لماذا أبقى الصحابة الصور في قصر كسرى؟


بسم الله الرحمن الرحيم

 
قال الطبري في تاريخه (2464):[لما دخل سعد المدائن فرأى خلوتها، وانتهى إلى إيوان كسرى، أقبل يقرأ: {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين}.

وصلى فيه صلاة الفتح، ولا تصلى جماعة. فصلى ثماني ركعات لا يفصل بينهن.

واتخذه مسجداً. وفيه تماثيل الجص: رجال وخيل. ولم يمتنع – ولا المسلمون لذلك – وتركوها على حالها. قالوا: وأتم سعد الصلاة يوم دخلها، وذلك أنه أراد المقام فيها. وكانت أول جمعة بالعراق جمعت جماعة بالمدائن في سنة ست عشرة].

 

وقد ذكر الطبري كذلك أن الحسن - رضي الله عنه - في أثناء خلافته قد نزل في قصر كسرى.

وقد بقي القصر كما هو حتى عهد أبي جعفر المنصور حيث حاول أخذ بعض أحجاره،

ليس لسبب ديني، وإنما ليستفيد منها في بناء بغداد. ثم إنه عدل عن الفكرة.

 

وقال الطبري في تاريخه (4478): [عن علي بن عصمة أن خالد بن برمك خط مدينة أبي جعفر (المنصور، وهي مدينة بغداد) له، وأشار بها عليه. فلما احتاج إلى الأنقاض، قال له: ما ترى في نقض بناء مدينة إيوان كسرى بالمدائن، وحمل نقضه إلى مدينتي هذه؟ قال: لا أرى ذلك يا أمير المؤمنين. قال: ولم؟ قال: لأنه عَلَمٌ من أعلام الإسلام، يستدِلٌّ به الناظر إليه على أنه لم يكن ليُزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنما هو على أمر دين. ومع هذا يا أمير المؤمنين فإن فيه مصلى علي بن أبي طالب - صلوات الله عليه -. قال: هيهات يا خالد. أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم. وأمر أن ينقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه وحمل نقضه. فنظر في مقدار ما يلزمهم للنقض والحمل، فوجدوا ذلك أكثر من ثمن الجديد لو عمل. فرفع ذلك إلى المنصور، فدعا بخالد بن برمك، فأعلمه ما يلزمهم في نقضه وحمله، وقال: ما ترى؟

قال: يا أمير المؤمنين، قد كنتُ أَرَى قبل ألا تفعل. فأما إذا فعلت، فإني أرى أن تهدم الآن حتى تلحق بقواعده، لئلا يُقال إنك قد عجزت عن هدمه. فأعرض المنصور عن ذلك، وأمر ألا يُهدم].

 

وكانت على جدران إيوان كسرى صور ملونة بالحجم الطبيعي، مرسومة بدقة فائقة. وما تزال هذه الصور إلى يومنا هذا. فهذه لم تكن مدفونة في الرمل طبعاً، بل هذا القصر دخله عدد من الصحابة وأقاموا فيه. فكيف لم يروا الصور وهي واضحة ما تزال لهذا اليوم؟! أما عدم القدرة على الهدم، فبديله الطمس (أي للصور).

وهذا لا يحتاج لا لنفقة كبيرة ولا لتسخير عدد هائل من الناس. ومن السهل أن يأمر الحاكم بطلي الجدران من جديد. فلم يبق إلا أنهم فهموا أحاديث طمس الصور بأنها خاصة بما كانت له قدسية أو ما كان يعبد من غير الله.

 

وهذه الصور استمرت مشاهدة يصفها المؤرخون والأدباء. قال ياقوت الحموي في معجم البلدان (1295): [وقد كان في الإيوان صورة كسرى أنو شروان، وقيصر ملك أنطاكية، وهو يحاصرها ويحارب أهلها]. وقد وصفها الشاعر العباسي الشهير البحتري في قصيدته السينية الرائعة. وكان عبد الله بن المعتز يقول: [لو لم يكن للبحتري: من قصيدته السينية في وصف إيوان كسرى – فليس للعرب سينية مثلها – وقصيدته في وصف البركة، لكان أشعر الناس في زمانه]. فيصور لنا البحتري هذه الصور بأنها من الدقة بحيث يكاد يتخيلها حقيقة فيلمسها بيده ليتأكد أنها مجرد صورة. فيقول في قصيدته:

 

فإذا ما رأيت صورة أنطاكية * * * ارتعت بين روم وفرس

والمنايا مواثل وأنوشروان * * * يزجي الصفوف تحت الدرفس

في اخضرار من اللباس على أصفر * * * يختال في صبيغة ورس

وعراك الرجال بين يديه * * * في خفوت منهم وإغماض جرس

من مشيح يهوي بعامل رمح * * * ومليح من السنان بترس

تصف العين أنهم جد أحياء * * * لهم بينهم إشارة خرس

يغتلي فيهم ارتيابي حتى * * * تتقراهم يداي بلمس

 

فلم أبقوا تلك الصور؟

 

الجواب:

أما بعد..

آمل منك أن تراجع الجواب على السؤال الأول ففيه –إن شاء الله- غنية عن تكرار ذكر الأدلة من السنة النبوية، وخاصة ما روى مسلم في صحيحه: عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)). وذكرت كلام الحافظ ابن حجر - رحمه الله - هناك، وهذا الأمر من أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -لقائده أبي الهياج الأسدي وهو بالعراق، ولكن –كما ذكر أهل التأريخ- لم تكن وسائل إزالة الصور الكبيرة والتماثيل متوافرة عندهم بالصورة التي تجعلها سهلة كما نظن، بل قد رأيت كيف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد طمس الصور التي في الكعبة لم يجد إلا خرقة يبلها بالماء ويضرب بها الصور، وهو قائد الجيش وحاكم الدولة، فكيف بغيره من الناس؟ وقد رأيت كيف أن إزالة تلك التماثيل في زمن الدولة العباسية كاد يودي بخزينة الدولة كلها، وهي تحكم العالم في ذلك الزمن، وتعد أغنى دول المسلمين.

 

لذلك كان لزاماً على كل متحدث عن هذه القضايا أن لا يقيسها بالإمكانات التي توافرت لنا في زمننا، ومع ذلك انظر كم كلف نسف تماثيل بوذا الموجودة في أفغانستان من متفجرات وألغام وأموال حتى تمكنوا من نسفها في وقت ليس بالقصير.

 

ومع كل ذلك فالعبرة بقول وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو المشرع، وقوله شرعنا الذي نأخذ منه الأحكام، وأما فعل غيره فتحفه أمور كثيرة قد تمنعه من القيام بالواجبº كالعجز والانشغال بالفتوحات وضعف الإمكانات وقلة الأموال.

 

والله الموفق.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply