ويعين العبد على هذا الصبر عدة أشياء:
أحدها: أن يشهد أن الله - سبحانه وتعالى - خالق أفعال العباد حركاتهم وسكناتهم وإراداتهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العلوي والسفلي ذرة إلا بإذنه، ومشيئته والعباد آلة، فانظر إلى الذي سلطهم عليك، ولا تنظر إلى فعلهم بك، تستريح من الهم والغم والحزن.
الثاني: أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلطهم عليه بذنبه، كما قال - تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ, فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ,} فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتغل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطهم عليه، عن ذمهم ولومهم والوقيعة فيهم، وإذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار فاعلم أن مصيبته مصيبة حقيقية، وإذا تاب واستغفر، وقال: هذا بذنوبي، صارت في حقه نعمة.
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كلمة من جواهر الكلام: لا يرجونّ عبدٌ إلا ربه، ولا يخافنّ عبدٌ إلا ذنبه
وروي عنه وعن غيره: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
الثالث: أن يشهد العبد حسن الثواب الذي وعده الله لمن عفى وصبر، كما قال - تعالى -: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ, سَيِّئَةٌ مِثلُهَا فَمَن عَفَا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبٌّ الظَّالِمِينَ}. ولما كان الناس عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالم يأخذ فوق حقه، ومقتصد يأخذ بقدر حقه، ومحسن يعفو ويترك حقه. ذكر الأقسام الثلاثة في هذه الآية فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها للظالمين.
ويشهد نداء المنادي يوم القيامة ألا ليقم من وجب أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفى وأصلح وإذا شهد مع ذلك فوت الأجر بالانتقام والاستيفاء سهل عليه الصبر والعفو.
الرابع: أن يشهد أنه إذا عفى وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه، ونقائه من الغش، والغل، وطلب الانتقام، وإرادة الشر، وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلا وآجلا على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافا مضاعفة، ويدخل في قوله - تعالى -: {وَاللَّهُ يُحِبٌّ المُحسِنِينَ} فيصير محبوبا لله، ويصير حاله حال من أُخِذَ منه دراهم فَعُوِّضَ عنها ألوفاً من الدنانير، فحينئذ يفرح بما مَنَّ الله عليه أعظم فرحٍ, ما يكون.
الخامس: أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلاً [جده] في نفسه، فإذا عفى أعزه الله. وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث يقول: \"ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً\" فالعز الحاصل له بالعفو أحب إليه وأنفع له من العز الحاصل له بالانتقام، فإن هذا عِزُّ في الظاهر وهو يورث في الباطن ذُلاً، والعفو ذل في الباطن وهو يورث العز باطناً وظاهراً.
السادس - وهي من أعظم الفوائد -: أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالم مذنب، وأن من عفى عن الناس عفى الله عنه، ومن غفر غفر الله له، فإذا شهد أن عفوه عنهم وصفحه وإحسانه مع إساءتهم إليه، سبب لأن يجزيه الله كذلك من جنس عمله فيعفو عنه ويصفح ويحسن إليه على ذنوبه، ويسهل عليه عفوه وصبره ويكفي العاقل هذه الفائدة.
السابع: أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه زمانه، وتفرق عليه قلبه، وفاته من مصالحه، ما لا يمكن استدراكه، ولعل هذا يكون أعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهتهم، فإذا عفى وصفح فرغ قلبه وجسمه لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام.
الثامن: أن انتقامه واستيفاءه وانتصاره لنفسه وانتقامه، لها، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما انتقم لنفسه قط فإذا كان هذا خير خلق الله وأكرمهم على الله لم يكن ينتقم لنفسه مع أن أذاه أذًى لله ويتعلق به حقوق الدين، ونفسه أشرف الأنفس، وأزكاها، وأبرها وأبعدها من كل خُلقٍ, مذموم، وأحقها بكل خُلقٍ, جميل، ومع هذا فلم يكن ينتقم لها. فكيف ينتقم أحدنا لنفسه التي هو أعلم بها وبما فيها من العيوب والشرور بل الرجل العارف لا تساوي نفسه عنده أن ينتقم لها، ولا قدر لها عنده يوجب عليه انتصاره لها.
التاسع: إن أوذي على ما فعله لله أو على ما أمره به من طاعته ونهى عنه من معصيته وجب عليه الصبر ولم يكن له الانتقام، فإنه قد أوذي في الله، فأجره على الله، ولهذا لما كان المجاهدون في سبيل الله ذهبت دماؤهم وأموالهم في الله لم تكن مضمونة، فإن الله - تعالى - اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلب الثمن منهم لم يكن له على الله ثمن، فإنه من كان في الله تلفه كان على الله خلفه.
وإن كان قد أوذي على معصية، فليرجع باللوم على نفسه، ويكون في لومه لها شغل عن لومه لمن آذاه.
وإن كان قد أوذي على حضٍ,، فليوطن نفسه على الصبر، فإن نيل الحظوظ دونه أَمرٌ أَمَرٌّ من الصبر، فمن لم يصبر على حر الهواجر، والأمطار، والثلوج، ومشقة الأسفار، ولصوص الطريق، وإلا فلا حاجة له في المتاجر، وهذا أمر معلوم عند الناس أن من صدق في [طلب] شيء من الأشياء بذل من الصبر في تحصيله بقدر صدقه في طلبه.
العاشر: أن يشهد معية الله معه إذا صبر، ومحبة الله له ورضاه، ومن كان الله معه دفع عنه من أنواع الأذى والمضرات ما لا يدفع عنه أحد من خلقه، قال الله - تعالى -: {وَاصبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقال: {وَاللَّهُ يُحِبٌّ الصَّابِرِينَ}.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد