أين المشــــتاقون


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي يعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار وعدد قطر الأمطار وعدد ورق الأشجار.

الحمد لله الذي جعل الجنة لمن أطاعه وان كان عبدا حبشيا والنار لمن عصاه وان كان حرا قرشيا.

اختار من خلقه للجنة سكانا واصطفاهم، ومن بين جميع الخلائق وهم في أصلاب آبائهم هيأهم لها واجتباهم، ولا يظلم ربك أحدا شيئا، خلق جنة عدن بيده لبنة ذهب ولبنة فضة، بلاطها المسك الاذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران، فقال لها: انطقي فقالت: (قد افلح المؤمنون).

 أحمده سبحانه بجميع محامده التي لا يبلغ المحصون لها تعدادا، وأشكره على نعمه الوافرة وخيراته المتكاثرة شكرا يليق بعظمته ومجده، سبحانه هل تعلم له سميا، وأشهد إلا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله ربه بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

 

 صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله و أحذروا بطشه وغضبه فإن أجسامكم على النار لا تقوى ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)).

 

 أيها المسلمون: الحديث عن النعيم المقيم، والأيمان الراسخ بالتنزيل الكريم من الغفور الرحيم هو سلوة الأحزان وحياة القلوب وحادي النفوس ومهيجها إلى ابتغاء القرب من ربها ومولاها.

 

الحديث عن النعم والرضوان لا يسأمه الجليس ولا يمله الأنيس.

 

أيها المسلم: اعلم أن الله - تعالى - أعد لأوليائه في جناته النعيم المقيم، وجمع لهم فيها بين الأمن والخلود والنعيم والبهجة وأصناف اللذة والسرور.

 

 ففي الصحيحين من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((قال الله - عز وجل -: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ثم تلا...

 

((فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءا بما كانوا يعملون)).

 

 وقال - صلى الله عليه وسلم - ((ألا هل مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانه تهتز وقصر مشيد، ونهر مطير، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة.....).

 

 ثم اعلم يا عبد الله: أن الجنة من يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت ، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه.

 

 وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم إن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبئسوا أبدا فذلك قول الله - عز وجل -: ((ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)).

 

 فإن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران وعن سقفها فهو عرش الرحمن وملاطها المسك الأذفر وعن حصباؤها فهي اللؤلؤ والجوهر.

 

بناؤها لبنة من فضة ولبنة من ذهب، ما فيها شجرة إلا وساقها من ذهب وفضة، فيها انهار من لبن لم يتغير طعمه وانهار من خمر لذة للشاربين وانهار من عسل مصفى وانهار من ماء غير آسن.

 

 طعام أهلها فاكهة مما يتخيرون ولحم طير ما يشتهون وشرابهم التسنيم والزنجبيل والكافور في آنية الذهب والفضة.

 

 فيها شجرة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها ، وسدرها مخضود شوكه، جعل مكان كل شوكة ثمرة تفتق على اثنين وسبعين لونا ، طعام ما فيه لون يشبه الآخر.

 

 وان سـألت عن خيامها وقبابها فالخيمة الواحدة من درة مجوفة طولها ستون ميلا.

 

لباس أهلها الحرير والذهب وفرشهم بطائنها من إستبرق مفروشة في أعلى الرتب على أسرة من ذهب وهم فيها على صورة القمر، أسنانهم متساوية ثلاث وثلاثون سنة، على صورة آدم أبي البشر ستون ذراعا في السماء.

 

 فيها ولدان مخلدون كأنهم لؤلؤ مكنون وان سألت عن عرائس أهل الجنة وأزواجهم فهن الكواعب الأتراب اللاتي جرى في أعضائهن ماء الشباب تجري الشمس من محاسن إحداهن إذا برزت، ويضئ البرق من بين ثناياها إذا تبسمت، لو اطلعت على الدنيا لملأت ما بين السماء والأرض ريحا ولتزخرف لها ما بين الخافقين ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، نصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها، مبرأة من الحبل والولادة والحيض والنفاس مطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس، لا يفنى شبابها ولا تبلى ثيابها ولا يخلق ثوب جمالها.

 

 كلما نظر إليها ملأت قلبه سرورا وكلما حادثته ملأت أذنه لؤلؤا منظوما ومنثورا وإذا برزت ملأت القصر والغرفة نورا.

 

 فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الجنة من ضحكها.

 

 وجاء في الخبر الذي أخرجه أبو نعيم ((إن في الجنة غرفة يقال لها العالية، فيها حوراء يقال لها الغنجة، إذا أراد ولي الله يأتيها أتاها جبريل فناداها فقامت على أطراف أصابعها معها أربعة آلاف وصيفة يحملن ذيلها وذئابها يبخر منها بمجامر بلا نار)).

 

 وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: ((إن في الجنة حوراء يقال لها العيناء، إذا مشت مشى حولها سبعون ألف وصيفة عن يمينها وعن يسارها كذلك وهي تقول: ((أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر)).

 

 وأخرج أيضا عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ((إن في الجنة حوراء يقال لها (اللعبة) لو بزقت في البحر لعذب ماء البحر كله، مكتوب على نحرها من أحب أن يكون مثلي فليعمل بطاعة ربي)).

 

 أيها المسلمون وهل سمعتم عن يوم المزيد زيارة العزيز الحميد، فاستمع يوم يناد المنادي: يا أهل الجنة، إن ربكم - تبارك و تعالى - يستزيركم فحي على زيارته فيقولون: سمعا وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم فيستوون على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الافيح الذي جعل لهم موعدا وجمعوا هناك فلم يغادر الداعي منهم أحدا:أمر الرب - تبارك و تعالى - بكرسيه فنصب هناك ثم نصبت لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة وجلس أدناهم ـ وحاشاهم أن يكون فيهم دنئ ـ على كثبان المسك ما يرون أن أصحاب الكراسي إن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا حتى إذا استقرت بهم مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم بادى المنادي: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم تبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟.

 

فينما هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت لـه الجنة فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه قد اشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام، ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال الإكرام

 

 فيتجلى لهم الرب - تبارك و تعالى - يضحك إليهم ويقول: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟.

 

 فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة، إن قد رضينا فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة أنى لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فاسألوني فيجتمعون على كلمة واحدة أرنا وجهك ننظر إليه.

فيكشف لهم الرب جلا جلاله الحجب ويتجلى لهم فيغشاهم من نوره ما لوا أن الله - تعالى - قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه - تعالى - محاضرة، حتى انه ليقول: يا فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا يذكره ببعض عثراته في الدنيا، فيقول: يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه.

 

فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة.

 

فاسمع إذا أوصافها وصفاتها *** تيك المنازل ربة الإحســان

يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسـلان

يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألـف واحــد لا اثنان

يا سلعة الرحمن أين المشتري فلقد عرضت بأيسر الأثمان؟

يا سلعة الرحمن هل من خاطب فالمهر قبل الموت ذو إمكان

 

 اللهم يا من فتح بابه للطالبين وأظهر غناه للراغبين، اجعل مآلنا إلى دار المقربين وكتابنا في عليين مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واعزنا من عذابك وانتقامك يا رب العالمين.

 

اللهم وأجعنا من مجاوريك في جنات النعيم.

 

آمين،,,

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي ملأ قلوب أحبته من سر محبته سرورا وكسا وجوههم حين اشتغلوا بخدمته بهجة ونورا، وهداهم إلى طريق معرفته فداوموا على خدمته وما بدلوا تبديلا.

 

أحمده سبحانه وأشكره على ما أولاه من الأنعام واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام شهادة أرجو بها أن يجعل ذنبي مغفورا.

 

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للأنام: وداعيا إلى دار السلام، صاحب اللواء المعقود والمقام المحمود والحوض المورود.

 

 صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

 

 أما بعد:

 فقد روى الإمام مسلم في الصحيح عن المغيرة بن شعبة رفعه قال (سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجئ بعد ما ادخل أهل الجنة الجنة، فيقال لـه: أدخل الجنة، فيقول: أي رب كيف ادخلها وقد نزل الناس منازلهم واخذوا أخذاتهم فيقال لـه: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول ك رضيت رب فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول هذا لك وعشرة أمثاله. ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول: رضيت رب.

 

قال: رب فأعلاهم منزلة فقال: ((أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع إذن ولم يخطر على قلب بشر)) مسلم

 

عباد الله: أرأيتم حال أدنى أهل الجنة منزلة انه نعيم عظيم، فما بالكم بأعلاهم.

 

فحي على جنات عـدن فــإنها ***  منازلك الأولي وفيها الأولى وفيها المخيم

وحـي عـلى يوم المزيد الذي به ***  زيــــارة رب العرش فالــــيوم موســم

فبينما همو في عيشهم وسرورهم *** وأرزاقهم تجـــري علــــيهم وتقســم

إذا هم بنور ساطع أشرقت لـه *** بأقـــطارهــا الجـــنات لا يتـــوهـــــم

تجلى لهم رب السماوات جهرة *** فيضحـــــك فــوق العـــرض ثم يكلـم

سلام عليكم يسمعون جميعهم ***  بآذانــهم تســـليمـه إذ يســــــلــم

فيا بائـعا هــذا ببخــــس معجــل *** أنك لا تدري بلى سـوف تعـــلـــم

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply