مسائل في النذر


بسم الله الرحمن الرحيم 

النذر في اللغة: مصدر وفعله نذر، له عدة معان منها: الأيمان تقول: نذرت كذا، أي: أوجبته.

اصطلاحاً: يعرفه الفقهاء بأنه التزام مسلم مكلف قربة، وقيل: ما يوجبه المسلم على نفسه من صدقة أو عباده أو نحوها(1) أو إلزام مكلف مختار نفسه شيئاً لله، أو إلزام بالقول شيئاً غير لازم بأصل الشرع(2).

النذر نوع من أنواع العبادة لا يجوز صرفه لغير الله - تعالى -º فمن نذر لغير الله - تعالى - من قبر أو نبي أو ولي فقد أشرك بالله الشرك الأكبر المخرج من الملةº لأنه بذلك قد عبد غير الله، فالذين ينذرون لقبور الأولياء والصالحين اليوم قد أشركوا بالله الشرك الأكبر والعياذ بالله، فعليهم أن يتوبوا إلى الله، ويحذروا من ذلك، وينذروا قومهم لعلهم يحذرون.

 

المسألة الأولى: حكم النذر:

اختلف العلماء في حكم النذر على أقوال:

القول الأول: أنه مكروه، وبهذا القول قال أكثر الشافعية والمالكية وابن المبارك وابن حزم(3).

ودليلهم حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: نهى النبي - صلى الله غليه وسلم - عن النذر وقال: \"إنه لا يرد شيئاً، ولكنه يستخرج من البخيل\"(4).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال: رسول الله - صلى الله غليه وسلم -: \"لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قدر له ولكن يلقيه النذر إلى القدر قدر له فيستخرج الله به من البخيل فيؤتى عليه ما لم يكن يؤتى عليه من قبل\"(5).

القول الثاني: أنه قربة مشروعة.

قال بهذا الغزالي والرافعي من الشافعية وقال به الحنفية(6).

واستدلوا لذلك بعموم النصوص التي جاءت بالوفاء بالنذر من الكتاب والسنة.

القول الثالث: أنه محرم، وبه قال الصنعاني في كتابه سبل السلام، واحتج بنهي النبي - صلى الله غليه وسلم - عن ذلك، فقال \"والقول بتحريمه هو الذي دل عليه الحديث، ويزيده تأكيداً تعليله بأنه لا يأتي بخيرº فإنه يصير إخراج المال فيه من باب إضاعة المال، وإضاعة المال محرمه\"(7).

والصواب القول الأول وهو أن النذر مكروه، لكن يجب الوفاء به(8).

 

المسألة الثانية: حكم الوفاء بالنذر:

الوفاء بالنذر واجب، ولا يجوز التخلف عن الوفاء به كما ثبت في الكتاب، والسنة والإجماع.

فمن الكتاب: قول الله - تعالى -: \"وليوفوا نذورهم (29)\" {الحج: 29} وقوله - تعالى -: \"يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا 7\" {الإنسان: 7}.

ومن السنة: ما روته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله غليه وسلم -: \"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه\"(9).

وسأل عمر - رضي الله عنه - النبي - صلى الله غليه وسلم - فقال: \"إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: أوف بنذرك\"(10).

والنصوص في السنة كثيرة تأمر بالوفاء بالنذر، وذم النبي - صلى الله غليه وسلم - من لا يفي بنذره فقال - صلى الله غليه وسلم -: \"خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون... الحديث\"(11) وقد بوب البخاري - رحمه الله - لهذا الحديث بقول: \"باب إثم من لا يفي بالنذر\".

قال الحافظ (12): \"قال ابن بطال ما ملخصه: سوى بين من يخون أمانته ومن لا يفي بنذره، والخيانة مذمومة، فيكون ترك الوفاء مذموماً، وبهذا تظهر المناسبة للترجمة وقال الباجي: ما وصفهم به في مساق العيب، والجائز لا يعاب، فدل على أنه غير جائز.

وأما الإجماع فقد قال ابن قدامه: \"أجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة، ولزوم الوفاء به\"(13).

نذر المرء مالا يقدر عليه، ونذره فيما لا يملك:

مما يأخذ حكم نذر المعصية: نذر المرء ما لا يقدر عليه، ونذره فيما لا يملك، فإنه لا يجوز الوفاء به.

فأما الأول: فلأنه قد تقرر في الأصول أنه لا تكليف إلا بمقدور، وما خرج عن قدرة المرء فلا يجب الوفاء به، ولأن فيه من الضرر على الناذر ما يجعله في حكم المعصية، ومع تقرر الكفارة للحانث فالواجب ترك الوفاء به.

أما الثاني: فلأنه لاحق للمرء في التصرف فيما لا يملك، وما تصرف فيه مما ليس في ملكه دون إذن صاحبه فهو من المعاصي(14).

وقد ورد في السنة ما يدل على ما تقدم، فعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله غليه وسلم -: \"لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك\".

 

المسألة الثالثة: أقسام النذر:

النذر الصحيح ينقسم إلى خمسة أقسام:

1- النذر المطلق، مثل أن يقول: لله علي نذر، ولم يسم شيئاًº فيلزم كفارة يمين سواء كان مطلقاً أم معلقاًº لما روى عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله غليه وسلم -: \"كفارة النذر كفارة يمين إذا لم يُسمِ\" (16).

فدل الحديث على وجوب الكفارة إذا لم يسم ما نذر لله - عز وجل -.

2- نذر اللجاج والغضب: وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه، أو الحمل عليه، أو التصديق أو التكذيبº كما لو قال: إن كلمتك، أو إن لم أخبرك، أو إن لم يكن هذا الخبر صحيحاً، أو إن كان كذباً فعلي الحج أو العتق ونحو ذلك، فهذا النذر يخير بين فعل ما نذره، أو كفارة يمينº لحديث عمران بن حصين قال سمعت رسول الله - صلى الله غليه وسلم - يقول: \"لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين\"(17).

3- نذر المباح: كما لو نذر أن يلبس ثوبه، أو يركب دابته، ويخير بين فعله وبين كفارة يمين إن لم يفعل كالقسم الثاني. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنه لا شيء عليه في نذر المباحº لما روى الإمام البخاري: \"بينما النبي - صلى الله غليه وسلم - يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم، وأن يصوم، فقال: مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه\"(18). فلم يأمره النبي {بالكفارة.

4- نذر المعصية: كنذر شرب الخمر، وصوم أيام الحيض للمرأة وصوم يومي العيدين، فلا يجوز الوفاء بهذا النذرº لقول النبي - صلى الله غليه وسلم -: \"من نذر أن يعصي الله فلا يعصه\" فدل هذا الحديث على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية، لأن المعصية لا تباح في حال من الأحوال.

ويكفر كفارة يمين عند بعض أهل العلم وهو مروي عن ابن مسعود وابن عباس وعمران بن حصين وسمرة بن جندب - رضي الله عنهم -. وفي حديث ابن عباس مرفوعاً: \"من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين\" وإسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه(19).

وذهب جماعة من أهل العلم إلى عدم انعقاد نذر المعصية، وأنه لا يلزمه به كفارة يمين، وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي واختيار ابن تيمية(20).

أدلتهم:

قال الرسول - صلى الله غليه وسلم -: \"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه\"(21).

1- وجه الاستلال: أخبر بحرمة الوفاء بنذر المعصية، ولم يذكر في الحديث كفارة يمين على الناذر.

2-قوله - صلى الله غليه وسلم -: \"لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد\"(22).

فالحديث يقيد عدم انعقاد نذر المعصية، وبالتالي لا يلزمه شيء.

قول الرسول - صلى الله غليه وسلم -: \"لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد\"(23).

قال ابن قدامه بعد أن ذكر حديث أبي إسرائيل: حجتنا أن النبي - صلى الله غليه وسلم - لم يأمره بالكفارةº لأن النذر التزام بالطاعة، وهو التزام بالمعصيةº ولأنه نذر غير منعقد فلم يوجب كاليمين غير المنعقد\"(24).

وأدلة القائلين بعدم الكفارة قويةº لعدم انعقاد نذر المعصية(25).

وهو اختيار ابن تيمية وابن قدامة - رحمهما الله - تعالى - واختار الشيخ ابن باز - رحمه الله - تعالى - أن عليه الكفارة، لورود نصوص صحيحة عن الصحابة(26).

5- نذر التبرر: وهو نذر الطاعة، كفعل الصلاة، والصيام، والحج، ونحوه، سواء كان مطلقاً أي غير معلق بشرط أو معلقاً على حصول شرطº كقوله إن شفى الله مريضي فلله عليّ كذا، فإذا وجد الشرط لزمه الوفاء بهº لعموم الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالنذر.

قال ابن القيم - رحمه الله - في الإعلام: \"ليس فيه إلا البر أو الحنث ولا كفارة فيه\"(27).

 

قضاء النذر عن الميت:

لو نذر مسلم أن يصوم، أو يتصدق، أو يعتمر، أو يحج، أو يصلي نافلة أو أن يعتكف يوماً أو غير ذلك من الطاعات فمات دون أن يتمكن من الوفاء بنذره، فإذا كان النذر مالياً فإنه لا يبطل بموت الناذر، ويؤخذ من رأس تركته في قول جمهور الفقهاء. قال ابن حجر: \"وقد ذهب الجمهور إلى أنه من مات وعليه نذر مالي فإنه يجب قضاؤه من رأس ماله، وإن لم يوص إلا إن وقع النذر في مرض الموت، فيكون من الثلث، وشرط المالكية والحنفية أن

يوصي بذلك مطلقاً\"(28).

ويقول الحنابلة: إن من نذر صدقة أو عتقاً أو غير ذلك من الطاعات ومات قبل فعله لا يسقط بموته، ويجب على الولي عنه فعله إذا ترك مالاًº لأن النذر دين، وقضاء الدين على الميت لا يجب على الوارث ما لم يخلف الميت تركة، يقضي بها، سواء أوصى بذلك أو لم يوص(29).

ويقول ابن رجب في قواعده: \"ومنها: إذا مات وعليه عبادة واجبة تفعل عنه بعد موته، الحج، والمنذورات، فإن الورثة يفعلونها عنه، ويجب عليهم ذلك إن كان له مال... \"(30).

أما النذر غير المالي فقد اختلف الفقهاء - رحمهم الله - في حكم سقوطه بموت الناذر، فإذا كان النذر حجاً ومات الناذر قبل الإمكان من أدائه لأي عذر من الأعذار الشرعية التي طرأت عليه فلا شيء عليه وهذا لا خلاف فيه(31).

وأما إذا مات بعد أن تمكن من أدائه ولم يحج فلا يسقط بموته، ويجب على الورثة قضاؤه من تركته بأن يحج ويعتمر عنه، فإذا لم تكن له تركة بقي الحج في ذمته، ولا يلزم الورثة الحج عنه، وهذا عند الشافعية(32) والحنابلة(33) والظاهرية(34) ويقول الحنفية والمالكية: إن الحج المنذور يسقط بوفاة الناذر، ولا يلزم ورثته، ولا يؤخذ من تركته شيء لأجل ما وجب عليه من الحج إلا إذا أوصى بذلك(35) والصواب أنه لا يلزم الورثة الحج، أو أداء أي عبادة عن الميتº لأن العبادة لا تؤدى إلا من الإنسان نفسه، وهذا هو الأصل، فلا ينوب أحد عن غيره فيها إلا إذا أمر، أو أوصى بذلك، وعلى كل حال فإن عمل الغير لا يسد محل الفرض الواجب عن الميتº ولكن إذا فعل ذلك كان له فيه خير، وزيادة أجر، ولا شر فيه.

عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: \"إن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله غليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: \"نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ أقضوا الله فالله أحق بالوفاء\"(36).

فإذا كان النذر صوماً وتمكن الناذر من قضائهº فإنه لا يسقط بموته ويصوم عنه وليه عند الحنابلة والظاهرية والشافعية وهو قول ابن عباس والليث وأبي ثور(37).

وفرق الحنابلة بين صوم النذر والصوم الواجب كقضاء رمضان بأن للولي أن يصوم عن الميت صوم النذر ولا يقضي عنه رمضان، بل يطعم عنه.

يقول ابن القيم: \"وفصلت طائفة فقالت: يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي، وهذا قول ابن عباس وأصحابه، والإمام أحمد وأصحابه، وهو الصحيحº لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة فكما لا يصلي أحد عن أحد، ولا يسلم أحد عن أحدº فكذلك الصيام، وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين، فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دينه\"(38).

وإذا كان النذر صلاة أو اعتكافاً فإن الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة(39) يرون أن الصلاة الواجبة بالنذر تسقط بموت الناذر، فلا يصلي أحد عن الميتº لأن الصلاة عبادة بدنية لا تدخل فيها النيابة.

 

ــــــــــــــ

الهوامش:

1- أسهل المدارك (32/2) مغني المحتاج (321/4).

2- السلسبيل (263/3) الملخص الفقهي (85/2).

3- المحلى (329/8) المغني (3/10) السلسبيل (14/3).

4- أخرجه مسلم (1260/2).

5- رواه البخاري (227/4).

6- مغني المحتاج (354/4).

7- سبل السلام (11/4).

8- فتاوى إسلامية (486/3) الملخص الفقهي (485/2).

9- أخرجه البخاري (159/4).

10- أخرجه مسلم (103/11) وأبو داود (3316).

11- رواه البخاري (20/2) ومسلم (1264/2) وأبو داود (3299).

12- فتح الباري (589/11).

13- المغني (30/10).

14- الإقناع (358/8) والإنصاف (122/11).

15- رواه أحمد وابن ماجة والثلاثة انظر: الإرواء (2586) وصحيح الجامع (4488).

16- رواه أحمد وسعيد بن منصور في سننه وهو ضعيف، راجع: الإرواء (2587).

17- رواه البخاري (512/11) في الأيمان والنذور الموطأ (475/2) وأبو داود (3300).

18- رواه أبو داود (3322) وابن أبي شيبة (173/4) وهو ضعيف مرفوعاً وصحيح موقوفاً.

19- أخرجه أبو داود (3312) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (845).

20 - الملخص الفقهي (487/2) السلسبيل (266/3).

21- أخرجه مسلم (1262/3) وأبو داود (3316) والنسائي (197).

22- رواه البخاري (228/4) ومسلم (1965/4).

23- فتح الباري (585/11).

24- المغني (28/10).

25- الملخص الفقهي (487/2)، السلسبيل (266/3) وهو اختيار ابن قدامه وكثير من الأصحاب.

26- شرح بلوغ المرام \"الأيمان والنذور\" الشريط الأول.

27- إعلام الموقعين (390/4).

28- فتح الباري (368/8).

29- المحلى لابن حزم (375/8).

30- فتح القدير (470/10) بداية المجتهد (320/1) القواعد لابن رجب (344).

31- المغني (28/1) والمحلى (412/6) والمجموع (396/6) وشرح الزركشي (2020200/7).

32- ما سبق.

33- ما سبق.

34- ما سبق.

35- ما سبق.

36- رواه البخاري (1852).

37- المغني (38/10).

38- إعلام الموقعين (391/4).

39- المجموع (994/8) والمغني (28/10) وشرح الزركشي (204/7).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply