وجاء الشتاء


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..

أما بعد...

 

فاتقوا الله أيها الناس وقوموا بما فرض الله عليكم من الحقوق والواجبات وانتهوا عما نهاكم عنه من المعاصي والسيئات، فإن الله قد أعد لعباده المتقين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

 

واعلموا أيها المؤمنون، أن ربكم الذي لا إله إلا هو ولا رب سواه له الحكمة البالغة، والقدرة النافذة، يقلب الليل والنهار، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل،\"وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَن تُحصُوهُ فَتَابَ عَلَيكُم\"(1).

 

فمن بديع حكمته الباهرة، وعظيم منة الله - تعالى -على عباده، ورحمته بهم، أن نوّع لهم الفصول في العام الواحد بين صيف وشتاء، وبين ربيع وخريف، لتتم بذلك مصالحهم، ويستقيم معاشهم، ويستوي أمرهمº فالحمد لله الذي لا إله إلا هو على بره وإحسانه، ولطفه ورحمته وحكمته وامتنانه.

 

عباد الله قد أظلكم فصل الشتاء، وهو فصل كان يكتب فيه عمر لعماله: (إن الشتاء قد حضر فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعاراً ودثاراً) وإن من منة الله - تعالى -عليكم أن جعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم البرد، فخلق لكم من أصواف بهيمة الأنعام وأوبارها وأشعارها ما فيه دفء لكم ووقاية، قال - تعالى -:\"وَالأَنعَامَ خَلَقَهَا لَكُم فِيهَا دِفءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنهَا تَأكُلُونَ\"(2) فاشكروا الله - تعالى -فإن الشكر سبب في المزيد قال - تعالى -:\"وَإِذ تَأَذَّنَ رَبٌّكُم لَئِن شَكَرتُم لَأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ\"(3).

 

عباد الله إن من نعمة الله عليكم بتنويع الفصول أن يحصل بذلك تذكر جهنم، فإن شدة الحر وشدة البرد يذكران الناس بما في جهنم من الحر والزمهرير، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير)(4). قال الله - تعالى -مخبراً عن أهل جهنم - نعوذ بالله منها -:\"لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرداً وَلا شَرَاباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزَاءً وِفَاقاً\"(5) فجهنم يعذب أهلها بالحر والزمهرير، قال ابن عباس: الغساق: الزمهرير البارد الذي يحرق من برده. وقال الحسن: كل برد أهلك شيئاً فهو من نفس جهنم.

 

فيا من آذاه حر الصيف، ويا من أزعجه برد الشتاء اتق عذاب جهنم، إن عذابها كان غراماً، فإن ما تجده في هذه الدنيا من شدة البرد أو شدة الحر إنما هو شيء يسير من حر جهنم وزمهريرها، فكيف بك يا من أسرفت على نفسك بالذنوب والمعاصي يوم يؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام ثم يقال:\"اصلَوهَا فَاصبِرُوا أَو لا تَصبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيكُم إِنَّمَا تُجزَونَ مَا كُنتُم تَعمَلُونَ\"(6).

 

أيها المؤمنون إننا نعيش هذا الفصل ويعيش معنا إخوان لنا قُدِرت عليهم أرزاقهم، وقصرت بهم النفقة، وهم بأمس الحاجة إلى العون والمساعدة في إقبال الشتاء، فقدموا لأنفسكم وتفقدوا إخوانكم المحتاجين، وابدؤوا بأقاربكم وذوي أرحامكم ثم جيرانكم وأهل بلدكم ثم الأقرب منكم فالأقرب، ولا يحقرن أحدكم من المعرف شيئاً، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اتق النار ولو بشق تمرة)(7).

 

أيها المؤمنونº أخرج الإمام أحمد بسند ضعيف من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الشتاء ربيع المؤمن يقوم ليله ويصوم نهاره)(8).

 

قال ابن رجب - رحمه الله -: إنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينـزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه. انتهى.

 

فالمؤمن يا عباد الله يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة فإن نهاره قصير بارد، فلا يحس فيه بمشقة الصيام، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة)(9) رواه الترمذي من حديث عامر بن مسعود، قال الترمذي: هذا حديث مرسل: عامر لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -.

 

فاغتنموا هذه الفرصة يا عباد الله فإن للصيام فضائل عظيمة عديدة، ولو لم يكن فيه إلا ما قاله الله - تعالى -في الحديث الإلهي: (الصيام لي وأنا أجزي به)(10) لكان كافياً.

 

أيها المؤمنونº إن من أبواب الخير في هذا الفصل طول الليل الذي يتمكن العبد فيه من القيام، فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة، إلى صلاة الليل التي قال الله فيها:

 

\"وَمِنَ اللَّيلِ فَاسجُد لَهُ وَسَبِّحهُ لَيلاً طَوِيلاً\"(11)وقال فيها:\"وَمِنَ اللَّيلِ فَسَبِّحهُ وَأَدبَارَ السٌّجُودِ\"(12) فإن صلاة الليل شعار المتقين، ودثار أولياء الله المفلحين، قال الله - تعالى -في وصف عباده المتقين\"تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ يَدعُونَ رَبَّهُم خَوفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ (16) فَلا تَعلَمُ نَفسٌ مَا أُخفِيَ لَهُم مِن قُرَّةِ أَعيُنٍ, جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ\"(13) قال الطبري في تفسير هذه الآية: (فلا تعلم نفس أي نفس، ما أخفى الله لهؤلاء الذين وصف جل ثناؤه صفتهم في هاتين الآيتين مما تقر به أعينهم في جناته يوم القيامة، ثواباً لهم على أعمالهم التي كانوا في الدنيا يعملون).

 

فاتقوا الله عباد الله، فليل الشتاء طويل فلا تقصروه بمنامكم، ولا تضيعوه بسهركم على المعاصي والملذات، واجعلوا ليلكم ليل المتقين الذاكرين، لا ليل الغافلين المستهترين، قال ابن القيم - رحمه الله -:

 

(فيا عجباً من سفيهٍ, في صورة حليم، ومعتوه في صورة عاقل، آثر الحظ الفاني الرخيص على الحظ الباقي النفيس، باع جنة عرضها الأرض والسماوات بسجنٍ, ضيق بين أصحاب البلية والشهوات).

 

أيا صاح هذا الركب قد سار مسرعاً *** ونحن قعود ما الذي أنت صانع

 

على نفسه فليبك من كان باكــياً *** أيذهب وقتي وهو باللهو ضائع

 

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين وأحكم الحاكمين و بعد..

 

فاتقوا الله عباد الله وسابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماء والأرض أعدت للمتقين.

 

أيها المؤمنونº إن من أبواب الخير في فصل الشتاء إسباغ الوضوء وإتمامه، فإن ذلك من أفضل الأعمال، ففي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط)(14) فأسبغوا أيها المؤمنون الوضوء، فإن أجره عند الله عظيم، وإسباغ الوضوء يكون بتعميم الماء على جميع أعضاء الطهارة، فقد أمر النبي- صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال في حديث لقيط بن صبرة: (أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق ما لم تكن صائماً)(15).

 

أيها المؤمنون إن ربكم الكريم الحليم لم يجعل عليكم في الدين من حرج، بل جعله يسيراً سهلاً، قال - تعالى -:\"يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ\"(16) فمن تيسيره أن أجاز لكم المسح على الخفين بدلاً من غسل الرجلين إذا كانتا مستورتين بخف أو جورب ونحوهما وذلك بشرط أن يكونا قد لبسا على طهارة، وقد رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها، تبتدىء المدة من أول مسحة بعد الحدث، فإذا لبس الإنسان الجورب مثلاً صلاة الفجر هذا اليوم ولم يمسح عليهما أول مرة إلا لصلاة الجمعة فيكون ابتدأ مدة مسحه من صلاة الجمعة إلى مثل هذا الوقت من الغد، فإذا تمت المدة وجب عليه غسل رجليه إذا توضأ.

 

اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ودعوة مستجابة يا رب العالمين.

 

----------------------------------------

(1) المزمل: 20.

(2) النحل: 5.

(3) إبراهيم: 7.

(4) أخرجه البخاري باب صفة النار (رقم 3087) ومسلم كتاب الصلاة (رقم 617).

(5) النبأ: 24-26. 

(6) الطور: 16.

(7) أخرجه البخاري باب الصدقة قبل الرد (رقم 1347) ومسلم باب الحث على الصدقة (رقم 1016) من حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه -.

(8) (رقم 11734).

(9) (رقم 797).

(10) أخرجه البخاري كتاب التفسير (رقم 7054)ومسلم باب فضل الصيام (رقم 1151) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(11) الإنسان: 26.

(12) قّ: 40.

(13) السجدة: 16-17.

(14) أخرجه مسلم باب كثرة الخطا إلى المساجد (رقم 251) وأحمد (رقم 7982) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(15) أخرجه النسائي في الكبرى (رقم 3047) وابن حبان في صحيحه (رقم 1054).

(16) البقرة:185.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply