رسالة إلى حاسد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد...

فاتقوا الله عباد الله وطهروا قلوبكم من الأمراض والآفات والرذائل والآثام فإن القلب سيد الجوارح فهي منقادة له يستعملها ويستخدمها كيف شاء فالجوارح آلات له في سعيه وسيره ومنه أي من القلب تكتسب الجوارح الاستقامة أو الضلالة ويشهد لهذا ويدل عليه ما أخرجه الشيخان عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) (1).فالقلب أشرف الأعضاء وأعظمها خطراً وأكثرها أثراً وأدقها أمراً وأشقها إصلاحاً، فبالقلب يسير العبد إلى ربه ويتعرف عليه فهو العامل لله والساعي والمتقرب إليه، ولما كانت هذه منـزلته ومكانته كان زللـه والعياذ بالله عظيماً خطيراً وزيغه فظيعاً، أدناه قسوة وميل عن الله - تعالى -ومنتهاه ختم وطبع وكفر بالله - تعالى -ولذا فإن آكد ما يجب عليك يا عبد الله أن تصلح قلبك وأن تطهره من الآفات والآثام التي تهلك القلب وتوبقه فإن الأمر كما قال الأول:

 

فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة *** و إلا فإني لا إخــــــالك ناجيا

 

أيها المؤمنون إن من أخطر الآفات التي تفسد القلب وتصرفه عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه الحسد.

 

ذلك الداء من أعظم الأدواء والابتلاء به من أشد البلوى يحمل صاحبه على مراكب الذنوب والآثام ويبعده عن منازل أهل التقوى والإيمان، فلله ما أعظمه من بلاء ما دخل قلباً إلا أفسده وأعطبه وأفسد عليه حاضره ومستقبله. والحسد داء قديم حتى قيل: إنه أول ذنب عصي به الله - تعالى -وليس ذلك ببعيد. أيها المؤمنون إن المرء بالحسد يقع في ألوان من الذنوب والآثام أعلاها الكفر بالله وأدناها كراهة الخير لعباد الله فلله كم جر الحسد على الخلق من الرزايا والبلايا، فهل أخرج إبليس عن فضل الله ورحمته إلى سخطه ولعنته إلا الحسد؟ وهل قتل قابيل أخاه هابيل إلا بالحسد؟ وهل أعرض أكثر صناديد الكفر عن اتباع الأنبياء والرسل إلا بالحسد؟ وهل نقم اليهود والنصارى على أمة الإسلام إلا لأجل الحسد؟ وهل استطال أقوام لبسوا لباس السنة والاتباع في أعراض أهل السنة من العلماء والدعاة وأهل الصحوة والدعوة إلا حسداً على ما آتاهم الله من فضله كما قال الله - تعالى -: ( أَم يَحسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ فَقَد آتَينَا آلَ إِبرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَآتَينَاهُم مُلكاً عَظِيماً) (2).

 

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا *** سعيه  فالقوم أنداد له وخصوم

 

أيها المؤمنون إن النبي - صلى الله عليه وسلم -  حذر أمته الحسد وعظم أمره في أحاديث كثيرة منها ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه -  قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ))(3) رواه الشيخان واللفظ لمسلم، وقد بين لنا - صلى الله عليه وسلم - شدة إفساده لدين العبد فقال - صلى الله عليه وسلم -  فيما أخرجه الترمذي بسند لا بأس به عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه -  مرفوعاً: ((دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء وهي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر ))(4).

 

وقد أخبرنا - صلى الله عليه وسلم -  إفنائه للحسنات وإفساده للطاعات فعن أبي هريرة وعبد الله بن كعب - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب))(5) رواه أبو داود وغيره بسند جيد.

 

أيها المؤمنون إن الحسد الذي ورد في السنة ذمٌّه والتحذير منه، هو أن يحب المرء زوال نعمة الله عن المحسود. أما محبة مساواة غيره في الخير والفضل أو حتى الامتياز عليه كأن تحب أن يكون لك من الخير والفضل كما لفلان أو أفضل منه دون أن تزول النعمة عنه فهذا من التنافس في الخير وليس من الحسد المذموم ومنه قوله - تعالى -عند ذكر نعيم الجنة: ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)(6) ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق))(7) رواه الشيخان.

 

عباد الله احذروا الحسد فإنه داء عضال فتاك لا يوقر كبيراً لكبره ولا شريفاً لشرفه ولا عالماً لعلمه بل يطرق قلب الصغير والكبير والشريف والوضيع والعالم والجاهل فطهروا قلوبكم منه واحرصوا على قطع أسبابه وإزالة دواعيه فإن النجاة منه فوز أكيد

 

فإن تنج منه تنج من ذي عظيمة *** و إلا فإني لا إخالك ناجيا

 

أيها المؤمنونº إن مما يزهدك في الحسد ويعينك على تركه أن تعلم أن الحاسد مضاد لله - تعالى -ومحاد له في قدره وشرعه فبالحسد سخطت قضاء الله - تعالى -وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده واعترضت على عدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته ولطيف صنعه فاستنكرت ذلك واستبشعته، وهذا والله نقص في توحيد الله الواحد الديان، وقذى في عين الإيمان.

 

 فلله ما أخبث هذه النفس التي عصت الله في أمره، وتقدمت بين يديه في قضائه، وقدره ( أَهُم يَقسِمُونَ رَحمَتَ رَبِّكَ نَحنُ قَسَمنَا بَينَهُم مَعِيشَتَهُم فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَرَفَعنَا بَعضَهُم فَوقَ بَعضٍ, دَرَجَاتٍ, لِيَتَّخِذَ بَعضُهُم بَعضاً سُخرِيّاً وَرَحمَتُ رَبِّكَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ)(8).

 

ومما يعينك أيضاً على تطهير قلبك من هذه الخطيئة أن تعلم أن الحاسد أول ضحايا الحسد، فإن الحاسد معذب مهموم مغموم حتى قيل: لم نرَ ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد. وقد وصف بعضهم حال الحاسد فقال: طول أسف ومحالفة كآبة وشدة تحرق فهو مكدر النعمة لا يجد لها طعماً، يرى كل نعمة على الخلق نقمة عليه، فهو طويل الهم دائم السخط منغص العيش، وهذه عاجل عقوبتهº هم وغم بغير اجتلاب دنيا مع ذهاب الدين فلا دنيا حصل ولا ديناً أبقى، ولذا فإن بعض المحسودين يدعو الله أن يبقي حساده ليطول عذابهم حتى قال أحدهم:

 

أبقى لي الله حسادي وغمهم *** حتى يموتوا بداء غير مكنون

 

ومما يعيننا أيها الإخوة على تطهير قلوبنا من الحسد أن نعلم أن الحسد يهيج أنواعاً من الذنوب والخطايا فيكثر شركك ومعاصيك، فبالحسد تقع في الغيبة، وبه تتبع عورات المسلمين بل عورات المتقين والعلماء العاملين والدعاة الناصحين فتبحث عن السقطة والزلة وتشيع الهفوات و الهنات بحجة النقد وبدعوى التصحيح والنصح وغير ذلك من الدعاوى التي يتشبث بها بعض مرضى القلوب مما عشش في قلوبهم من الغل والحسد والحقد ويأبى الله إلا أن يذل ويفضح من عصاه

 

تكاشرني كرهاً كأنك ناصح *** وعينك تبدي أن قلبك لي دوي

 

بدا منك عيب طالما قد كتمته *** أذابك حتى قيل هل أنت مكتوي

 

ومما يعيننا على محاربة الحسد والتخلي منه علمنا أن الحاسد مخذول محروم فلا يكاد يظفر بمراده ولا يظفر على عدوه فالحسود غير منصور إذ إن مراده زوال نعم الله عن عباده المسلمين وأعداؤه هم من المسلمين أو المؤمنين وقد قال الله - تعالى -: ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبٌّ كُلَّ خَوَّانٍ, كَفُورٍ, )(9).

 

ومن أعظم ما ينفع المرء ويعينه على ترك الحسد القناعة بما قسم الله - تعالى- و قضى ، فإنه - سبحانه - أعلم بمحالِّ فضله وجوده، فطب أيها المؤمن نفساً بقسمة الله وقر عيناً بقضائه وقدره فإنه عزيز حكيم عليم خبير.

 

ومما يعينك على كسر سَورة الحسد وفل غربها معاملة المحسود بنقيض ما يقتضيه الحسد من قول أو فعل فكف عنه الأذى وابذل له الخير والندى عسى الله أن يعينك على التخلص من هذا الداء الدوي وأحبه على ما تلقى من جراء ذلك فإنه من لم يصبر على مرارة الدواء لم ينل حلاوة الشفاء

 

فالصبر كأس مر مذاقته *** لكن عواقبه أحلى من العسل

 

الخطبة الثانية

 

أما بعد..

فاعلموا أيها الإخوة أن الحسد فاشٍ, منتشر في قلوب كثير من الناس حتى قال أحدهم في وصف كثرته وانتشاره:

 

ولم أر مثل اليوم أكثر حاسداً  *** كأن قلوب الناس في قلب واحد

 

وسر هذا الانتشار هو إقبال الناس على الدنيا التي فتنوا بها حتى أخذت بمجامع قلوبهم فعليها يوالون وعليها يعادون، والدنيا مهما اتسعت فإنها لن تسع الناس جميعاً ، ولذا يتزاحم الناس عليها وعلى المنازل فيها ولو فطن هؤلاء إلى ما ينفعهم لكفوا أبصارهم عنها و لمدوا أنظارهم إلى فضل الله ومنه وكرمه الذي وسع كل شيء، فإن خزائن فضل الله ورحمته ومنه وكرمه لا تنفد وبحور جوده وعطائه وهباته لا تنضب فاسألوا الله من فضله كما أمركم بذلك فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع قال الله - تعالى -: ( وَلا تَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعضَكُم عَلَى بَعضٍ, لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكتَسَبنَ وَاسأَلُوا اللَّهَ مِن فَضلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيءٍ, عَلِيماً)(10).

 

أيها المؤمنون إن الله - سبحانه وتعالى - أمركم بالاستعاذة من شر الحساد فقال - تعالى -: (  قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ, إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ, إِذَا حَسَدَ)(11) شر وضرر متعدد وهذه السورة من أكبر أدوية الحسد ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -  يقرؤها في الصباح والمساء وبعد الصلوات وعند النوم وما ذلك إلا لما فيها من عظيم النفع وكبير الدفع للشر وأسبابه فاحرصوا عليها وعلى عامة الأذكار فإنها من أسباب دفع شر الحاسد.

 

ومن أسباب دفع شر الحاسد تقوى الله - تعالى - فإنه من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.

 

ومن أسباب دفع شر الحاسد التوكل على الله فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه أي كافيه ومانعه.

 

ومن أسباب دفع شر الحاسد التوبة إلى الله - تعالى -من الذنوب والمعاصي فإن التوبة من أعظم أسباب زوال الشر والفساد قال ابن القيم - رحمه الله -: (فليس للعبد إذا بغي عليه أو أوذي أو تسلط عليه خصم شيءٌ أنفع من التوبة النصوح) فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.

 

ومن أسباب زوال الحسد وشر الحاسد والباغي والموذي، الإحسان إليه فكلما ازداد أذىً وشراً وبغياً وحسداً ازددت أيها الراشد إليه إحساناً وله نصيحة وعليه شفقة قال الله - تعالى -: ( وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِيمٌ )(12).

 

وما أجمل ما قاله الأول:

 

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

 

----------------------------------------

(1) أخرجه البخاري باب فضل من استبرأ لدينه (رقم 52) ومسلم باب أخذ الحلال وترك الشبهات (رقم 1599).

(2) النساء: 54.

(3) أخرجه البخاري كتاب الأدب (رقم 6064) ومسلم في البر والصلة والآداب (رقم 2559).

(4) أخرجه الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (رقم 2510).

(5) أخرجه أبو داود في الأدب (رقم 4903).

(6) المطففين: 26.

(7) أخرجه البخاري في العلم (رقم 73) و أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (رقم 816) من حديث ابن مسعود، وابن عمر - رضي الله عنهم -.

(8) الزخرف: 32.

(9) الحج: 38.

(10) النساء: 32.

(11) الفلق: 1 - 5.

(12) فصلت:34.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply