بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون
رمضان شهر القرآن، ولذا تعظم في هذه الأيام الصلة بكتاب الله - جلَّ علا- تلاوةً واستماعاً وتدبٌّراً وانتفاعاً، ونجد أن من المناسب أن نتحدث في هذا الموضوع العظيم، الذي نحتاج فيه إلى تأملٍ, وتدبٌّر، وإلى محاسبةٍ, ومراجعة.
لأن هذا القرآن العظيم دستور الأمة، الذي جعله الله - عز وجل - ضياءً لها يبدد لها كل الظلمات، وجعله منهجاً لها يعصمها عن الانحرافات، وجعله حياةً لقلوبها، ونوراً لعقلوها، وتقويماً لسلوكها، وجعل فيه خير الدنيا، ويكون به نعيم الآخرة بإذن الله – عزوجل -... يقول الحق - جل وعلا - في هذه النعمة العظيمة والمنة الكبيرة {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيرا}.
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم على إطلاق هذا اللفظ، فهو يهدي للتي هي أقوم في شأن الفرد، وفي شأن المجتمع والأمة، يهدي للتي هي أقوم في شأن الاقتصاد، وفي شأن الحكم، وفي شأن الحياة الاجتماعية، وفي شأن الحياة التعليمية، وفي كل ضربٍ, من ضروب الحياة، يهدي للتي هي أقوم فيما يتصل بالقلوب، وفيما يتصل بالعقول، وفيما يتصل بالألفاظ والكلمات، وفيما يتصل بالحركات والسَكَنَات، يهدي للتي هي أقوم في كل شيءٍ, يتصل بالإنسان في هذه الحياة، يهدي للتي هي أقوم في التصورات التي يدرك بها المؤمنون قيمة الحياة وما وراء الحياة فهو كتاب هدايةٍ, كاملةٍ, شاملةٍ, تامة تتناول أعماق القلوب، وخفايا النفوس، وواقع الحياة ومستقبل الأيام وما بعد هذه الحياة الدنيا كلها.
ويقول الحق - جل وعلا - في سياق المنة على هذه الأمة المحمدية: {وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين} هو شفاءٌ للأمراض والأسقام الحسيَّة المادية، وهو شفاءٌ لأمراض القلوب وعلل النفوس وأخطاء الأهواء.
فهكذا جعله الله - سبحانه و- تعالى - لمن آمن به واتصل به وتدبَّر معانيه وأخذ بأحكامه، وهو رحمة الله - سبحانه و تعالى - لهذه الأمة، بل لهذه البشرية كلها لأنه - سبحانه و تعالى - هو العليم بخلقه {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} فهو العليم بخلقه، أنزل لهم ما يصلح حياتهم من شرعه، ولذلك كانت الرحمة العظمى بهذا القرآن العظيم كما أخبر النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما من نبيٍ, إلاَّ وأوتي ما على مثله آمن قومه وكان الذي أوتيته وحياً يُتلى إلى يوم القيامة).
معجزةٌ خالدةٌ على مدى الأزمان، معجزةٌ محفوظةٌ بحفظ ربنا الرحمن: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} ويقول الحق - جل وعلا -: {يا أيها الناس قد جاءكم برهانٌ من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبينا}.
القرآن هو النور والضياء الذي يكشف ظلمات الشبهات، والذي يبدد بهرج الشهوات، هو النور الذي تعرف به مقياس هذه الحياة، وتعرف به القيم الربانية التي جعلها الله - عز وجل - في هذا الكتاب العظيم {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. به تزن الناس، وبه تعرف تقويم الأشخاص، والعمل به ينير لك كل أمرٍ, يخفى عليك بعضه أو كله، به تعرف أمر الله - جل وعلا - وحكمته في كل ما تحتاج إليه وقال الله - سبحانه و تعالى -: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء}.
هذا القرآن هو روح الأجساد.. فما قيمة الجسد إذا سُلبت منه الروح، إن الجسد إذا فارقته الروح أنتن وأصبح جيفةً تعافها النفوس، وتوقف فلا حركة ولا انطلاق ولا عمل ولا إنتاج والقرآن حقيقةً هو حياة القلوب، إذا سُلب القرآن من القلب فإن الإنسان يغدوا ميتاً وإن كان يدبٌّ دبيب الأحياء، ويفتقد الحركة البصيرة.. لأنه حينئذٍ, يخبط خبط عشواء ويتردى في الظلمات، ويوغل في الشهوات والمحرمات، ويغرق في الانحرافات،ويغوص في الملذات، فيُغشي ذلك على قلبه، ويعمي بصيرته، ويطفئ نور الإيمان في نفسه، فيغدوا حينئذٍ, كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قلبه كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلاَّ ما أُشرب من هواه).
إذاً هذا هو القرآن العظيم، في بعض ما وصف الله - جل وعلا - لنا فهو الهداية، وهو كما أخبر - عز وجل - – الشفاء، وهو الرحمة،وهو النور، وهو الحياة.. فكيف يمكن لنا أن نحيا في هذه الدنيا بلا حياةٍ, وبلا نورٍ, وبلا رحمةٍ, وبلا هدايةٍ, وبلا شفاء؟! إننا حينئذٍ, نحكم على أنفسنا وعلى حياتنا بالتعاسة والشقاء ونحكم على واقعنا بالظلم والظَلماء، وهذا هو سر ما يتخبَّط فيه المسلمون بقدر ابتعادهم عن كتاب الله - جل وعلا -.
لننظر أيها الإخوة الكرام - ونحن في شهر القرآن - إلى المصطفى – صلى الله عليه وسلم - كيف تلقَّى هذا القرآن! وكيف كانت صلته به! وكيف نقل ذلك إلى أصحابه الكرام - رضوان الله عليهم - أجمعين.
في صحيح البخاري ما يخبرنا به النبي - عليه الصلاة والسلام - عن أول نزول الوحي، عن اللحظة التي اتصلت فيها الأرض بالسماء،عن أول شعاعٍ, لتبديد الظَلماء.
يخبرنا النبي - عليه الصلاة والسلام - أن جبريل جاءه وهو في غار حراء، حيث كان يخلوا بنفسه يتأمل في ملكوت الله - جل وعلا - حيث كان يخلوا بنفسه، يتحنَّث الليالي ذوات العدد، كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - فجاءه جبريل - عليه الصلاة والسلام - فقال له:\"اقرأ\"فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ما أنا بقارئ - أي لا أعرف القراءة – قال: فأخذني فضمني فَغطَني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني أي أطلقني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني ثانيةً حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال لي اقرأ قلت ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم * الذي علَّم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم}.
فكان إشراق النور القرآني الرباني،من كلام الله - سبحانه و تعالى - وهذا النزول الأول يدل على عظمة ما في هذا القرآن من رسالة، وعلى عظمة ما فيه من دستور، وعلى عظمة ما فيه من آدابٍ, وأحكامٍ, وتعليماتٍ, وإرشادات، ولذلك نزل على هذه الصورة من الشدة والقوة حتى يتهيأ قلب المصطفى – صلى الله عليه وسلم - لحمل هذا الكلام الرباني العظيم.. لحمل هذه الرسالة الخالدة التي يخالف بها الخلق أجمعين، والتي يواجه بها جميعاً الكفار والمعتدين، هكذا كان كما قال الله - عز وجل -:{يا يحيى خذ الكتاب بقوة} فليس أمر القرآن هيناً سهلاً حتى نتهاون فيه.
هكذا بذرت البذرة الأولى في رسول الله – صلى الله عليه وسلم - مَن قَدَح في قلبه التعلق بالقرآن فإذا به من شدة لهفته، ومن عظيم حرصه - عليه الصلاة والسلام - إذا نزل عليه الوحي، ونزل عليه جبريل بالقرآن يسابق الوحي بتَرداد الآيات رغبةً في حفظه وضبطه، وتعلقاً به من أعماق قلبه، حتى نزل قوله - جل وعلا -: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يكتفي بذلك التلَقِّي، وإنما كان ينشر هذا القرآن فيتلوه في الصلوات، ويعلمه للصحابة، كما قال ابن مسعودٍ, - رضي الله عنه -–\"حفظت من فم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - سبعين سورةً من القرآن\".
النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام - قائد الأمة والذي كانت عنده المهمات العظيمة. كان يجعل من وقته جزءاً يعلم فيه أصحابه كتاب الله - جل وعلا - ثم إن تعلقه العظيم بهذا القرآن لم يقتصر فيه على هذا، وإنما كان يحب أن يستمع القرآن، لقد امتلاء به قلبه ونطق به لسانه فأراد أن يشنِّف به آذانه - عليه الصلاة والسلام -.
روى أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لقيه وقال له: (لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) كان يأتي وينصت إلى قراءة أبي موسى، لأنه كان حسن الصوت، جيد التلاوة. وفي بعض الروايات قال أبو موسى: \"أما إني لو علمت أنك تسمعني لحبَّرته لك تحبيرا\"- أي لزدت في الإتقان وفي حسن الصوت وجمال التلاوة -.
ثم ها هو النبي – صلى الله عليه وسلم - يلقى ابن مسعود فيقول له: (اقرأ عليَّ القرآن) فيقول: أقرأ عليك وعليك أُنزل يا رسول الله؟ قال: (نعم فإني أحب أن أسمعه من غيري) فقرأ عليه ابن مسعود من أول النساء حتى إذا بلغ قول الحق - جل وعلا - {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا * يومئذٍ, يودُ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوَّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا} قال ابن مسعود: فقال لي: (حسبك.. حسبك) فنظرت فإذا عيناه – صلى الله عليه وسلم - تذرفان بالدموع. وفي حديثٍ, آخر أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لقي أبيَّ ابن كعبٍ, فقال له: إني أمرت أن أقرأ عليك قل يا أيها الكافرون. قال أو قد سمَّاني الله لك. قـال: نعم فبكى أبيّ ابن كعب من هذه الفضيلة العظيمة، وهذا الشرف العظيم الذي كان له بفضل الله - جل وعلا - ثم بفضل ما حمل من القرآن وأتقن منه.
هكذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم - متعلقاً في التلقي، يعلِّم أصحابه.. يسمع منهم، يتدارسه معهم، يحيي به هذه الحياة كلها. ثم إن النبي - عليه الصلاة والسلام - ربط أصحابه والأمة من بعدهم بهذا القرآن ربطاً وثيقاً قويا، حتى لا تنفصم عرى صلتهم به، وحتى لا يضعف تلقِّيهم له، فلذلك جعل الخيرية المطلقة في هذه الأمة مرتبطةً بكتاب الله - عز وجل - كما في صحيح البخاري من حديث عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه).
خير هذه الأمة من كان مشتغلاً بالقرآن، وإن كان عظيما، وإن كان ذا جاهٍ, أو سلطان، فسنذكر من سيرة الأصحاب - رضوان الله عليهم - أن شرف هذه الخيرية ما شغلهم عنه شاغل، ولا صرفهم عنه صارف، وإن قادوا الجيوش، وإن حكموا الديار والبلاد فإن ارتباطهم بالقرآن، وحرصهم على هذه الفضيلة العظيمة، ما قعد بهم عنها شيءٌ مطلقـا، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل التقديم في أعظم أمرٍ, من أمور هذا الدين مرتبطاً بالقرآن العظيم، أعظم ركنٍ, بعد الشهادتين ركن إقام الصلاة قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله) ولذلك جُعلت هذه الفضيلة شرفاً، وجُعلت خصيصةً، وجُعلت حكماً فقهياً يُقدَّم به الأولى في حفظ كتاب الله - جل وعلا - حتى ترتبط الأمة بكل ما يتعلق به الأجر والثواب، وكل ما يتعلق به الشرف في هذه الحياة الدنيا بالنسبة لهذا الدين، ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم- ربط الأمر في أعظم أمور الدنيا وهي أمور الولايات أيضا بالقرآن وفَهمه وتلقِّيه.
ورد في صحيح مسلم أن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه- لقي أميره أو واليه على مكة في موسم الحج فقال: من خلَّفت على أهل مكة؟ قال: خلَّفتُ فيهم ابن أبزا. قال: ومن ابن أبزا هذا؟ قال: مولى من موالينا- أي كان أصله من العبيد والرقيق - فقال عمر - رضي الله عنه -: خلَّفت على أمر مكة مولى - أي ما وجدت غيره كأنه لم يرضى ذلك أول الأمر - فقال له: يا أمير المؤمنين إنه... وبدأ يسرد له قائمة المؤهِلات والشهادات، فلم يذكر إلاَّ شيئاً واحدا أنه قارئٌ لكتاب الله - تعالى -. فقال عمر - مؤيِداً ومؤكداً ومدللاً على صحة هذا النهج -: أما إني سمعت نبيكم – صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن هذا الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين).
فالرفعة في الحياة الدنيا، والرفعة في أمور الدين مرتبطة بهذا القرآن العظيم.
ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم- في أمور الحياة العادية التي مرَّت به بين أصحابه بيَّن لهم الفضيلة والعظمة في هذا القرآن، ففي الحياة الاجتماعية يأتينا المثل الذي ورد في الصحيحين وغيرهما عن المرأة التي جاءت تهب نفسها للنبي – صلى الله عليه وسلم- ليتزوجها والنبي جالسٌ في بعض أصحابه، ولم يكن للنبي - عليه الصلاة والسلام - بها حاجة فظلَّت المرأة واقفة والنبي – صلى الله عليه وسلم- ساكتٌ.ثم قام رجلٌ من الناس وقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال - عليه الصلاة والسلام -: التمس شيئاً - يعني تقدِّمه مهراً لهذه المرأة - فذهب فقال: يا رسول الله لا أجد شيئاً فقال له - عليه الصلاة والسلام -: التمس ولو خاتماً من حديد قال: يا رسول الله ولا خاتماً من حديد - ليس عنده شيءٌ - أبدا فسكت النبي – صلى الله عليه وسلم - حتى انصرف الرجل ثم قـال: ردٌّوه عليَّ فقال: هل معك شيءٌ من القرآن قال: نعم معي سورة كذا وكذا. فقال - عليه الصلاة والسلام -: زوجتكها على ما معك من القرآن. فكان مهرها أن يعلمها كتاب الله - جل وعلا -.
وحتى عند الوفاة والموت كان النبي يعلِّم الأمة التقديم بهذا القرآن فقد ورد أنه - عليه الصلاة والسلام -عندما انجلت معركة أحد وجاء يدفن شهداء الصحابة، كان يضع الرجلين والثلاثة في القبر الواحد. فإذا جيء بهم سأل: أيهم كان أقرأ للقرآن؟ فإذا دُلَّ عليه قدَّمه في اللحد والقبر، ليُعلِّم الأمة ويربطها بهذا القرآن وفضيلته وشرفه.فأي شيءٍ, انعكس على الصحابة حينئذٍ,! وأي أمرٍ, ظهر في حياتهم من أثر القدوة في سيرته - عليه الصلاة والسلام - ومن أثر هذه التوجيهات التي تشدٌّ القلوب، وتربطها بالقرآن، وتجعل مسيرة الحياة كلها تبعٌ لهذا القرآن.
انظر إلى صحب محمد – صلى الله عليه وسلم- كيف كانت صلتهم به في ملامح سريعة، وفي ومضات قليلة، هذا عبد الرحمن السُلَمي يحكي سيرة الأصحاب - رضوان الله عليهم - يقول: كان الذين يعلموننا القرآن من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لا يتجاوزون بنا العشر من الآيات حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل فتعلَّمنا العلم والعمل جميعا.
هذه المنهجية التي تربَّى عليها الأصحاب الكرام، والتي نقلوها للتابعين من بعدهم آياتٌ تُتلى، وتفسيرٌ يُروى، وعملٌ يُحكى في واقع الحياة. هكذا كانوا ولذلك يقول أنس – - رضي الله عنه -: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جدَّ في أعيننا - أي صار في أعيننا عظيماً شريفاً- لا لجاهٍ, ولا لمالٍ, ولا لسلطانٍ, وإنما بما يجمع من كتاب الله - عز وجل - بما يتقدَّم في هذا الشرف العظيم.
ولذلك أيضاً كان من سيرة الصحابة أنهم طبَّقوا هذا المنهج، فهذا أبو موسى الأشعري أحد كبار الولاة الذين ولاَّهم عمر - رضي الله عنه - على البصرة وفي بلاد العراق. يروي عنه أصحابه وهو أميرٌ يمارس الحكم والقضاء بين الناس أنه كان يجلس في مسجد المدينة يُقرأ القرآن أربعين سنة، أربعون سنة والحاكم معلِّمٌ لكتاب الله - عز وجل -! أربعون سنة والصحابي الجليل ما نسي قولـة النـــبي – صلى الله عليه وسلم-: (إنك أوتيت مزماراً من مزامير آل داود). ما شغلهم عن ذلك شاغل، ولذلك كانوا وقَّافين عند حدود الله - عز وجل - فهذا عيينة ابن حِسنٍ, الفزاري يأتي إلى ابن أخيه الحُرِ بن قيس ويقول له: إن لك عند هذا الرجل - أي عمر- رضي الله عنه -مكاناً فاستأذن لي عليه، فيستأذن له على عمر وكان عيينة شديداً جافياً غليظا فدخل على عمر وقال هيه يا ابن الخطَّاب والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، كلماتٍ, قاسية جافية مُباعدةٍ, للحق، فغضب عمر - رضي الله عنه - وهمَّ أن يبطش به، وحسبك ببطش عمر بطشا فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين إن الله أمر نبيه – صلى الله عليه وسلم- فقال: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وإن هذا من الجاهلين. قال الحر بن قيس: فوا الله ما تجاوزها عمر – - رضي الله عنه - وكان وقاَّفاً عند حدود كتاب الله - جل وعلا - هكذا كانت الآية تردٌّهم عن الفعل الذي يُقدمون عليه وتنهضهم عن الفعل الذي يُقصِّرون فيه. كان القرآن يحدو حياتهم ويسيِّر مسيرتهم ولذلك انطلقوا بهذا القرآن أعظم انطلاق كما ورد في الحديث عن البراء - رضي الله عنه - أنه قال: - لنرى كيف كانت قلوب الصحابة وتعلٌّقهم بالقرآن - كان رجلٌ يقرأ سورة الكهف، وفرسه إلى جواره مربوطةٌ، فلما قرأ القرآن نزلت سحابة فتغشته وأضلته - أي اقتربت منه - فجعل فَرَسُه ينفر منها فسكت، ثم أخـبر النبي – صلى الله عليه وسلم- فقال: (تلك الملائكة تنـزَّلت تستمع لقراءتك) وفي غير الصحيح - أي في غير صحيح البخاري - أن هذا القارئ كان أسيد ابن حضير - رضي الله عنه - وأنه سكت فسكنت، ثم قرأ فتحرَّكت ثم سكت فسكنت فقال النبي – صلى الله عليه وسلم-: (تلك الملائكة تنزلت تستمع لقراءتك ولو قرأت لأصبحت والناس يرونها في الطرقات). هكذا كان صحب النبي – صلى الله عليه وسلم-.
وانظر إلى الصور العظيمة، التي تبين لك أن القرآن كان هو روح هذه الحياة في عصر الصحابة - رضوان الله عليهم - هذا الخبر في صحيح البخاري عن الأشعريين قومِ أبي موسى - رضي الله عنه - قومِ الذي أوتي مزماراً من مزامير آل داود، يخبر عنهم الراوي أنهم كانوا إذا نزلوا المدينة، علم الناس الذين لم يرون قدومهم. قال: إني أعلم قدوم الأشعريين ومنازلهم بالمدينة ولمَّا أرهم، كيف يعرف أنهم جاءوا ولم يرهم ولم يسمع بذلك؟ قـال: كانوا يدوّوُن بالقرآن كدويِّ النحل في الليل. فعلامتهم التي يعرف الناس قدومهم بها إذا جاءوا من بلادهم اليمن ونزلوا المدينة ليلقوا النبي – صلى الله عليه وسلم- يعرف الناس قدومهم بهذه التلاوات التي يضجون بها في الليل يحيون بها ليلهم ويعبدون بها ربهم.
وجاء المبعوث من سعد ابن أبي وقَّاصٍ, - رضي الله عنه - إلى عمر الفاروق يبشِّره بفتح القادسية وجاء له بخطابٍ, من سعد يقول له -في شأن من استشهد من المسلمين-: مات فلانٌ وفلانٌ من الناس ممن لا تعلمهم، والله بهم عالم كانوا يدوّوُن بالقرآن في الليل كدويِّ النحل، أين هذا؟! في أوقات المعارك عند احتدام القتال وعند تلاحم الصفوف!
كانت حياتهم بالقرآن واستعانتهم به بعد الله - جل وعلا - ليَنشَطوا وليتذكروا كلام الله - جل وعلا - وكان قوَّاد جيوش المسلمين يجعلون لكل كتيبةٍ, قارئا، فإذا حمي الوطيس كان يقرأ سورة الأنفال لتحيا معاني الإيمان في القلوب ولتشتدَّ الحمية لهذا الدين في النفوس.
هذه صورةٌ لِما كان عليه مجتمع الصحابة - رضوان الله عليهم - لنرى ما نحن فيه وما كانوا عليه ونٍ,سأل الله - عز وجل - أن يلحقنا بهم، وأن يجعلنا مقتدين على آثارهم ونسأله أن يجعلنا ممن يرتبطون بالقرآن تلاوةً وتدبراً وعملاً ودعوة إليه أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى اللهº فإن تقوى الله أعظم زادٍ, يقبل به العبد على مولاه وأن منبع التقوى كتاب الله - جل وعلا - فتزودوا منه فإن خير الزاد التقوى.
لننظر - أيها الإخوة - في هذه الوقفة الوجيزة عن صلتنا وواقعنا مع كتاب ربنا في هذه الأوقات.
لننظر ما خاطبنا الله - عز وجل - به وما أمرنا به وكيف حالنا مع كتاب ربنا، وإنها لفرصةٌ أن نتذاكر هذه المعاني في هذه الأوقات الفاضلة في شهر رمضان، شهر القرآن لنؤكد هذه المعاني في واقع حياتنا العملية، علَّها أن تكون عوناً لنا على أن نثبت عليها وأن نمضي في إثرها لا نرجع عنها ولا نتوقف فيها بإذن الله – عز وجل -.
هذا الأمر القرآني الرباني للرسول الكريم ولأمته من بعده {وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرآن} أول أمرٍ, تلاوة هذا القرآن، وقد يقول بعض الناس إنهم لا يحسنون التلاوة فنقول إن الله -جل وعل-ا قال: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكر} ثم ما عليك - يا أخي - ألست تُفرِّغ جزءً من وقتك لعملك الذي تكسب به رزقك؟ ألست تفرِّغ جزءً من وقتك لأهلك لتقضي حوائجهم؟ ألست تفرِّغ جزءً من وقتك لأصحابك لتزورهم وتأنس بهم؟ ألست تفرِّغ جزءً من وقتك لأشياء وأشياء وأشياء كثيرة؟! أفتفريغ الوقت لتلاوة القرآن الكريم ولتعلمه يكون أهون عليك من كل هذه الأمور العارضة؟ استمع إلى حديث النبي – صلى الله عليه وسلم- الذي يرويه عقبة ابن عامر يقول فيه:جاء إلينا النبي – صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصفَّة - أهل الصفَّة الذين كانوا يلازمون مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم- وكانوا من الفقراء - فأراد النبي – صلى الله عليه وسلم- أن يبين لهم الغنى، وأن يدلهم على طريق الغنائم، فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم-: (أيكم يحب أن يغدوا كل يومٍ, إلى بُطحان - وهو واديٍ, في طرف المدينة - أو العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين من غير إثمٍ, ولا قطيعة رحم).
أيكم يحب أن يذهب مسافة قصيرة ويأخذ ناقتين سمينتين عظيمتين من غير إثم؟ فلا هو سارق ولا قطيعة رحم. ليست لغيره ولا شيء وكانت الإبل هي رأس مال العرب مَن كانت تقدَّر ثرواتهم بعدد ما يملكون من الإبل، وهؤلاء فقراء (أيكم يحب أن يغدوا إلى بُطحان أو العقيق فيأخذ ناقتين كوماوين من غير إثمٍ, ولا قطيعة رحم) قالوا: كلنا يحب ذلك يا رسول الله - من لا يحب هذا الثواب وهذه الغنائم - قال: (فلأن يغدوا أحدكم إلى المسجد كل يومٍ, فيتعلم آيتين من كتاب الله - عز وجل - خيرٌ له من ناقتين كوماوين وثلاثٌ خيرٌ من ثلاث وأربعٌ خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل). انظر إلى هذا فكيف تضيع هذا الأجر وتفوِّت تحقيق الأمر الذي أُمرت به كما أُمر به النبي – صلى الله عليه وسلم- وهو أمر تلاوة القرآن. هل تلقى في ذلك مشقَّة؟هل تجد فيه صعوبة؟ خذ بشارة النبي – صلى الله عليه وسلم- في حديث عائشة في الصحيح (الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به - أي متقنٌ له - مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران).
فأنت في غنيمة هنا أو هناك كيفما كان الحال، فينبغي أن تحرص على أن تؤدي هذا الأمر وهو أمر الصلة بكتاب الله - عز وجل - بتلاوة القرآن. واستمع إلى الحديث الذي رواه الترمذي في سننه عن النــبي – صلى الله عليه وسلم -: (من قرأ القرآن فله بكل حرفٍ, يقرأه حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألف لام ميم حرف ولكن ألفٌ حرف ولامٌ حرف وميم حرف) فأي آيةٍ, تقرأها فعدَّ ما فيها من الحروف واحسب الحسنات وضاعفها إلى العشرات بل لا تحسب شياً فإن الله - عز وجل - يعطي عطاءً عظيماً.
والأمر الثاني يقول الله - جل وعلا - {وهذا كتاب أنزلنه مباركٌ ليدَّبَّروا آياته وليتذكَّر أولـوا الألبـاب} فما نزل هذا القرآن لنهذَّ به هذَّا الشعر، كما قال ابن مسعود في صحيح مسلم:\"لا تهذٌّوا القرآن هذَّا كهذِّ الشعر، ولا يكن همٌّ أحدكم آخر السورة\"كما قد نفعل اليوم فنقرأ حتى تختلط الحروف ونسرع حتى ننتهي في أقلِّ وقت، كلا! بل لا بدَّ أن يكون لنا حظٌ من التدبٌّر فإن الله - جل وعلا - أنزل هذا الكتاب للتدبٌّر ونعى على من لا يتدبَّرُ فيه فقال - جل وعلا -: {أفلا يتدبَّرون القرآن أم على قلوبٍ, أقفالها} {أفلا يتدبَّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا} وبعد التدبٌّر - الذي هو التفَّهم وإدراك المعاني ومعرفة الأحكام والوقوف على الآداب - يأتي الأمر الأهم وهو العمل بهذا القرآن، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داود في سننه: (من قرأ القرآن وعمل بما فيه أُلبس والده تاجاً يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيهم) فما ظنٌّكم بالذي عمل بهذا!.
وأهل الله هم أهل القرآن الذي كانوا يعملون به في الدنيا كما ورد في الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم- فإنما جاء هذا القرآن ليُطبَّق ولينفَّذ في واقع الحياة، وكانت عائشة قد أوجزت إيجازاً بليغاً عظيماً عندما قالت عن النبي – صلى الله عليه وسلم-: \"كان خلقه القرآن\" كنت ترى القرآن في حياته كلها بألفاظه، وكلماته، وأفعاله، وجهاده، ومعاملته لأهله، وفي كل شيءٍ, من الشؤون.
وهكذا ينبغي أن يكون المؤمنون عاملون بكتاب الله - سبحانه و تعالى - ومَن كان على هذا فإنه بإذن الله - عز وجل - ينال الطمأنينة والسكينة واللذَّة والسعادة في هذه الحياة الدنيا، فيشرق قلبه بأنوار الإيمان، ويشيع في نفسه أثر القرآن، وهكذا ينال هذه السكينة في هذه الحياة الدنيا، ثم يكون مآله يوم القيامة كما ورد في الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم-: (يقال للقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر تقرؤها) رواه الترمذي بسندٍ, صحيح.
وكذلك يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- في جمعٍ, نحتاج إلى تذكٌّره في هذه الأيام يقول: (الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما يوم القيامة يقول القرآن أسهرته في الليالي ويقول الصيام أظمأته في الهواجر) فكيف بنا لا نجمع بين هذين الخيرين!نريد أن نبقى مع القرآن في رمضان على هذا النحو، وكذلك بعد رمضان أن نديم التلاوة وأن نجتهد في الفهم والتدبٌّر ومعرفة معاني الآيات وتفسيرها وأن نحرص غاية الحرص على العمل بموجب كتاب الله - عز وجل -.
إنه لا ينبغي أن يكون بين حياتنا وبين هذا الكتاب الكريم تصادمٌ، ولا معارضةٌ، ولا مخالفة كما هو حال كثيرٍ, من المسلمين - إلاَّ مَن رحم الله - في كل الأمور نجد أن القرآن ينادي وأن الآيــات تتلى {قل للمؤمنين يغضٌّوا من أبصارهم} {وقرن في بيوتكن ولا تبرَّجن تبرٌّج الجاهلية الأولى} فأين هذا في واقع الحياة؟ انظر إلى الأوامر القرآنية، انظر إلى التوجيهات الربَّانية، وانظر إلى واقع الأمة الإسلامية. فكلما كان البون شاسعاً فكلما كان الاختلاف كبيراً كلما كانت البلايا والرزايا والمشكلات والمعضلات وكلما كان الأمر هيناً، وكلما كان التقارب عظيماً والانطباق كاملاً وتاماً كلما تحققت أسباب النصر وتنـزَّل الخير من عند الله - عز وجل -.
ولنحذر مما قال الله - عز وجل - على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم-: {وقال الرسول يا ربِ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} هجران القرآن خرابٌ للقلوب، والنبي – صلى الله عليه وسلم- قد قال: (إن الذي ليس في جوفه شيءٌ من القرآن كالبيت الخرب)، كبيت الخرابة لا نفع فيها، ولا نظر إليها، ولا اهتمام بها ولا فائدة منها مطلقاً، ولذلك يخبرنا النبي – صلى الله عليه وسلم- عن حال ما يقع بعده كما في حديث عمران ابن حصين - رضي الله عنه - أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: (مَن قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيأتي أقوامٌ يقرءون القرآن يسألون به الناس). رواه الترمذي وقال حديث حسن،
فلم يعد القرآن مبتغاهم به معرفة أمر الله وطلب رضوان الله والحرص على ثواب الله، بل صرفوا ذلك إلى أشياء أخرى وإلى تبريرات، وإلى جعل القرآن مطـيَّةً للأهواء ومطـيَّةً لما يُراد من الأحكام ذلك كل هو أعظم انحرافٍ, عن كتاب الله - عز وجل -.
فالله الله في كتاب الله، والله الله في القرآن الله الله في هذه الأيام المباركة والليالي العاطرة أن نحيي قلوبنا بالقرآن أن نديم التلاوة، وأن نحرص على التدبٌّر وأن نجتهد في العمل، وأن نُشيع أخلاق القرآن فيما بيننا وأن نتواصى ونتعاهد أن نجدِّدَّ سيرة أسلافنا، وأن نحكي ما كان عليه الصحابة - رضوان الله عليهم - فنقدِّم مَن قُـدِّم بالقرآن ونُجلَّ مَن أُجلَّ بالقرآن ونجعل لأهل القرآن منـزلتهم ونسعى إلى أن نحقق حياة القرآن، وحكم القرآن، وأخلاق القرآن، وآداب القرآن في نفوسنا وفي أسرنا أولاً، ثم بعد ذلك أن نُشيع ذلك فيمن حولنا من جيراننا وأقربائنا وسائر مجتمعنا.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد