القلب المنور


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:

فإن القلب مستودع العلم والإيمان، ومنبِض الحب والخوف والرجاء، ومحل نظر الرب من العبد كما جاء في الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم) وهو عنوان صلاح العبد، أو فسادهº كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) فإن كان نقياً، زكياً، سليماً، أدى وظيفته التي خلق من أجلها، وإن كان غافلاً، معرضاً، زائغاً، تعطلت وظائفه، وصار بمنزلة اليد الشلاء، والعين العمياء، والأذن الصماء. وذلك أن القلوب ثلاثة:

أحدها: قلب حي، سليم، بصير، مطمئن، مخبت، مهدي، منور، فيه مثل السراج يزهر: وهو قلب المؤمن. قال - تعالى -: (إلا من أتى الله بقلب سليم) الشعراء: 89، وقال: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) الرعد: 28، وقال: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) التغابن: 11

الثاني: قلب ميت، قاسٍ,، منكِر، زائغ، أعمى، مظلم، مطبوع عليه: وهو قلب الكافر. قال - تعالى -: (وجعلنا قلوبهم قاسية) المائدة: 13، وقال: (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة) النحل: 22 وقال: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف: 5، وقال: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) الحج: 46

الثالث: قلب مريض، مفتون، مستريب، تمده مادتانº مادة إيمان، ومادة نفاق، فهو لأيهما غلب. فإذا استحكم آل إلى ما قال الله: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) البقرة: 10، وقال: (وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) التوبة: 45

وقد كشف الله تمايز هذه القلوب الثلاثة عند حلول الفتن، فقال: (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد. وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربهم فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم) الحج: 53-54، فقلب مفتونº وذلك قلب المنافق، وقلب قاسٍ,º وذلك قلب الكافر، وقلب مخبتº وذلك قلب المؤمن.

وكثير من الناس يعتني بصلاح الظاهر، واتباع الآثار، واقتفاء السنن، وإن دقت، وهذا حسن، ولكن لا يوازي ذلك اعتناء بالباطن، وتعاهد مستمر لإصلاح القلب، مما يفضي إلى تحول العبادات إلى ما يشبه العادات، وخلوِّه من الخشوع.

 والآفات والعوالق التي يتعين على السالك إلى الله أن يطهر قلبه منها أنواع:

 أحداها: الشبهات، التي توقع في الكفر، أو الشرك، أو الشك، أو النفاق.

الثانية: الشهوات، التي توقع في الفسق والعصيان.

الثالثة: الغفلات، التي توقع في الجهل والإعراض.

الرابعة: الغل والحسد: اللذان يوقعان في الظلم، والبغي، وسوء الظن.

فهذه الآفات، وآثارها، منافية للتوحيد، أو لكماله الواجب، أو المستحب، بحسب تمكنها من القلب، وتغلغلها فيهº فبعضها يفسده بالكلية، وبعضها يعطله جزئياً، وبعضها يشوش عليه صفاءه. وحين يعافى القلب منها يتحرك حركةً صحيحة، وينبض بتوحيد الحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والخشوع لله - عز وجل -، ثم يثمر ذلك توحيد الاتباع لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، فيستوي الظاهر والباطن، ويستقيم العلم والعمل.

إن هذا المشروعº مشروع التزكية والتربية، مشروع يستغرق العمر كله، وليس له حفل تخرج في هذه الحياة الدنيا، لكن له ثمرات طيبة من عاجل بشرى المؤمن، وجزاء موفور عند الله في الدار الآخرة. وإن أشد الناس حاجة إلى الانخراط الواعي في هذا المشروع، أولئك الذين نصبوا أنفسهم لوراثة الأنبياءº من العلماء، والدعاة، والمصلحين، لتستنير قلوبهم، فتنير قلوب الآخرين.قال - تعالى -: (أو من كان ميتاً فأحييناه، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) الأنعام:122

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply