بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، الذي فتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فبلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه صلى الله عليه وعلى آله صحبه وسلم.
أما بعد:
فقد شاع على ألسنة الغيورين من أبناء هذه الصحوة المباركة وخاصة مع وجود أول قناة إسلامية كرّست جهودها في تقديم إعلام خالٍ, من المحاذير الشرعية، سؤال مهم هو: ما حكم الاشتراك في مثل هذه القناة، خاصة وأنها تجري المقابلات مع بعض طلبة العلم الذين منحهم الله جمال الصورة، وعذوبة المنطق، فينظر إليه النساء، ويستمعن لحديثه، وربما وقع في قلب إحداهن الميل له… وزاد من هذا الحذر ما تناقله الشباب بينهم من اتصال نساء على بعض الجمعيات التي تعنى بشئون الأسرة وتيسير الزواج مبديات رغبتهن في نكاح الشيخ الفلاني أو طالب العلم الفلاني …
والذي يتأمل هذا التخوّف يجده يظهر على صورة أسئلة تطرح بينهم ولا يجدون لها جواباً، ويمكن إيجازها فيما يلي:
ما حكم نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي، ما حكم الاشتراك في مثل هذه القنوات والحالة هذه، ما حكم خروج طلبة العلم ممن هم على تلك الحال في مثل هذه القنوات؟
ومن هنا عنّ لي أن أبحث ما ورد في شرعنا المطهر فيما يتعلق بالإجابة على هذه الأسئلة، متوخياً الصواب قدر الإمكان، فلا أتكلّف منع شيء لم يمنعه الشرع، ولا آذن في شيء قد منعه، راجياً الصواب والتوفيق والسداد من ربي. وقد بذلت جهدي في تسهيل عبارته ليفهمه العامة والخاصة فإن كان ما كتبته حقاً وصواباً فهو من الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان.
فأقول مستعيناً بالله:
المسألة الأولى: حكم نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي.
لعل من المناسب قبل الخوض في هذه المسألة أن يحرر موضع السؤال، فإن نظر المرأة للرجل الأجنبي لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يكون نظر المرأة إلى ما بين السرة والركبة من الرجل، بمعنى أن المرأة تنظر إلى عورة الرجل، فهذا مما جاءت الشريعة بحسم مادة وبيان حكمه، فهذا النظر حرام بالاتفاق سواءً كان هذا النظر بشهوة أو بغير شهوة.
الحال الثاني: أن يكون نظر المرأة إلى ما فوق السرة وتحت الركبة من الرجل، وهذا النظر إما أن يكون بشهوة أو بغير شهوة. فإن كان هذا النظر بشهوة فهو حرام أيضاً قولاً واحداً، وإن كان بلا شهوة فهو موطن السؤال وللجواب عليه يقال: إن من يجمع النصوص المتعلقة بنظر المرأة إلى الرجل من الكتاب والسنة يجدها متقابلة متعارضة فيما يظهر، ولهذا صار محصلة آراء العلماء قولين متقابلين.
القول الأول: أن نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي محرم مطلقاً سواءً كان النظر إليها بشهوة أو بغير شهوة.
واستدلوا على ذلك بدليلين:
الأول: قوله - تعالى -: (وَقُل لِلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُنَّ)(1)فالأمر بغض البصر هنا عام في كل نظر سواءً كان بشهوة أو بغير شهوة.
الثاني: عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم. وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"احتجبا منه\"، فقلنا يا رسول الله! أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه! \"(2).
القول الثاني: إن نظر المرأة للرجل جائز إذا كان بلا شهوة واستدلوا على ذلك بأدلة أشهرها ما يلي:
1ـ حديث فاطمة بنت قيس في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بالعدة في بيت ابن أم مكتوم بقوله: (اعتدّي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك…) (3).
وهذا أمر صريح لها بالسكنى عند ابن أم مكتوم، فلو كان النظر إلى الرجل حراماً لأمرها بغض بصرها عنه عقب أمره لها بالسكنى عنده، وهذه الحادثة في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة بدليل سؤالها للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد انقضاء عدتها واستشارتها له في نكاح رجال خطبوها منهم معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية - رضي الله عنه - من مسلمة الفتح.
2ـ عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: \"لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم\"(4).
وهذا الإذن من النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة فيه دليل على أن النظر إلى الرجال بلا شهوة غير محرم.
مناقشة القائلين بالتحريم والمنع:
ويمكن مناقشة أدلة القائلين بالمنع بأن قوله - تعالى -: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) عام والأحاديث التي تبيح النظر إلى الرجال خاصة، والعام إذا خص فلا يعمل به وإنما يعمل بالدليل المخصص فلا حجة في ذلك، ويبقى عمل الآية فيما بقي على عمومه مما أمر النساء بكف البصر عنه. وقد قال ابن سعدي في معناها: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) عن النظر إلى العورات والرجال بشهوة ونحو ذلك(5).
وأمَّا حديث أم سلمة فيمكن الجواب عنه بما يلي:
1ـ أن الحديث مختلف في صحته لان فيه راوٍ, مجهول، وهو نبهان مولى أم سلمة لم يوثقه إلاَّ ابن حبّان كعادته في توثيق المجاهيل، وقد ضعف هذا الحديث الألباني، (6)وشعيب الأرناؤوط(7).
2ـ على فرض صحته فلعل الأمر لهن بالاحتجاب منه لكونه أعمى فربما كان منه شيء ينكشف وهو لا يشعر به(8)، أو أنه من باب الاستحباب والندب لا الوجوب.
3ـ أن هذا الحديث على فرض صحته خاص بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أبو داود بعد روايته لهذا الحديث: (هذا لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، ألا ترى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم.. ).
مناقشة القائلين بالجواز:
وجّه إلى الدليل الأول وهو حديث فاطمة بنت قيس بأنها يمكن أن تساكنه وتغض بصرها عنه، ولا يخفى بعده.
وأمّا حديث عائشة فقالوا أنها كانت وقتئذٍ, صغيرة لم تبلغ بدليل قولها: \"فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن\". وأجيب عليه بأن الروايات الأخرى تذكر أن ذلك بعد قدوم وفد الحبشة، ووفد الحبشة كان في السنة السابعة من الهجرة فيكون عمر عائشة حينئذٍ, ست عشرة سنة، فكانت بالغاً(9).
التـرجيـح:
الذي يظهر والله أعلم أن نظر المرأة إلى ما يظهر غالبا من الرجل الأجنبي جائز إذا كان بلا شهوة، ومن مسوغات هذا الترجيح ما يلي:
1ـ أن الآية عامة، ولا يمكن بقاؤها على عمومها لوجود المعارض الصحيح القوي الا بترك العمل بالمعارض، أو تعسف تأويله تعسفاً متكلفاً.
2ـ قوة أدلة القائلين بالجواز وجميعها في الصحيحين أو في أحدهما، فلا يقف في وجهها حديث أم سلمة المختلف في صحته، وعلى فرض صحته فإنه مؤول عند العلماء تأويلات مقبولة.
3ـ تناسب هذا القول مع الآية الكريمة: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) فإن النساء أمرن بحفظ فروجهن عقب الأمر بغض البصر لأنه وسيلة إليه، فيلمس من هذا أن البصر المأمور بحفظه ما كان بشهوة قد تؤدي إلى عدم حفظ الفرج.
4ـ ما رواه البخاري أن امرأة من خثعم وضيئة جاءت تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع والفضل بن عباس رديفه فطفق ينظر إليها وتنظر إليه، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل، فعدل وجهه عن النظر إليها(10).
فالنبي - عليه الصلاة والسلام - لم يأمر المرأة بغض بصرها، وإنما صرف نظر الفضل لما رأى من الريبة في نظره، ولأنه مأمور بغض بصره عن النساء مطلقاً بشهوة أو بغير شهوة.
4ـ ما فهمه البخاري - رحمه الله - مع إمامته في الحديث والفقه، فترجم لحديث عائشة - رضي الله عنها - ونظرها للحبشة بقوله: باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة(11).
المسألة الثانية: حكم الاشتراك في هذه القنوات مع احتمال حصول هذه المفسدة.
وللجواب عن هذا يقال:
إن هذه القنوات تندرج تحت أحكام الوسائل في الشريعة الإسلامية، فهي وسيلة إلى دعوة الناس، وتعليمهم الخير في زمن تطوّر فيه إعلام الباطل ليعرض الفجور، والخلاعة، والشرك، والبدعة بأنواعها على المسلمين، وحتى أوجز الحديث عن هذا أورد ما سطره يراع ابن القيم - رحمه الله - تعالى - في تقسيم الوسائل وبيان أحكامها ثم نصنّف هذه المسألة التي نحن بصددها وندرجها تحت قسمها التي هي منه ونعطيها حكمه.
فالأقوال والأفعال المتوصل بها إلى المفسدة، سواءً كانت محضة أو راجحة أو مرجوحة لا تخلو من أربعة أقسام هي:
1ـ ما كانت وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة، كالزنا المؤدي إلى اختلاط الأنساب وفساد الفرش، فهذا منعته الشريعة إما كراهةً أو تحريماً، بحسب درجاته في المفسدة.
2ـ ما كانت وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة، مثل: عقد البيع بقصد الحصول على الربا، وعقد النكاح بقصد التحليل، فهذا أيضاً ممنوع في الشريعة لأن للوسائل أحكام المقاصد.
3ـ ما كانت وسيلة موضوعة للمباح، ولم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالباً، ومفسدتها أرجح من مصلحتها، مثل: سب آلهة المشركين بين ظهرانيهم، فهذا أيضاً منعته الشريعة لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وقد استدل ابن القيم على المنع في هذين القسمين بتسعةٍ, وتسعين دليلاً.
4ـ ما كانت وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها، ككلمة الحق عند سلطان جائر ونحو ذلك، فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم، أو استحبابه، أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة(12).
فإذا أردنا أن نوازن بين المصلحة المرجوّة من هذه القنوات الفضائية الإسلامية والمفسدة المتوقعة من وراء ذلك نقول: إن فيها من المصالح التي هي مطلوبة شرعاً، كتعليم العقيدة الصحيحة، ونشر العلم والفقه، وطرح الحلول الشرعية لمشاكل الناس المعاصرة، وتوجيه الرأي العام المسلم إلى المواقف الصحيحة من المستجدات العالمية، وتكوين الشعور المسلم الممثل بالجسد الواحد وإشغال أوقات الناس على أقل الأحوال بالمباحات عن المحرمات.. وفيها من المفاسد ما يتوقع حدوثه من نظر النساء إلى الرجال بشهوة، أو انشغال الناس بمشاهدة هذه القنوات عن بعض الأمور المهمة في حياتهم.
وبعد هذه الموازنة يظهر أن المصالح المرجوّة من مثل هذه القنوات أعظم من المفاسد المتوقعة لندرتها، وعدم إمكانية الجزم بوقوعها، فهي داخلة تحت القسم الرابع من أقسام الوسائل التي عدّها ابن القيم - رحمه الله -، فالاشتراك فيها مباح لمن رغب في ذلك، وقد يكون مستحباً أو واجباً إذا كان فيه صرف للناس عن مشاهدة غيرها مما يشتمل على المحرمات، كالغناء والموسيقى، أو صور النساء، أو ما هو أعظم ضرراً كنشر البدع، والطعن في الدين ونحوه. ولا يعني الحكم بإباحة الاشتراك في هذه القنوات أن يشترك كل مسلم فيها بل هي كأحد أنواع الفواكه مباح ولا يلزم من إباحته أن يأكله كل أحد،
تنبيـــه:
إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتقليل المفاسد وتعطيلها. وهنا لابد من توجيه نداء إلى القائمين على هذه القنوات الإسلامية بسدّ باب الذريعة إلى الفساد، وذلك بعدم استضافة من يرون فيه فتنة للنساء، والاستغناء عنه بغيره من العلماء وطلبة العلم، فإن ذلك من السياسة الشرعية المفضية إلى إصلاح المسلمين. وعلى طلبة العلم ممن يعلم أن النظر إليه قد يورث تشبب النساء به ألاّ يخرج عليهن، والحمد لله أن القنوات الفضائية ليست السبيل الوحيد للدعوة وتبليغ الناس الخير، فيتخير من وسائل الدعوة ما يكون أقرب إلى تحقيق المراد من الدعوة بلا مفسدة، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان يمشي بالمدينة فسمع امرأة تتغنى بشاب من أهل المدينة اسمه: نصر بن حجاج دعى به فوجده شاباً حسناً، فحلق رأسه فازداد جمالاً، فنفاه إلى البصرة، لئلا تفتتن به النساء، مع أنه لا ذنب له في ذلك، وما كان هذا إلاّ سدّاً لباب
الذريعة، وحسماً لمادته(13) والله أعلم.
وفي الختام..
هذا ما تيسر جمعه وتحبيره راجياً من الله التوفيق والصواب، ثم أرجو من العلماء وطلبة العلم تصويب الخطأ، والعفو عن الزلل، فإنما الخير أردت..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد