ((يا معشر الأنصار، بم تمنون عليَّ؟ أليس جئتكم ضلالاً فهداكم الله بي، جئتكم أعداء فألف الله بين قلوبكم بي؟!))، قالوا: بلى يا رسول الله.
\"وَكُنتُم عَلَىَ شَفَا حُفرَةٍ, مِّنَ النَّارِ \" [آل عمران: 103]، وكنتم على طرف النار، من مات منكم وقع في النار، فبعث الله محمد، فاستنقذكم به من تلك الحفرة.
\"وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءهُمُ البَيّنَـاتُ \" [آل عمران: 105]، نهى الله أهل الإسلام أن يتفرقوا ويختلفوا كما تفرق واختلف أهل الكتاب.
\" وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا \"، أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلكم بالخصومات في دين الله.
وقال - تعالى -: \" فَتَقَطَّعُوا أَمرَهُم بَينَهُم زُبُرًا كُلٌّ حِزبٍ, بِمَا لَدَيهِم فَرِحُونَ \" أي: معجبون برأيهم، \" فَذَرهُم فِي غَمرَتِهِم حَتَّى حِينٍ, \" [المؤمنون: 53، 54] أي: في ضلالتهم إلى الموت.
فكيف يطيب لمسلم يؤمن بأخوة الدين أن يفرق بين أبناء الأمة، بمجرد آراء وفتاوى هي من باب الرأي والرأي الآخر؟!
إن الله - سبحانه - ذم الاختلاف في كتابه، ونهى عن التفرق والتنازع، فقال: \" شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوحَينَا إِلَيكَ وَمَا وَصَّينَا بِهِ إِبرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ \" [الشورى: 13]، وقال: \" وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءهُمُ البَيِّنَاتُ \" [آل عمران: 105]، وقال: \" إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا لَّستَ مِنهُم فِي شَيءٍ, \" [الأنعام: 159]، وقال: \" وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم \" [الأنفال: 46]، وقال: \" فَتَقَطَّعُوا أَمرَهُم بَينَهُم زُبُرًا كُلٌّ حِزبٍ, بِمَا لَدَيهِم فَرِحُونَ \" [المؤمنون: 53]، والزبر: الكتب، أي: فرقة صنفوا كتبًا أخذوا بها وعملوا بها ودعوا إليها دون كتب الآخرين كما هو الواقع عند بعض الجماعات وللأسف.
وقال: \" يَومَ تَبيَضٌّ وُجُوهٌ وَتَسوَدٌّ وُجُوهٌ \" [آل عمران: 106]، قال ابن عباس: (تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف).
وقال النبي: ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم))، وقال: ((اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا)).
ولقد كان التنازع والاختلاف أشد شيء على رسول الله، وكان إذا رأى من الصحابة اختلافًا يسيرًا في فهم النصوص يظهر في وجهه حتى كأنما فُقِئ فيه حب الرمان ويقول: ((أبهذا أمرتم)).
إن الاختلاف مهلكة، والمقصود أن الاختلاف مناف لما بعث الله به رسوله.
قال عمر - رضي الله عنه -: (لا تختلفواº فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا).
ولما سمع - رضي الله عنه - أبيّ بن كعب وابن مسعود يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين صعد المنبر، وقال: (رجلان من أصحاب النبي اختلفا، فعن أيّ فتياكم يصدر المسلمون؟ ما أسمع اثنين اختلفا بعد مقامي هذا إلا صنعت وصنعت).
وقال علي - رضي الله عنه - في خلافته للقضاة: (اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الخلاف، وأرجو أن أموت كما مات أصحابي).
وقد أخبر النبي أن هلاك الأمم من قبلنا إنما كان باختلافهم على أنبيائهم.
وقال أبو الدرداء وأنس وواثلة بن الأسقع: خرج علينا رسول الله ونحن نتنازع في شيء من الدين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، قال: ثم انتهرنا، قال: ((يا أمة محمد، لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار))، ثم قال: ((أبهذا أمرتم؟! أوليس عن هذا نهيتم؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا))، وعنه قال: ((سِباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)).
الخطبة الثانية:
قال: ((إذا قال الرجل لأخيه يا كفر، وجب الكفر على أحدهما))، لا يرمي رجل رجلاً بالفسق أو الكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك، ما شهد رجل على رجل بالكفر إلا باء بها أحدهما إن كان كافرًا فهو كما قال، وإن لم يكن كافرًا فقد كفر بتكفيره إياه.
قال حذيفة بن اليمان: قال رسول الله: ((إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رئيت عليه بهجته وكان رداء الإسلام أعثره إلى ما شاء الله، وانسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وخرج على جاره بالسيف، ورماه بالشرك))، قال: قلت: يا رسول الله، أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟ قال: ((لا، بل الرامي)).
فهل من العقل أو الدين ـ يا أمة الإسلام ـ أن يكفر المسلمون بعضهم بعضًا، أو تهدر الأوقات وتقام العداوات في مسائل الفروع، ويصنف الناس بأهواء وآراء مستوردة من دعاة التفريق والتجريح والطعن والسباب، ممن لو تتبعت جذورهم لوجدتهم موجهين بدون شعور إذ لا شعور عندهم.
والدليل على أن القوم في سباتهم يعمهون أنهم يؤلّفون الرسائل ويوزّعون الأشرطة في الطعن والسباب وسوء الظن والتحريش بين المسلمين، ويتفرجون فقط على أعمال اليهود والصليبيين ومكائدهم للإسلام، ولا يغيرون المنكر، بل إنهم يرون خطر اليهود أقل خطرًا من خطر إخوانهم الذين نبذوهم بالألقاب والبهتان.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد