قاعدة التثبت


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تعريف

التبين والتثبت صفة لأهل اليقين من المؤمنين وبسبب هذه الصفة التي فيهم، يبين الله لهم الآيات والعلامات في الأمم التي مضت، حتى يستخرجوا العبر التي تقيهم ما وقع به غيرهم من غضب الله - تعالى -. لذلك يقول - سبحانه -: (قد بينا الآيات لقوم يوقنون) [البقرة 118].

يقول الإمام الطبري: ((وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون، لأنهم أهل التثبت في الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة، فأخبر الله جل ثناؤه أنه بين لمن كانت هذه الصفة صفته ما بين من ذلك، ليزول شكه، ويعلم حقيقة الأمر)).

ويقول الشيخ صديق حسن خان: ((قرأ الجمهور فتبينوا من التبين، وقرئ فتثبتوا من التثبت، والمراد من التبين التعرف والتفحص ومن التثبت الأناة وعدم العجلة والتبصر بالأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر)).

ويقول الشيخ الشرباصي ((تبين الأمور فيه معنى التبصر والاستيضاح، والتأكد من الأمر قبل الحكم له أو عليه. ولذلك تقول اللغة: بأن الشيء يبين بيانا فهو مبين: أي اتضح يتضح اتضاحا فهو واضح، والبينة هي العلامة التي توضح الشيء، سواء كان حسيا أم عقليا، وبينت الشيء: أوضحته أو أظهرته وتبين القوم الأمر: تدبروه على مهل غير متعجلين، ليظهر لهم جليا)).

 

•           التأني يقي مصارع الدعاة..

ذكر الله - تعالى -في كتابه الكريم حاثا الدعاة على التخلق بهذا الخلق قوله - تعالى -: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) [الحجرات 6].وليؤكد لهم أن هذا أصل لا بد منه من أصول الإنكار.فإننا نسمع كثيرا عن معاصي يقترفها بعض الناس. وربما سمعنا ذلك من أناس قد التزموا اتباع السنة في مظاهرهم. وقد يكونون في بعض الأحيان من الملتزمين مع جماعة صالحة، ونسارع في تصديقهم، واتخاذ موقف من زيد أو عمر دون أن نتثبت. لذلك جاءت هذه الآية لتكون قاعدة من قواعد فقه الإنكار.

وكان سبب نزول هذه الآيات ما أخرجه الإمام أحمد ((عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله ? فدعاني إلى الإسلام فأقررت به ودخلت فيه، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت يا رسول الله أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة. فمن استجاب لي جمعت زكاته فيرسل إلي رسول الله ? رسولا لأبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الأبان الذي أراد رسول الله ? أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأته فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله - عز وجل - ورسوله ? فدعا سروات قومهم فقال لهم إن رسول الله ? كان وقت وقتا يرسل إلي رسوله يقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله ? الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت. فانطلقوا فنأتي رسول الله ? وبعث رسول الله ? الوليد بن عقبة ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق، فرق فرجع فأتى رسول الله ? فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب رسول الله ? البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه إذا استقبل البعث وفصل من المدينة فلقيهم الحارث. فقالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم: أين بعثتم؟، قالوا: إليك، قال: ولم؟، قالوا: إن رسول الله ? كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم إنك منعته الزكاة، وأردت قتله. قال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته البتة ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله ? قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي. قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته البتة ولا أتاني، وما احتبست إلا حين احتبس علي رسول رسول الله ?، حسبت أن يكون كانت سخطة من الله - عز وجل - ورسوله، قال فنزلت الحجرات (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين. ) إلى هذا المكان (فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم).

 

•           سبب التحذير…

وسبب تحذير الله - سبحانه وتعالى - المؤمنين من التسرع، وتنبيههم للتثبت قبل اتخاذ الموقف. بينه - سبحانه وتعالى – بقوله: (أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) [الحجرات 6]. أي ((لئلا تصيبوا قوما من الناس الأبرياء. وأنتم تجهلون حقيقة الأمر. فتصيروا بعد ظهور براءتهم نادمين على ما ارتكبتم في حقهم. مغتمين عما يلازمكم، وتتمنوا أن ذلك لم يقع منكم، لأن الندم هو الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه)).

وهذا الغم الذي يصيب المؤمنين بسبب تعجلهم إنما هو نتيجة ما يأمر بع الشيطان، ليجعلهم في حزن وأذى، وليساعد على تفككهم بنشر الأحقاد فيما بينهم وانتزاع الثقة وحسن الظن التي تجمعهم، لذا قال النبي: ((التأني من الله، والعجلة من الشيطان))[أخرجه البيهقي وحسنه الألباني].

قال الإمام ابن القيم: ((إنما كانت العجلة من الشيطان، لأنها خفة وطيش، وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم. وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور وتمنع الخيور. وهي متولدة بين خلقين مذمومين، التفريق والاستعجال قلب الوقت)).

 

•           فراق الخضر..

الأنبياء والرسل هم صفوة الخلق وهم القدوة في قومهم. ولا بد أن تتوفر فيهم صفة التثبت كصفة أساسية حتى يتمكنوا بوضع الأشياء في محلها، وحتى تنتفي منهم صفة الظلم، ولأن صفة التسرع والطيش وعدم التثبت ليس من صفات الكاملين، لذلك ربى الله - سبحانه وتعالى - أنبياءه على هذه الصفة ليكونوا قدوات يحتذي بهم ورثة الأنبياء من الدعاة من بعدهم، ومن بين هؤلاء الرسل موسى - عليه السلام - في قصته مع الرجل الصالح ((الخضر))، لقد أخذ الخضر من موسى - عليه السلام - عهدا وشرطا إن أراد صحبته ليتعلم من العلم الذي أعطاه الله، ألا يسأله عن شيء حتى يوضحه له، ومع موافقة موسى - عليه السلام - على الشرط بأن لا يتسرع بالإنكار على الخضر عندما يقوم ببعض الأمور التي يبدو في ظاهرها المنكر. قبل أن يسمع من الخضر حقيقة ما يقوم به ((إن الخضر يخرق السفينة التي حملتهما، وأركبهما صاحبها من غير نول. ولكن الخضر يكافئ يده بضدها ويتسبب على ما كان يظهر لموسى في غرق ركابها الوادعين، ويقتل غلاما زكيا لم يسئ إليهما، ولم يسئ أبواه، وبالعكس من ذلك يقيم جدارا يريد أن ينقض من غير أجرة يتقاضاها، وذلك في قرية لم يضيفهما أهلها، ولم يعرفوا حقهما، هذه كلها تصرفات غريبة من الخضر، تثير في موسى الاستغراب والدهشة، وتحمله على الإنكار والسؤال مرة بعد مرة)).

كان على موسى - عليه السلام - أن يتريث حتى يوضح له الخضر أسباب وحقائق ما يقوم به، حتى يحصل على أكبر قدر من العلم من ذلك الرجل الصالح، الأمر الذي جعل الخضر يذكره بعدم التسرع بعد كل إنكار كان يقوم به موسى - عليه السلام -. مذكرا له بالشرط الذي اشترطه عليه في بداية اللقاء حتى قرر الخضر المفارقة لأن موسى لم يلتزم بالشرط فحرم بسبب تسرعه علما كثيرا (قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) [الكهف 78]. فرد عليه أسباب قيامه بخرق السفينة وقتل الغلام، وبناء الجدار، كما جاء في سورة الكهف، وعلى غير ما بدا في ظاهرها، ليعلم الدعاة من هذه القصة دروسا في التأني والتثبت قبل الإنكار. وليعلموا أن من امتثل هذه الصفة. فكأنما حاز على جزء من النبوة، يقول النبي : ((التؤدة والاقتصاد، والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة)) [أخرجه عبد بن حميد والطبراني والترمذي وصححه الألباني].

فأين الهمم التي تتسابق لامتلاك هذه الأجزاء النبوية؟.

 

• سليمان والهدهد..

•           لذلك نرى هذه الصفة واضحة في سليمان - عليه السلام -، وذلك في قصته مع الهدهد إذ يقول - سبحانه وتعالى -: (وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين. لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) [النمل 20 - 21].

يقول سيد - رحمه الله -: ((ومن ثم نجد سليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف: (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه) ولكن سليمان ليس ملكا جبارا في الأرض، إنما هو نبي، وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيا قبل أن يسمع منه، ويتبين عذره… ومن ثم تبرز سمة النبي العادل: (أو ليأتيني بسلطان مبين) أي حجة قوية توضح عذره، وتنفي المؤاخذة عنه)).

إن الأناة والتثبت صفة جميلة يحبها الله، وتكون أجمل إذا جاءت من القادر على العقاب، واتخاذ القرار، لهذا قال الشاعر ابن هانئ المغربي:

وكل أنــــاة في المـــواطن سؤدد * * *   ولا كأنــــاة من قــــدير محكم

ومن يتبين أن للصـــفح موضعـــا  * * *  من السيف يصــفح عن كثـير ويحلم

ومـــا الرأي إلا بعد طـــول تثبت  * * *  ولا الحزم إلا بعد طـــول تلـــوم

 

•الاستخبار قبل الإنكار..

ومن فقه قصة الخضر مع موسى وسليمان مع الهدهد وغيرها من التوجيهات القرآنية والنبوية، استنبط العلماء أحكاما في الإنكار، والتي منها ما نحن بصدده من التثبت والتروي والاستخبار قبل الإنكار، فها هو القاضي أبو يعلى يذكر في الأحكام السلطانية ما يتعلق بالمحتسب ((وإذا رأى وقوف رجل مع امرأة في طريق سالك لم تظهر منها أمارات الريب لم يتعرض عليهما بزجر ولا إنكار، وإن كان الوقوف في طريق خال فخلوا بمكان ريبة فينكرها ولا يعجل في التأديب عليهما حذرا من أن تكون ذات محرم، وليقل ((إن كانت محرم فصنها عن موقف الريبة، وإن كانت أجنبية فاحذر من خلوة تؤديك إلى معصية الله - عز وجل -)) وليكن زجره بحسب الأمارات، وإذا رأى المحتسب من هذه الأمارات ما ينكرها تأنى وفحص وراعى شواهد الحال، ولم يعجل بالإنكار قبل الاستخبار)).

 

•حرمة العلماء..

روى البخاري في صحيحه الحديث القدسي فيما يرويه الرسول – صلى الله عليه وسلم- عن ربه: ((من عادى لي وليا آذنته بالحرب.. )) [رواه البخاري].

فإذا كان الأمر بالتثبت لعامة المسلمين واجبا ففي العلماء أوجب، ذلك لما يؤثره التسرع باتهامهم من حرمان العوام من علمهم، أو ظن السوء فيهم وربما كانوا منه براء لذلك على القائمين بأمر الإنكار أن يتثبتوا إذا سمعوا أو قرأوا ما يمس أحد العلماء وألا يخوض فيما يخوض به الآخرون، ثم يندم إما في الدنيا إذا تبينت له الحقائق وإما بالآخرة حيث سيقف خصما لذلك العالم وهو يطلب من الله جل جلاله أن ينصفه مما اتهمه فيه من تهم باطله دون أن يتثبت وحتى لا نقع في هذه المحذورات، وضع الإمام السبكي في طبقات الشافعية قاعدة ذهبية في تجريح العلماء، إذا قال: ((الصواب عندنا أن من تثبت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه، من تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة، وإلا لو فتحنا هذا الباب أو أخذنا تقديم الجرح على إطلاقه، لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون، وقد عقد الحافظ أبو عمرو بن عبد البر في كتاب العلم بابا في حكم قول العلماء بعضهم في بعض وروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في زروبها وعن مالك بن دينار يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض.

ولعل ابن عبد البر يرى هذا، ولا بأس به، غير أنا لا نأخذ به على إطلاقه ولن نرى أن الضابط ما نقوله من أن ثابت العدالة لا يلتفت فيه إلى قول من تشهد القرائن بأنه متحامل عليه إما لتعصب مذهبي أو غيره. ثم قال ابن عبد البر قمن أراد قبول قول العلماء الثقات بعضهم في بعض، فليقبل قول الصحابة بعضهم في بعض، فإن فعل ذلك فقد ضل ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا، فنقول مثلا، لا يلتفت إلى كلام ابن أبي ذئب في مالك، وابن معين في الشافعي، والنسائي في أحمد بن صالح، لأن هؤلاء أئمة مشهورون، صار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب لو صح لتوفرت الدواعي إلى نقله ومن أمثلة ما قدمنا، قول بعضهم في البخاري تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ، فيا لله والمسلمين أيجوز لأحد أن يقول البخاري متروك، وهو حامل لواء الصناعة، ومقدم أهل السنة والجماعة)).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply