بسم الله الرحمن الرحيم
ملخص الخطبة:
1- العبرة في تصرم الليالي والأيام. 2- المحاسبة على فوات الأعمار في غير طاعة الله. 3- اغتنام الأوقات في طاعة الله.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله - تعالى -وتبصّروا في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم، وكل يومٍ, يمرُ بكم فإنه يبعدكم عن الدنيا ويقربكم من الآخرة، فطوبى لعبدٍ, اغتنم فرصها بما يقرّب إلى مولاه، طوبى لعبدٍ, شغلها بالطاعات وتجنب العصيان، طوبى لعبدٍ, اتّعظ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال، طوبى لعبدٍ, استدل بتقلباتها على ما لله فيها من الحكم البالغة والأسرار، يقول الله - تعالى -: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبرَةً لأُولِي الأَبصَارِ) [النور: 44]. ألم تروا إلى هذه الشهور تهلُ فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال، ثم تنمو رويدًا رويدا كما تنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموّها أخذت بالنقص والاضمحلال؟! وهكذا عمر الإنسان سواء، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
عباد الله، ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدّد عامًا بعد عام، فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسانُ إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمرّ به الأيامُ سِراعًا فينصرم العام كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام، وهكذا عمر الإنسان، يتطلع إلى آخره تطلعَ البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت، يقول جلّ من قائل: (وَجَاءَت سَكرَةُ المَوتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنهُ تَحِيدُ) [ق: 19]. ربما يؤمل الإنسان بطول العمر، ويتسلى بالأماني، فإذا بحبل الأمل قد انصرم، وببناء الأماني قد انهدم.
أيها الناس، إنكم في هذه الأيام تودعون عامًا ماضيًا شهيدًا، وتستقبلون عامًا مقبلاً جديدًا، فليت شعري ماذا أودعتم في العام الماضي؟! وبماذا تستقبلون هذا العام الجديد؟! فليحاسب العاقل نفسه ولينظر في أمره، فإن كان قد فرّط في شيءٍ, من الواجبات فليتب إلى الله وليتدارك ما فات، وإن كان ظالمًا لنفسه بفعل المعاصي والمحرّمات فليقلع عنها قبل حلول الأجل والفوات، وإن كان ممن منّ الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات عليها إلى الممات.
إخواني، ليس الإيمان بالتمنّي ولا بالتحلي، وليست التوبة مجرد قول باللسان من غير تخلِّي، إنما الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وإنما التوبة ندم على ما مضى من العيوب، وإقلاعٌ عما كان عليه من الذنوب، وإنابة إلى الله بإصلاح العمل ومراقبةِ علامِ الغيوب، فحققوا ـ أيها المسلمون ـ الإيمان والتوبة، فإنكم في زمن الإمكان.
وعظَ النبيُ رجلاً فقال: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)). ففي الشباب قوةٌ وعزيمة، فإذا هرِم الإنسان وشاب ضعفت القوة وفترت العزيمة. وفي الصحة نشاط وانبساط، فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه وضاقت نفسه وثقلت عليه الأعمال. وفي الغنى راحةٌ وفراغ، فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه والعيال. وفي الحياة ميدانٌ فسيحٌ لصالح الأعمال، فإذا مات العبد انقطعت عنه أوقات الإمكان. قال علي بين أبي طالب: (ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل).
عباد الله، اعتبروا ما بقي من أعماركم بما مضى منها، واعلموا أن كل آتٍ, قريب، وأن كل موجودٍ, منكم زائلٌ فقيد، فابتدروا الأعمال قبل الزوال.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ رَبَّكُم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ, ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ يُدَبِّرُ الأَمرَ مَا مِن شَفِيعٍ, إِلاَّ مِن بَعدِ إِذنِهِ ذَلِكُم اللَّهُ رَبٌّكُم فَاعبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيهِ مَرجِعُكُم جَمِيعًا وَعدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبدَأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالقِسطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُم شَرَابٌ مِن حَمِيمٍ, وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ, يَعلَمُونَ إِنَّ فِي اختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ لآيَاتٍ, لِقَومٍ, يَتَّقُونَ) [يونس: 3-6].
عباد الله، ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي قال له: ((اقرأ عليّ القرآن))، فقال: أقرأُ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري))، فقرأ من سورة النساء حتى بلغ قوله الله: فَكَيفَ إِذَا جِئنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ, بِشَهِيدٍ, وَجِئنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] فقال: ((حسبك))، فإذا عيناه تذرفان. وقد ثبت عنه أنه كان إذا صلى سُمع لصدره أزيزٌ كأزيزِ المرجل من البكاء، أي: كصوت القدر إذا اشتد غليانه. هذا هو رسول الله فكيف بنا نحن؟!
اللهم أعنّا على أنفسنا بفعل الطاعات وترك المنكرات، اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده - سبحانه - على جوده وإحسانه، يغيث المستغيثين ويجيب دعوة المضطرين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور.
أما بعد: معاشر المسلمين، إن تعاقب الشهور والأعوام على العبد قد يكون نعمة له أو نقمة عليه، فطول العمر ليس نعمةً هكذا، فإذا طال عمر العبد ولم يعمره بالخير فإنما هو يستكثر من حجج الله - تعالى -عليه، عن أبي بكر أنه قال: قال رسول الله: ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله)).
أيها المسلمين، إن هذا العام الذي ولى مدبرًا قد ذهب ظرفه وبقي مظروفه بما أودع فيه العباد من الأعمال، وسيرى كل عاملٍ, عمله، (يَومَ تَجِدُ كُلٌّ نَفسٍ, مَا عَمِلَت مِن خَيرٍ, مُحضَرًا وَمَا عَمِلَت مِن سُوءٍ, تَوَدٌّ لَو أَنَّ بَينَهَا وَبَينَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران: 30]، سيرى كل عاملٍ, عمله،(لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ, وَيَحيَا مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ,) [الأنفال: 42]، وَمَا رَبٌّكَ بِظَلاَّمٍ, لِلعَبِيدِ [فصلت: 46]، سيسأل العبد عن جميع شؤونه في الدنيا وربه أعلم به، ولكن ليكون الإنسان على نفسه بصيرة. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ((لا تزول قدما عبدٍ, حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ما فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟)). فالحذر الحذر من التفريط ومن التسويف.
ندِمتُ على ما كان مني ندامة ***ومن يتبع ما تشتهي النفس يندم
ألم تعلموا أن الحساب أمامكم وأن وراءكم طالبًا ليس يسأم؟! فخافوا لكي تأمنوا بعد موتكم، ستلقون ربًا عادلاً ليس يظلم، فليس لمغرورٍ, بدنياه راحة، سيندم إن زلّت به النعل. فاعلم يا من ضيّع عمره فيما لا ينفع، أما تعلم أنك تستكثر الأثقال على نفسك وتزيد حجة الله عليك؟ فكم مرّ عليك من الأعوامِ وأنت تتمتع بثوب الصحة والعافية، ومع هذا وذلك لم تردّ زكاة صحتك وعافيتك، بل أصبحت مغبونًا فيهما، لما ضاع عليك من الأعمال دون استثمار وتحصيلٍ, للآخرة، عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله: ((نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغ)). والعجب أن بعض الناس يتفقد صحته صباح مساء، ولا يدخر جهدًا ولا مالاً ولا وسعًا في الذهاب إلى المستشفيات كلما أحس بشيء، وهذا من فعل الأسباب المشروعة، لكن أن تراه غافلاً عن إصلاح قلبه وجوارحه وربما يشب ويشيب ويموت على ذلك فهذه هي الكارثة. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
نسألك اللهم أن تصلح قلوبنا، وأن تسخّر جوارحنا في مرضاتك. اللهم وفّق حكامنا وعلماءنا وشيبنا وشبابنا. اللهم اجعلنا ممن طالت أعمارهم وحسنت أعمالهم، ولا تجعلنا ممن طالت أعمارهم وساءت أعمالهم. اللهم أوزعنا شكر نعمتك، وألبسنا لباس التقوى. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين. اللهم اجعل عامنا الجديد عام صلاح وفلاح للإسلام وجميع المسلمين...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد