بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الناظر للواقع المزري الذي تعيشه الأمة اليوم في باب تعدد الفتوى في النازلة، واعتداء بعض على بعض بالثلب والتجهيل والتفسيق والتبديع.
أمر يفتّ الفؤاد ألماًº إذ يتنازع الناس ويتفنون في ضرب القرآن بعضه ببعض - إلا من رحم ربك وقليل ماهم - ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
وما ذاك إلا من قلّة الفقه في الدين، ومن عدم تعظيم نصوص الوحي استدلالا ومنهجاً وسلوكاً.
حتى لقد صرت ترى من آثار هذا التخبط أن أصبح كل ذي لسان يتحدّث في أمور العامة تصنيفاً وتبديعاً وتفسيقاً وشجباً وإدانة واستنكاراً!
فلا تستغرب في هذا الزمن أن تجد:
صحفياً..
أو مراسلاً..
أو لاعباً
أو فناناً..
أو بطل مسلسل...
يتحدث في أمور العامة، ويُلقي بالأحكام وتصنيف الناس جزافاً. وما تلك إلا من الفتنة واتباع سبيل الشيطان التي أخبر الله - تعالى - عنها بقوله: \" وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدٌّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم وَلَولا فَضلُ اللَّهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لَاتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ إِلَّا قَلِيلاً \" (النساء:83).
وإن مما عمّ الجهل به علماً وفقهاً وسلوكاً قاعدة (سد الذرائع) والتي صرت - اليوم - تجد كثيراً من الخلط الواقع فيها بين شدّة التضييق بحجة (سد الذريعة) وفجوة التمييع بحجة (فتح الذريعة).
الأمر الذي يحتّم على أهل العلم والبصيرة، الغيورين على دينهم وأمتهم وضع تصوّر منهجي يخفف - على أقل تقدير - من حدّة ما تعانيه الأمة في موجهيها وأهل الحل والعقد منهم، الذين حمّلهم الله أمانة العلم والصدق في تبليغه للناس: \" وَإِذ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِم وَاشتَرَوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئسَ مَا يَشتَرُونَ \" (آل عمران:187).
\" إِنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ مَا أَنزَلنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ\" (البقرة:159).
وإن كنت لا أزعم أني صاحب السبق في طرح هذا التصور المنهجي، لكني أتمنى أن أكون قد فتحت باباً لأهل الاختصاص في هذا المجال أن يعيدوا النظر في أطروحاتهم فيما يتعلق بمثل هذه القواعد الشرعية، التي لا زالت تدرّس على أنها تراث - للمعلومات فقط - بعيدا عن الواقع والنظرة الواعية للعصر وما يجدّ فيه من أمور، مما يفتح باباً وذريعة لتعالم طائفة من الناس جُعلت في مواطن التوجيه - ظلماً -!
وقد أحرص في هذه الأطروحة أن تكون على نقاط وخطوط عريضة بعيداً عن تنزيل الأحكام وتحقيق مناطها على حادثة أو واقعة أو نازلة، إذ الخوض في هذا من مثلي جناية وتعالم - ورحم الله امرء عرف قدر نفسه -!
التعريف اللغوي:
القاعدة مكونة من كلمتين: (سد الذرائع).
السد:
الحائل وإغلاق الخلل. ومن ذلك قوله: \" قَالُوا يَا ذَا القَرنَينِ إِنَّ يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ مُفسِدُونَ فِي الأَرضِ فَهَل نَجعَلُ لَكَ خَرجاً عَلَى أَن تَجعَلَ بَينَنَا وَبَينَهُم سَدّاً \" (الكهف:94).
وقوله: \" وَجَعَلنَا مِن بَينِ أَيدِيهِم سَدّاً وَمِن خَلفِهِم سَدّاً فَأَغشَينَاهُم فَهُم لا يُبصِرُونَ\" (يّس:9).
الذريعة:
قال في لسان العرب: الذَّرِيعة: الوسيلة المفضية إلى الشّيء، وقد تَذَرَّع فلان بذَريعةٍ, أَي توسَّل، والجمع الذرائعُ.
يقال: فلان ذريعتي إليك أي سببي وَصِلَتي الّذي أتسبّب به إليك. والذّريعة السّبب إلى الشّيء، وأصله أنّ الذّريعة في كلامهم جَمَلٌ يُختَلُ به الصّيد يمشي الصّيّاد إلى جنبه فيستتر ويرمي الصّيد إذا أمكنه، وذلك الجمل يُسَيَّبٌ أوّلاً مع الوحش حتّى تألفه.
ويمكن القول أن في الذريعة معنى التحايل والمخاتلة.
التعريف الاصطلاحي:
بالنظر إلى التعريف اللغوي للذريعة يتبين أن بين الوسيلة والذريعة اتفاق من جهة المعنى العام، وهي ما يتوصل به إلى الشيء.
سواء كان هذا الشيء مصلحة أو مفسدة.
وهذا هو المعنى العام للذريعة.
لكن اصطلح الفقهاء على أن الذرائع هي: الطرق المفضية إلى المفاسد - خاصة -. أو هي: الأشياء الّتي ظاهرها الإباحة ويتوصّل بها إلى فعل محظور.
قال القرطبى:.. [ عند بيان الآية 104 من سورة البقرة] والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع....
ومعنى سدّ الذّريعة: حسم مادّة وسائل الفساد دفعاً لها إذا كان الفعل السّالم من المفسدة وسيلةً إلى مفسدة - وإن لم يُقصد بها المفسدة -.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: والذريعة: ما كانت وسيلة وطريقاً إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم - ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة - ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم أ. ه – الفتاوى الكبرى 6 / 172.
دليل اعتبارها:
قاعدة سدّ الذرائع هي من القواعد المختلف فيها بين أهل العلم من جهة اعتبار كونها دليلاً شرعياً يصحّ بها التحليل والتحريم.
فمن خالف إنما خالف في اعتبارها على استقلال، ويقولون في شرط اعتبارها: لا بدّ من فضل خاصّ يقتضي اعتبارها أو إلغاءها.
وقد ساق الإمام ابن القيم - رحمه الله - تسعة وتسعين دليلاً على اعتبارها (أعلام الموقعين 3 / 177 - 205).
وساق الإمام الشاطبي - رحمه الله - اتفاق السلف على أصل سد الذريعة. (الموافقات 3 / 193) والخلاف بينهم إنما هو في تحقيق مناط هذه القاعدة في بعض الجزئيات (نظرية المصلحة ص 266)
وقد عُلم بالاستقراء أن موارد التّحريم في الكتاب والسّنّة يظهر أنّ المحرّمات منها ما هو محرّم تحريم المقاصد، كتحريم الشّرك والزّنى وشرب الخمر والقتل العدوان، ومنها ما هو تحريم للوسائل والذّرائع الموصّلة لذلك والمسهّلة له.
قال الله - تعالى -: {وَلاَ تَسُبٌّوا الَّذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبٌّوا اللّهَ عَدوًا بِغَيرِ عِلمٍ,}، قالوا: نهى تبارك وتعالى عن سبّ آلهة الكفّار لئلاّ يكون ذلك ذريعةً إلى سبّ اللّه - تعالى - ، ونهى اللّه - سبحانه - عن كلمة (راعنا) بقوله - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرنَا} لئلاّ يكون ذلك ذريعةً لليهود إلى سبّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأنّ كلمة \" راعنا \" في لغتهم سبّ للمخاطب.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ».
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: « الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من النّاس، فمن اتّقى المشبّهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في المشبّهات كان كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإنّ لكلّ ملك حمًى، ألا وإنّ حمى اللّه في أرضه محارمه».
وقال ابن رشد: إنّ أبواب الذّرائع في الكتاب والسّنّة يطول ذكرها ولا يمكن حصرها.
قيود منع الذريعة:
1 - أن يؤدي الفعل المأذون فيه إلى مفسدة قطعاً.
2 - أن تكون تلك المفسدة راجحة على مصلحة الفعل المأذون فيه.
3 - أن يكون أداء الفعل المأذون فيه حيلة إلى المفسدة غالباً.
ما هي المفسدة التي تُسدّ ذريعتها؟
المفسدة ضد المصلحة.
وهي كل ما عُلم مفسدتها بطريق الشرع.
ومن المعلوم أن الدين جاء ليحفظ ضرورياته الخمس:
(الدين، النفس، العقل، المال، النسب - أو النسل). فكل ما أفسد هذه الضروريات أو أحد منها باعتبار الشرع فهو مفسدة.
وليس لأحد أن يحدد مصلحة أو مفسدة لأمر ما بمجرد عقله وهواه، إذ أن ذلك من خصوصيات الشرع، ومعلوم عند كل عاقل أن العقل السليم يوافق النقل الصحيح.
الخلاصة:
نخلص من ذلك إلى أمور:
- الذرائع: لها معنيان: عام وخاص.
- الذرائع: فيها معنى التحايل والمخاتلة.
- الذرائع: صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم.
- لا يلزم من منع الذريعة أن يُقصد بها المحرم.
- أن الذريعة في الأصل أمر مباح في الشرع.
- المقصود من سد الذرائع: حسم مادّة وسائل الفساد وإبطال الحيل.
- الأخذ بالعزائم ضمانة حقيقية لسد الذرائع، بينما يؤدي تتبع الرخص إلى التهاون أحياناً في بعض شرائع الدين.
- كما أن الشريعة جاءت بسدّ الذرائع فقد جاءت بفتحها (فتح الذرائع) وتسمى (الوسائل).
- (فتح الذرائع) متوقف على اعتبار أن المصلحة المتوسل إليها مصلحة شرعية لا مصلحة الهوى والتشهّي.
- المصلحة والمفسدة لا يمكن للعقل أن يدركهما على استقلال إلا باعتبار الشرع لهما، فما اعتبره الشرع مصلحة فهو مصلحة، وما اعتبره مفسدة فهو مفسدة على ضوء الأدلة الشرعية.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح قلوبنا، وأن يجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد